جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ عَلَىٰ مَآ أَنتُمۡ عَلَيۡهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ ٱلۡخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِۗ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُطۡلِعَكُمۡ عَلَى ٱلۡغَيۡبِ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَجۡتَبِي مِن رُّسُلِهِۦ مَن يَشَآءُۖ فَـَٔامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦۚ وَإِن تُؤۡمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمۡ أَجۡرٌ عَظِيمٞ} (179)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ مّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىَ مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطّيّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رّسُلِهِ مَن يَشَآءُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ }

يعني بقوله : { ما كانَ الله لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ } ما كان الله ليدع المؤمنين على ما أنتم عليه من التباس المؤمن منكم بالمنافق ، فلا يعرف هذا من هذا { حَتّى يِمَيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطّيّبِ } يعني بذلك : حتى يميز الخبيث ، وهو المنافق المستسر للكفر ، من الطيب ، وهو المؤمن المخلص الصادق الإيمان بالمحن والاختبار ، كما ميز بينهم يوم أُحد عند لقاء العدو عند خروجهم إليه .

واختلف أهل التأويل في الخبيث الذي عنى الله بهذه الاَية ، فقال بعضهم فيه مثل قولنا . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثني أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : { ما كانَ اللّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ على ما أنْتُمْ عَلَيْهِ حتى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطّيّبِ } قال : ميز بينهم يوم أُحد ، المنافق من المؤمن .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : { ما كانَ اللّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ على ما أنْتُمْ عَلَيْهِ حتى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطّيّبِ } قال ابن جريج : يقول : ليبين الصادق بإيمانه من الكاذب . قال : ابن جريج : قال مجاهد : يوم أُحد ميز بعضهم عن بعض ، المنافق عن المؤمن .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { ما كانَ اللّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ على ما أنْتُمْ عَلَيْهِ حتى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطّيّبِ } : أي المنافق .

وقال آخرون : معنى ذلك : حتى يميز المؤمن من الكافر بالهجرة والجهاد . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { ما كانَ اللّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ على ما أنْتُمْ عَلَيْهِ } يعني : الكفار . يقول : لم يكن الله ليدع المؤمنين على ما أنتم عليه من الضلالة ، { حتى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطّيّبِ } : يميز بينهم في الجهاد والهجرة .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { حتى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطّيّبِ } قال : حتى يميز الفاجر من المؤمن .

حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { ما كانَ اللّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ على ما أنْتُمْ عَلَيْهِ حتى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطّيّبِ } قالوا : إن كان محمد صادقا فليخبرنا بمن يؤمن بالله ومن يكفر ! فأنزل الله : { ما كانَ اللّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ على ما أنْتُمْ عَلَيْهِ حتى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطّيّبِ } : حتى يخرج المؤمن من الكافر .

والتأويل الأوّل أولى بتأويل الاَية ، لأن الاَيات قبلها في ذكر المنافقين وهذه في سياقتها ، فكونها بأن تكون فيهم أشبه منها بأن تكون في غيرهم .

القول في تأويل قوله تعالى : { وَما كانَ لِيُطْلِعَكُمْ على الغَيْبِ وَلَكِنّ اللّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ } .

اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم بما :

حدثنا به محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { وَما كانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ على الغَيْبِ } وما كان الله ليطلع محمدا على الغيب ، ولكن الله اجتباه فجعله رسولاً .

وقال آخرون بما :

حدثنا به ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { وَما كانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ على الغَيْبِ } أي فيما يريد أن يبتليكم به ، لتحذروا ما يدخل عليكم فيه : { وَلَكِنّ اللّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ } يعلمه .

وأولى الأقوال في ذلك بتأويله : وما كان الله ليطلعكم على ضمائر قلوب عباده ، فتعرفوا المؤمن منهم من المنافق والكافر ، ولكنه يميز بينهم بالمحن والابتلاء كما ميز بينهم بالبأساء يوم أُحد ، وجهاد عدوّه ، وما أشبه ذلك من صنوف المحن ، حتى تعرفوا مؤمنهم وكافرهم ومنافقهم . غير أنه تعالى ذكره يجتبي من رسله من يشاء ، فيصطفيه ، فيطلعه على بعض ما في ضمائر بعضهم بوحيه ذلك إليه ورسالته . كما :

حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { وَلَكِنّ اللّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ } قال : يخلصهم لنفسه .

وإنما قلنا هذا التأويل أولى بتأويل الاَية ، ابتداءَها خبر من الله تعالى ذكره أنه غير تارك عباده ، يعني بغير محن ، حتى يفرّق بالابتلاء بين مؤمنهم وكافرهم وأهل نفاقهم . ثم عقب ذلك بقوله : { وَما كانَ لِيُطْلِعَكُمْ على الغَيْبِ } ، فكان فيما افتتح به من صفة إظهار الله نفاق المنافق وكفر الكافر ، دلالة واضحة على أن الذي ولي ذلك هو الخبر عن أنه لم يكن ليطلعهم على ما يخفى عنهم من باطن سرائرهم إلا بالذي ذكر أنه مميز به نعتهم إلا من استثناه من رسله الذي خصه بعلمه .

القول في تأويل قوله تعالى : { فَآمِنُوا باللّهِ وَرُسُلِهِ وَإنْ تُؤْمِنُوا وَتَتّقُوا فَلَكُمْ أجرٌ عَظِيمٌ } .

يعني بذلك جلّ ثناؤه بقوله : { وَإنْ تُؤْمِنُوا } : وإن تصدّقوا من اجتبيته من رسلي بعلمي ، وأطلعته على المنافقين منكم ، وتتقوا ربكم بطاعته فيما أمركم به نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم وفيما نهاكم عنه ، { فَلَكُمْ أجرٌ عَظِيمٌ } يقول : فلكم بذلك من إيمانكم واتقائكم ربكم ثواب عظيم . كما :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { فَآمِنُوا باللّهِ وَرُسُلِهِ وَإنْ تُؤْمِنُوا وَتَتّقُوا } : أي ترجعوا وتتوبوا ، { فَلَكُمْ أجْرٌ عَظِيمٌ } .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ عَلَىٰ مَآ أَنتُمۡ عَلَيۡهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ ٱلۡخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِۗ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُطۡلِعَكُمۡ عَلَى ٱلۡغَيۡبِ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَجۡتَبِي مِن رُّسُلِهِۦ مَن يَشَآءُۖ فَـَٔامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦۚ وَإِن تُؤۡمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمۡ أَجۡرٌ عَظِيمٞ} (179)

واختلف المفسرون في معنى قوله تعالى : { ما كان الله ليذر } فقال مجاهد وابن جريج وابن إسحاق وغيرهم : الخطاب للمؤمنين ، والمعنى : ما كان الله ليدع المؤمنين مختلطين بالمنافقين مشكلاً أمرهم ، يجري المنافق مجرى المؤمن ، ولكنهم ميز بعضهم من بعض ، بما ظهر من هؤلاء وهؤلاء في أحد من الأفعال والأقوال ، وقال قتادة والسدي : الخطاب للكفار ، والمعنى : حتى يميز المؤمنين من الكافرين بالإيمان والهجرة ، وقال السدي وغيره : قال الكفار في بعض جدلهم : أنت يا محمد تزعم في الرجل منا أنه من أهل النار ، وأنه إذا اتبعك من أهل الجنة ، فكيف يصح هذا ؟ ولكن أخبرنا بمن يؤمن منا وبمن يبقى على كفره ، فنزلت الآية{[3738]} ، فقيل لهم : لا بد من التمييز { وما كان الله ليطلعكم على الغيب } فيمن يؤمن ولا فيمن يبقى كافراً ولكن هذا رسول الله مجتبى فآمنوا به . فإن آمنتم نجوتم وكان لكم أجر ، وأما مجاهد وابن جريج وأهل القول ، فقولهم في تأويل قوله تعالى : { وما كان الله ليطلعكم على الغيب } أنه في أمر «أحد » أي ما كان الله ليطلعكم على أنكم تهزمون ، فكيف تكعون{[3739]} ونحو هذا . وأيضاً فما كان ليطلعكم على المنافقين تصريحاً بهم وتسمية لهم ، ولكن هذا بقرائن أفعالهم وأقوالهم في مثل هذا الموطن ، وحتى - في قوله : { حتى يميز } غاية مجردة ، لأن الكلام قبلها معناه : الله يخلص ما بينكم بابتلائه وامتحانه حتى يميز ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم : «حتى يَمِيز » - بفتح الياء وكسر الميم وتخفيف الياء ، وكذلك «ليميز » ، وقرأ حمزة والكسائي : «حتى يُميِّز » و «ليميز الله »{[3740]} بضم الياء والتشديد ، قال يعقوب بن السكيت{[3741]} : مزت وميزت ، لغتان بمعنى واحد ، قال أبو علي : وليس ميزت بمنقول من مزت ، بدليل أن ميزت لا يتعدى إلى مفعولين وإنما يتعدى إلى مفعول واحد كمزت ، كما أن «ألقيت » ليس بمنقول من لقي ، إنما هو بمعنى أسقطت ، والغيب هنا : ما غاب عن البشر مما هو في علم الله من الحوادث التي تحدث ومن الأسرار التي في قلوب المنافقين : ومن الأقوال التي يقولونها إذا غابوا عن الناس ، قال الزجّاج وغيره : روي أن بعض الكفار قال : لم لا يكون جميعنا أنبياء ؟ فنزلت هذه الآية ، و { يجتبي } - معناه : يختار ويصطفي ، وهي من جبيت الماء والمال ، وباقي الآية بين والله المستعان .


[3738]:- أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم- عن السدي (فتح القدير1/371. والدر المنثور 2/104).
[3739]:- معناه: تتأخرون وتحجمون وتجبنون.
[3740]:- من الآية (37) من سورة (الأنفال)
[3741]:- هو أبو يوسف يعقوب بن إسحاق، عرف بابن السكيت، نديم المتوكل، وقد استشار في ذلك أحمد بن عبيد فنهاه عنها فحمل قوله على الحسد، وأجاب إلى ما دعي إليه من المنادمة، وكان ذات يوم جالسا مع المتوكل فجاء المعتز والمؤيد إبناه فسأله: أيهما أحب إليك: ابناي هذان أم الحسن والحسين؟ فذكر ابنيه بسوء وأثنى على الحسن والحسين، فأمر المتوكل الأتراك فداسوا بطنه، فحمل إلى داره فمات من غده سنة 244. "وفيات الأعيان" لابن خلكان 2/408.