جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{فَلَمَّآ أَنجَىٰهُمۡ إِذَا هُمۡ يَبۡغُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّۗ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّمَا بَغۡيُكُمۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۖ مَّتَٰعَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ ثُمَّ إِلَيۡنَا مَرۡجِعُكُمۡ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ} (23)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَمّآ أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ يَأَيّهَا النّاسُ إِنّمَا بَغْيُكُمْ عَلَىَ أَنفُسِكُمْ مّتَاعَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا ثُمّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } .

يقول تعالى ذكره : فلما أنجى الله هؤلاء الذين ظنوا في البحر أنهم أحيط بهم من الجهد الذي كانوا فيه ، أخلفوا الله ما وعدوه ، وبغوا في الأرض ، فتجاوزوا فيها إلى غير ما أذن الله لهم فيه من الكفر به والعمل بمعاصيه على ظهرها . يقول الله : يا أيها الناس إنما اعتداؤكم الذي تعتدونه على أنفسكم وإياها تظلمون ، وهذا الذي أنتم فيه مَتَاعَ الحَيَاةِ الدّنْيَا يقول : ذلك بلاغ تبلغون به في عاجل دنياكم . وعلى هذا التأويل ، البغي يكون مرفوعا بالعائد من ذكره في قوله : عَلى أنْفُسِكُمْ ويكون قوله : «مَتَاعُ الحَياةِ الدّنْيَا » مرفوعا على معنى : ذلك متاع الحياة الدنيا ، كما قال : لَمْ يَلْبَثُوا إلاّ ساعَةً مِن نَهار بلاغٌ بمعنى : هذا بلاغ ، وقد يحتمل أن يكون معنى ذلك : إنما بغيكم في الحياة الدنيا على أنفسكم ، لأنكم بكفركم تكسبونها غضب الله ، متاع الحياة الدنيا ، كأنه قال : إنما بغيكم متاع الحياة الدنيا ، فيكون «البغي » مرفوعا بالمتاع ، و «على أنفسكم » من صلة «البغي » . وبرفع «المتاع » قرأت القّراء سوى عبد الله بن أبي إسحاق فإنه نصبه بمعنى : إنما بغيكم على أنفسكم متاعا في الحياة الدنيا ، فجعل ، «البغي » مرفوعا بقوله : على أنفُسِكُمْ والمتاع منصوبا على الحال . وقوله : ثُمّ إلَيْنا مَرّجِعُكُمْ يقول : ثم إلينا بعد ذلك معادكم ومصيركم ، وذلك بعد الممات . فَنُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يقول : فنخبركم يوم القيامة بما كنتم تعملون في الدنيا من معاصي الله ، ونجازيكم على أعمالكم التي سلفت منكم في الدنيا .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَلَمَّآ أَنجَىٰهُمۡ إِذَا هُمۡ يَبۡغُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّۗ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّمَا بَغۡيُكُمۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۖ مَّتَٰعَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ ثُمَّ إِلَيۡنَا مَرۡجِعُكُمۡ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ} (23)

{ يبغون } : أي يفسدون ويكفرون ، والبغي : التعدي والأعمال الفاسدة ، ووكد ذلك بقوله : { بغير الحق }{[6071]} ثم ابتدأ بالرجز وذم البغي في أوجز لفظ ، وقوله «متاعُ الحياة » رفع ، وهذه قراءة الجمهور وذلك على خبر الابتداء ، والمبتدأ { بغيكم } ، ويصح أن يرتفع { متاع } على خبر ابتداء مضمر تقديره ذلك متاع أو هو متاع ، وخبر «البغي » قوله { على أنفسكم } ، وقرأ حفص عن عاصم وهارون عن أبي كثير وابن أبي إسحاق : «متاعَ » بالنصب وهو مصدر في موضع الحال من «البغي » وخبر البغي على هذا محذوف تقديره : مذموم أو مكروه ونحو هذا ، ولا يجوز أن يكون الخبر قوله { على أنفسكم } لأنه كان يحول بين المصدر وما عمل فيه بأجنبي ، ويصح أن ينتصب { متاع } بفعل مضمر تقديره : تمتعون متاع الحياة الدنيا ، وقرأ ابن أبي إسحاق . «متاعاً الحياةَ الدنيا » بالنصب فيهما ، ومعنى الآية إنما بغيكم وإفسادكم مضر لكم وهو في حالة الدنيا ثم تلقون عقابه في الآخرة ، قال سفيان بن عيينة : { إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا } أي تعجل لكم عقوبته في الحياة الدنيا ، وعلى هذا قالوا : البغي يصرع أهله .

قال القاضي أبو محمد : وقالوا : الباغي مصروع ، قال الله تعالى { ثم بغي عليه لينصرنه الله }{[6072]} وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «ما من ذنب أسرع عقوبة من بغي »{[6073]} وقرأت فرقة «فننبئكم » على ضمير المعظم المتكلم وقرأت فرقة : «فينبئكم » ، على ضمير الغائب ، والمراد الله عز وجل .


[6071]:-قال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى قوله: (بغير الحق) والبغي لا يكون بحق؟ قلت: بلى، وهو استيلاء المسلمين على أرض الكفرة وهدم دورهم وإحراق زروعهم وقطع أشجارهم كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ببني قريظة. اهـ. وعلّق على ذلك أبو حيان في "البحر" فقال: وكأنه قد شرح قوله تعالى: [يبغون] بأنهم يفسدون ويبعثون مترقين في ذلك ممعنين فيه من: بغى الجراح إذا ترقّى للفساد. ولا يصح أن يقال في المسلمين إنهم باغون على الكفرة إلا إذا ذكر أن أصل البغي هو الطلب مطلقا ولا يتضمن الفساد، وحينئذ ينقسم إلى طلب بحق وطلب بغير حق، ولما حمل ابن عطية البغي هنا على الفساد قال: "أكد ذلك بقوله: {بغير الحق}. وجواب [لما] هو [إذا] الفجائية وما بعدها، وذلك دليل على أنها حرف يترتب ما بعدها من الجواب على ما قبله من الفعل الذي وقع بعد [لما] وأنها تفيد الترتيب والتعليق في المضي، وأنها كما قال سيبويه حرف، والجواب بها دليل على أنه لم يتأخر (بغيهم) عن (إنجائهم)، بل بنفس ما وقع الإنجاء وقع البغي.
[6072]:- من الآية (60) من سورة (الحج).
[6073]:- أخرجه البخاري، والإمام أحمد في مسنده، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه في سننهم، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه عن أبي بكرة، قال ذلك في "الجامع الصغير"، ولفظه فيه: (ما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم).