جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَهُوَ ٱلَّذِي سَخَّرَ ٱلۡبَحۡرَ لِتَأۡكُلُواْ مِنۡهُ لَحۡمٗا طَرِيّٗا وَتَسۡتَخۡرِجُواْ مِنۡهُ حِلۡيَةٗ تَلۡبَسُونَهَاۖ وَتَرَى ٱلۡفُلۡكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِهِۦ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} (14)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَهُوَ الّذِي سَخّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ } .

يقول تعالى ذكره : والذي فعل هذه الأفعال بكم وأنعم عليكم أيها الناس هذه النعم ، الذي سخر لكم البحر ، وهو كلّ نهر ملحا ماؤه أو عذبا . لتَأْكُلُوا منْهُ لَحْما طرِيّا وهو السمك الذي يصطاد منه . وتَسْتَخْرِجُوا منْهُ حلْيَةً تَلْبَسُونَها وهو اللؤلؤ والمرجان . كما :

حدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : أخبرنا هشام ، عن عمرو ، عن سعيد ، عن قتادة ، في قوله : وَهُوَ الّذِي سَخّرَ البَحْرَ لتَأْكُلُوا منْهُ لَحْما طَرِيّا قال : منهما جميعا . وتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حلْيَةً تَلْبَسُونَهَا قال : هذا اللؤلؤ .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْما طَرِيّا يعني حيتان البحر .

حدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : حدثنا حماد ، عن يحيى ، قال : حدثنا إسماعيل بن عبد الملك ، قال : جاء رجل إلى أبي جعفر ، فقال : هل في حليّ النساء صدقة ؟ قال : لا ، هي كما قال الله تعالى : حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الفُلْكَ يعني السفن ، مَوَاخرَ فِيهِ وهي جمع ماخرة .

وقد اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : مَوَاخرَ فقال بعضهم : المواخر : المواقر . ذكر من قال ذلك :

حدثنا عمرو بن موسى القزاز ، قال : حدثنا عبد الوارث ، قال : حدثنا يونس ، عن الحسن ، في قوله : وَتَرَى الفُلْكَ مَوَاخرَ فِيهِ قال : المواقر .

وقال آخرون في ذلك ما :

حدثنا به عبد الرحمن بن الأسود ، قال : حدثنا محمد بن ربيعة ، عن أبي بكر الأصمّ ، عن عكرمة ، في قوله : وَتَرَى الفُلْكَ مَوَاخرَ فِيهِ قال : ما أخذ عن يمين السفينة وعن يسارها من الماء ، فهو المواخر .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن أبي مكين ، عن عكرمة ، في قوله : وَتَرَى الفُلْكَ مَوَاخرَ فِيهِ قال : هي السفينة تقول بالماء هكذا ، يعني تشقه .

وقال آخرون فيه ، ما :

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن إسماعيل ، عن أبي صالح : وَتَرَى الفُلْكَ مَوَاخرَ فِيهِ قال : تجري فيه متعرضّة .

وقال آخرون فيه ، بما :

حدثني به محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَتَرَى الفُلْكَ مَوَاخرَ فِيهِ قال : تمخر السفينة الرياح ، ولا تمخر الريحَ من السفن إلا الفلك العظامُ .

حدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا أبو حُذيفة ، قال : حدثنا شبل وحدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد نحوه ، غير أن الحرث قال في حديثه : ولا تمخر الرياح من السفن .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، نحوه .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : مَوَاخرَ قال : تمخر الريح .

وقال آخرون فيه ، ما :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَتَرَى الفُلْكَ مَوَاخرَ فِيهِ تجري بريح واحدة ، مُقبلة ومُدبرة .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : تجري مقبلة ومدبرة بريح واحدة .

حدثنا المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن يزيد بن إبراهيم ، قال : سمعت الحسن : وَتَرَى الفُلْكَ مَوَاخرَ فِيهِ قال : مقبلة ومدبرة بريح واحدة .

والمخْر في كلام العرب : صوت هبوب الريح إذا اشتدّ هبوبها ، وهو في هذا الموضع : صوت جري السفينة بالريح إذا عصفت وشقها الماء حينئذ بصدرها ، يقال منه : مخرت السفينة تمخر مخرا ومخورا ، وهي ماخرة ، ويقال : امتخرت الريح وتمخرتها : إذا نظرتَ من أين هبوبها وتسمّعت صوت هبوبها . ومنه قول واصل مولى ابن عيينة : كان يقال : إذا أراد أحدكم البول فليتمخر الريح ، يريد بذلك : لينظر من أين مجراها وهبوبها ليستدبرها فلا ترجع عليه البول وتردّه عليه .

وقوله : وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ يقول تعالى ذكره : ولتتصرّفوا في طلب معايشكم بالتجارة سخر لكم . كما :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ قال : تجارة البرّ والبحر .

وقوله : وَلَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ يقول : ولتشكروا ربكم على ما أنعم به عليكم من ذلك سخر لكم ما سخر من هذه الأشياء التي عدّدها في هذه الاَيات .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَهُوَ ٱلَّذِي سَخَّرَ ٱلۡبَحۡرَ لِتَأۡكُلُواْ مِنۡهُ لَحۡمٗا طَرِيّٗا وَتَسۡتَخۡرِجُواْ مِنۡهُ حِلۡيَةٗ تَلۡبَسُونَهَاۖ وَتَرَى ٱلۡفُلۡكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِهِۦ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} (14)

{ وهو الذي سخّر البحر } جعله بحيث تتمكنون من الانتفاع به بالركوب والاصطياد والغوص . { لتأكلوا منه لحما طريا } هو السمك ، ووصفه بالطراوة لأنه أرطب اللحوم يسرع إليه الفساد فيسارع إلى أكله ، ولإظهار قدرته في خلقه عذبا طريا في ماء زعاق ، وتمسك به مالك والثوري على أن من حلف أن لا يأكل لحما حنث بأكل السمك . وأجيب عنه بأن مبنى الإيمان على العرف وهو لا يفهم منه عند الإطلاق ألا ترى أن الله تعالى سمى الكافر دابة ولا يحنث الخالق على أن لا يركب دابة بركوبه . { وتستخرجوا منه حلية تلبسونها } كاللؤلؤ والمرجان أي تلبسها نساؤكم ، فأسند إليهم لأنهن من جملتهم ولأنهن يتزين بها لأجلهم . { وترى الفلك } السفن . { مواخر فيه } جواري فيه تشقه بحيزومها ، من المخر وهو شق الماء . وقيل صوت جري الفلك . { ولتبتغوا من فضله } من سعة رزقه بركوبها للتجارة . { ولعلكم تشكرون } أي تعرفون نعم الله تعالى فتقومون بحقها ، ولعل تخصيصه بتعقيب الشكر لأنه أقوى في باب الأنعام من حيث أنه جعل المهالك سببا للانتفاع وتحصيل المعاش .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَهُوَ ٱلَّذِي سَخَّرَ ٱلۡبَحۡرَ لِتَأۡكُلُواْ مِنۡهُ لَحۡمٗا طَرِيّٗا وَتَسۡتَخۡرِجُواْ مِنۡهُ حِلۡيَةٗ تَلۡبَسُونَهَاۖ وَتَرَى ٱلۡفُلۡكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِهِۦ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} (14)

القول في هذا الاستدلال وإدماج الامتنان فيه كالقول فيما سبق .

وتقدّم الكلام على تسخير الفلك في البحر وتسخير الأنهار في أثناء سورة إبراهيم .

ومن تسخير البحر خلقه على هيئة يمكن معها السبح والسير بالفلك ، وتمكين السابحين والماخرين من صيد الحيتان المخلوقة فيه والمسخّرة لحيل الصائدين . وزيد في الامتنان أن لحم صيده طريّ .

و ( مِن ) ابتدائية ، أي تأكلوا لحماً طريّاً صادراً من البحر .

والطريّ : ضد اليابس . والمصدر : الطراوة . وفعله : طَرو ، بوزن خَشُن .

والحلية : ما يتحلّى به الناس ، أي يتزينون . وتقدم في قوله تعالى { ابتغاء حلية } في سورة الرعد ( 17 ) . وذلك اللؤلؤ والمَرجان ؛ فاللؤلؤ يوجد في بعض البحار مثل الخليج الفارسي ، والمرجان يوجد في جميع البحار ويكثر ويقلّ . j وسيأتي الكلام على اللؤلؤ في سورة الحجّ ، وفي سورة الرحمان . ويأتي الكلام على المَرجان في سورة الرحمن .

والاستخراج : كثرة الإخراج ، فالسين والتاء للتأكيد مثل : استجاب لمعنى أجاب .

واللبس : جعل الثوب والعمامة والمصوغ على الجسد . يقال : لبس التاج ، ولبس الخاتم ، ولبس القميص . وتقدم عند قوله تعالى : { قد أنزلنا عليكم لباسا } في سورة الأعراف ( 26 ) .

وإسناد لباس الحلية إلى ضمير جمع الذكور تغليب ، وإلا فإن غالب الحلية يلبسها النساء عدا الخواتيم وحلية السيوف .

وجملة وترى الفلك مواخر فيه } معترضة بين الجمل المتعاطفة مع إمكان العطف لقصد مخالفة الأسلوب للتعجيب من تسخير السير في البحر باستحضار الحالة العجيبة بواسطة فعل الرؤية . وهو يستعمل في التعجيب كثيراً بصيغ كثيرة نحو : ولو ترى ، وأرأيت ، وماذا تَرى . واجتلاب فعل الرؤية في أمثاله يفيد الحثّ على معرفة ذلك . فهذا النظم للكلام لإفادة هذا المعنى ولولاها لكان الكلام هكذا : وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وتبتغوا من فضله في فُلْكٍ مواخرَ .

وعطف { ولتبتغوا } على { وتستخرجوا } ليكون من جملة النّعم التي نشأت عن حكمة تسخير البحر . ولم يجعل علة لمخر الفلك كما جعل في سورة فاطر ( 12 ) { وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله } لأن تلك لم تصدر بمنّة تسخير البحر بل جاءت في غرض آخر .

وأعيد حرف التعليل في قوله تعالى : { ولتبتغوا من فضله } لأجل البعد بسبب الجملة المعترضة .

والابتغاء من فضل الله : التجارة كما عبّر عنها بذلك في قوله تعالى { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم } في سورة البقرة ( 198 ) .

وعطف { ولعلكم تشكرون } على بقية العلل لأنه من الحكم التي سخّر الله بها البحر للناس حملاً لهم على الاعتراف لله بالعبودية ونبذهم إشراك غير ربّه فيها . وهو تعريض بالذين أشركوا .