جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبۡ لَنَا مِنۡ أَزۡوَٰجِنَا وَذُرِّيَّـٰتِنَا قُرَّةَ أَعۡيُنٖ وَٱجۡعَلۡنَا لِلۡمُتَّقِينَ إِمَامًا} (74)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَالّذِينَ يَقُولُونَ رَبّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرّيّاتِنَا قُرّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتّقِينَ إِمَاماً } .

يقول تعالى ذكره : والذين يرغبون إلى الله في دعائهم ومسألتهم بأن يقولوا : رَبّنا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرّيّاتِنَا ما تقرّ به أعيننا من أن تريناهم يعملون بطاعتك . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله هَبْ لَنا مِنْ أزْوَاجِنا وَذُرّيّاتِنا قُرّةَ أعْيُنٍ يعنون : من يعمل لك بالطاعة ، فتقرّ بهم أعيننا في الدنيا والاَخرة .

حدثني أحمد بن المقدام ، قال : حدثنا حزم ، قال : سمعت كثيرا سأل الحسن ، قال : يا أبا سعيد ، قول الله هَبْ لَنا مِن أزْوَاجِنا وَذُرّيّاتِنا قُرّةَ أعْيُنٍ في الدنيا والاَخرة ، قال : لا بل في الدنيا ، قال : وما ذاك ؟ قال : المؤمن يرى زوجته وولده يطيعون الله .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، قال : قرأ حضرمي : رَبّنا هَبْ لَنا مِنْ أزْوَاجنا وَذُرّيّاتِنا قُرّةَ أعْيُنٍ قال : وإنما قرّة أعينهم أن يروهم يعملون بطاعة الله .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن ابن جُرَيج فيما قرأنا عليه في قوله : هَبْ لَنا مِنْ أزْوَاجِنا وَذُرّيّاتِنا قُرّةَ أعْيُنٍ قال : يعبدونك فيحسنون عبادتك ، ولا يجرون الجرائر .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جُرَيج ، قوله رَبّنا هَبْ لَنا مِنْ أزْوَاجِنا وَذُرّيّاتِنا قُرّةَ أعْيُنٍ قال : يعبدونك يحسنون عبادتك ، ولا يجرّون علينا الجرائر .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله وَالّذِينَ يَقُولُونَ رَبّنا هَبْ لَنا مِنْ أزْوَاجِنا وَذُرّيّاتِنا قُرّةَ أعْيُنٍ قال : يسألون الله لأزواجهم وذرياتهم أن يهديهم للإسلام .

حدثنا محمد بن عون ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش ، قال : ثني أبي ، عن صفوان بن عمرو ، عن عبد الرحمن بن جُبير بن نُفَير ، عن أبيه ، قال : جلسنا إلى المقداد بن الأسود ، فقال : لقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم على أشدّ حالة بُعث عليها نبيّ من الأنبياء في فترة وجاهلية ، ما يرون دينا أفضل من عبادة الأوثان ، فجاء بفرقان فَرَق به بين الحقّ والباطل ، وفَرّق بين الوالد وولده ، حتى إنْ كان الرجل ليرى ولده ووالده وأخاه كافرا وقد فتح الله قفل قلبه بالإسلام ، فيعلم أنه إن مات دخل النار ، فلا تقرّ عينه ، وهو يعلم أن حبيبه في النار ، وإنها للتي قال الله : وَالّذِينَ يَقُولُونَ رَبّنا هَبْ لَنا مِنْ أزْوَاجِنا وَذُرّيّاتِنا قُرّةَ أعْيُنٍ . . . الاَية .

حدثني ابن عون ، قال : ثني عليّ بن الحسن العسقلانيّ ، عن عبد الله بن المبارك ، عن صفوان ، عن عبد الرحمن بن جُبير بن نُفَير ، عن أبيه ، عن المقداد ، نحوه .

وقيل : هب لنا قرّة أعين ، وقد ذكر الأزواج والذريات وهم جمع ، وقوله : قُرّة أعْيُنٍ واحدة ، لأن قوله : قرّة أعين مصدر من قول القائل : قرّت عينك قرّة ، والمصدر لا تكاد العرب تجمعه .

وقوله : وَاجْعَلْنا للْمُتّقِينَ إماما اختلف أهل التأويل في تأويله ، فقال بعضهم : معناه : اجعلنا أثمة يَقتَدِي بنا من بعدنا . ذكر من قال ذلك :

حدثني ابن عبد الأعلى بن واصل ، قال : ثني عون بن سلام ، قال : أخبرنا بشر بن عمارة عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، في قوله : وَاجْعَلْنا للمْتّقِينَ إماما يقول : أئمة يُقتدى بنا .

حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله وَاجْعَلْنا للْمُتّقِينَ إماما أثمة التقوى ولأهله يقتدى بنا . قال ابن زيد : كما قال لإبراهيم : إني جاعِلُكَ للنّاس إماما .

وقال آخرون : بل معناه : واجعلنا للمتقين إماما : نأتمّ بهم ، ويأتمّ بنا من بعدنا . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : وَاجْعَلْنا للْمُتّقِين إماما قال : أئمة نقتدي بمن قبلنا ، ونكون أئمة لمن بعدنا .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن أبن أبي نجيح ، عن مجاهد وَاجْعَلْنا للمُتّقِينَ إماما قال : اجعلنا مؤتمين بهم ، مقتدين بهم .

قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : معناه : واجعلنا للمتقين الذين يتقون معاصيك ، ويخافون عقابك إماما يأتمون بنا في الخيرات ، لأنهم إنما سألوا ربهم أن يجعلهم للمتقين أئمة ، ولم يسألوه أن يجعل المتقين لهم إماما ، وقال وَاجْعَلْنا للْمُتّقِينَ إماما ولم يقل أئمة . وقد قالوا : واجعلنا وهم جماعة ، لأن الإمام مصدر من قول القائل : أمّ فلان فلانا إماما ، كما يقال : قام فلان قياما ، وصام يوم كذا صياما . ومن جمع الإمام أئمة ، جعل الإمام اسما ، كما يقال : أصحاب محمد إمام ، وأئمة للناس . فمن وحّد قال : يأتمّ بهم الناس . وهذا القول الذي قلناه في ذلك قول بعض نحويّي أهل الكوفة . وقال بعض أهل البصرة من أهل العربية : الإمام في قوله : للْمُتّقِينَ إماما جماعة ، كما تقول : كلهم عُدُول . قال : ويكون على الحكاية ، كما يقول القائل إذا قيل له : من أميركم : هؤلاء أميرنا . واستشهد لذلك بقول الشاعر :

يا عاذِلاتي لا تُرِدْنَ مَلامَتِي *** إنّ العَوَاذلَ لَسْنَ لي بأمِيرِ

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبۡ لَنَا مِنۡ أَزۡوَٰجِنَا وَذُرِّيَّـٰتِنَا قُرَّةَ أَعۡيُنٖ وَٱجۡعَلۡنَا لِلۡمُتَّقِينَ إِمَامًا} (74)

{ والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين } بتوفيقهم للطاعة وحيازة الفضائل ، فإن المؤمن إذا شاركه أهله في طاعة الله سر بهم قلبه وقرت بهم عينه لما يرى من مساعدتهم له في الدين وتوقع لحوقهم به في الجنة ، و{ من } ابتدائية أو بيانية كقولك : رأيت منك أسدا ، وقرأ حمزة وأبو عمرو والكسائي وأبو بكر و{ ذريتنا } وقرأ ابن عامر والحرميان وحفص ويعقوب { وذرياتنا } بالألف ، وتنكير ال { أعين } لإرادة تنكير ال { قرة } تعظيما وتقليلها لأن المراد أعين المتقين وهي قليلة بالإضافة إلى عيون غيرهم . { واجعلنا للمتقين إماما } يقتدون بنا في أمر الدين بإضافة العلم والتوفيق للعمل ، وتوحيده إما للدلالة على الجنس وعدم اللبس كقوله { ثم يخرجكم طفلا } أو لأنه مصدر في أصله ، أو لأن المراد واجعل كل واحد منا ، أو لأنهم كنفس واحدة لاتحاد طريقتهم واتفاق كلمتهم . وقيل جمع آم كصائم وصيام ومعناه قاصدين لهم مقتدين بهم .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبۡ لَنَا مِنۡ أَزۡوَٰجِنَا وَذُرِّيَّـٰتِنَا قُرَّةَ أَعۡيُنٖ وَٱجۡعَلۡنَا لِلۡمُتَّقِينَ إِمَامًا} (74)

هذه صفة ثالثة للمؤمنين بأنهم يُعْنَون بانتشار الإسلام وتكثير أتباعه فيدْعُون الله أن يرزقهم أزواجاً وذرّيّات تقَرُّ بهم أعينُهم ، فالأزواج يُطعنهم باتباع الإسلام وشرائعه ؛ فقد كان بعض أزواج المسلمين مخالفات أزواجهم في الدين ، والذّريات إذا نَشَأوا نشأوا مؤمنين ، وقد جُمع ذلك لهم في صفة { قرة أعين } . فإنها جامعة للكمال في الدين واستقامة الأحوال في الحياة إذ لا تقَرّ عيون المؤمنين إلاّ بأزواج وأبناء مؤمنين . وقد نهى الله المسلمين عن إبقاء النساء الكوافر في العصمة بقوله : { ولا تُمسِكوا بعِصَم الكوافر } [ الممتحنة : 10 ] ، وقال : { والذي قال لوالدَيه أُف لكما أَتَعِدَانِنِيَ أن أُخرَج } [ الأحقاف : 17 ] الآية . فمن أجل ذلك جعل دعاؤهم هذا من أسباب جزائهم بالجنة وإن كان فيه حظ لنفوسهم بقُرّة أعينهم إذ لا يناكد حظ النفس حظ الدين في أعمالهم ، كما في قول عبد الله ابن رواحة وهو خارج إلى غزوة مؤتة ، فدعا له المسلمون ولمن معه أن يَردّهم الله سالمين فقال :

لكنني أسأل الرحمن مغفرة *** وضربةً ذات فَرْغ تَقِذف الزبَدا

أو طعنةً بيديْ حرَّانَ مجهزة *** بحَرْبة تُنفذ الأحشاءَ والكَبِدا

حتى يقولوا إذا مَروا على جَدَثي *** أرشدَك الله من غَاز وقد رَشَدا

فإن في قوله : حتى يقولوا ، حظاً لنفسه من حسن الذكر وإن كان فيه دعاء له بالرشد وهو حظّ ديني أيضاً ، وقوله : وقد رَشَدَ ، حُسْن ذِكرٍ محض . وفي كتاب « الجامع » من « جَامع العتبية » من أحاديث ابن وهب قال مالك : رأيت رجلاً يَسأل ربيعة يقول : إني لأُحِبّ أن أُرى رائحاً إلى المسجد ، فكأنه كره من قوله ولم يعجبه أن يحبّ أحدٌ أن يُرى في شيء من أعمال الخير . وقال ابن رشد في « شرحه » : وهذا خلاف قول مالك في رسم العُقول من سماع أشهب من كتاب الصلاة : إنه لا بأس بذلك إذا كان أولُه لله ( أي القصد الأول من العمل لله ) . وقال ابن رشد في موضع آخر من « شرحه » قال الله تعالى : { وألقَيْتُ عليك محبةً منّي } [ طه : 39 ] ، وقال : { واجعل لي لسانَ صِدق في الآخرين } [ الشعراء : 84 ] . وقال الشاطبي في « الموافقات » : « عد مالك ذلك من قبيل الوسوسة ، أي أن الشيطان باقي للإنسان إذا سَرّه مرأى الناس له على الخير فيقول لك : إنك لَمُراءٍ . وليس كذلك وإنما هو أمر يقع في قلبه لا يُملَك » اه .

وفي « المعيار » عن كتاب « سراج المريدين » لأبي بكر بن العربي قال : سألت شيخنا أبا منصور الشيرازي الصوفي عن قوله تعالى : { إلا الذين تابوا وأصلحوا وبيّنوا } [ البقرة : 160 ] ما بَيّنوا ؟ قال : أظهروا أفعالهم للناس بالصلاح والطاعات .

قال الشاطبي : وهذا الموضع محل اختلاف إذا كان القصد المذكور تابعاً لقصد العبادة . وقد التزم الغزالي فيها وفي أشباهها أنها خارجة عن الإخلاص لكن بشرط أن يصير العمل أخفّ عليه بسبب هذه الأغراض .

وأما ابن العربي فذهب إلى خلاف ذلك وكأنَّ مجالَ النظر يلتفت إلى انفكاك القصدين ، على أن القول بصحة الانفكاك فيما يصح فيه الانفكاك أَوْجَهُ لما جاء من الأدلة على ذلك ، إلى آخره .

و { مِن } في قوله : { من أزواجنا } للابتداء ، أي اجعل لنا قُرّة أعْيُن تنشأ من أزواجنا وذرّياتنا .

وقرأ الجمهور : { وذرياتنا } جمع ذرية ، والجمع مراعى فيه التوزيع على الطوائف من الذين يدعون بذلك ، وإلا فقد يكون لأحد الداعين ولد واحد . وقرأه أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ويعقوب وخلف و { ذريتنا } بدون ألف بعد التحتية ، ويستفاد معنى الجمع من الإضافة إلى ضمير { الذين يقولون } ، أي ذرية كل واحد .

والأعين : هي أعين الداعين ، أي قرة أعيُن لنا . وإذ قد كان الدعاء صادراً منهم جميعاً اقتضى ذلك أنهم يريدون قرة أعين جميعهم .

وكما سألوا التوفيق والخير لأزواجهم وذرّياتهم سألوا لأنفسهم بعد أن وفقهم الله إلى الإيمان أن يجعلهم قُدوةً يَقتدي بهم المتقّون . وهذا يقتضي أنهم يسألون لأنفسهم بلوغَ الدرجات العظيمة من التقوى فإن القدوة يجب أن يكون بالغاً أقصى غاية العمل الذي يرغب المهتمّون به الكمالَ فيه . وهذا يقتضي أيضاً أنهم يسألون أن يكونوا دعاة للدخول في الإسلام وأن يهتدي الناس إليه بواسطتهم .

والإمام أصله : المثال والقالب الذي يصنع على شكله مصنوع من مثله ، قال النابغة :

أبوه قبله وأبو أبيه *** بنَوْا مجدَ الحياة على إمام

وأُطلق الإمام على القدوة تشبيهاً بالمثال والقالَب ، وغلب ذلك فصار الإمام بمعنى القدوة . وقد تقدم في قوله تعالى : { قال إني جاعلُك للناس إماماً } في سورة البقرة ( 124 ) . ووقع الإخبار ب{ إماماً } وهو مفرد عن ضمير جماعة المتكلمين لأن المقصود أن يكون كل واحد منهم إماماً يُقتَدى به ، فالكلام على التوزيع ، أو أريد من إمام معناه الحقيقي وجرى الكلام على التشبيه البليغ . وقيل إمام جمع ، مثل هِجان وصِيام ومفردهُ : إمٌّ .