القول في تأويل قوله تعالى : { أُوْلََئِكَ الّذِينَ نَتَقَبّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيّئَاتِهِمْ فِيَ أَصْحَابِ الْجَنّةِ وَعْدَ الصّدْقِ الّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ } .
يقول تعالى ذكره : هؤلاء الذين هذه الصفة صفتهم ، هم الذين يتُقبل عنهم أحسن ما عملوا في الدنيا من صالحات الأعمال ، فيجازيهم به ، ويثيبهم عليه وَيَتَجاوَزُ عَنْ سَيّئاتِهِم يقول : ويصفح لهم عن سيئات أعمالهم التي عملوها في الدنيا ، فلا يعاقبهم عليها في أصحَابِ الجَنّةِ يقول : نفعل ذلك بهم فعلنا مثل ذلك في أصحاب الجنة وأهلها الذين هم أهلها . كما :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن الحكم بن أبان ، عن الغطريف ، عن جابر بن زيد ، عن ابن عباس ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الروح الأمين ، قال : «يُؤْتَىَ بِحَسَناتِ العَبْد وَسَيّئاته ، فَيُقُتَصّ بَعْضُها ببَعْض فإنْ بَقيَتْ حَسَنةٌ وَسّعَ اللّهُ لَهُ في الجَنّةِ » قال : فدخلتُ على يزداد ، فحدّث بمثل هذا الحديث ، قال : قلت : فإن ذهبت الحسنة ؟ قال : أُولَئِكَ الّذِينَ نَتَقَبّلُ عَنْهُمْ أحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيّئاتِهِمْ . . . الاَية .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : دعا أبو بكر عمر رضي الله عنهما ، فقال له : إني أوصيك بوصية أن تحفظها : إن لله في الليل حقا لا يقبله بالنهار ، وبالنهار حقا لا يقبله بالليل ، إنه ليس لأحد نافلة حتى يؤدّي الفريضة ، إنه إنما ثقُلت موازين من ثقُلَت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحقّ في الدنيا ، وثقُل ذلك عليهم ، وحقّ لميزان لا يوضع فيه إلا الحقّ أن يثقل ، وخفّت موازين من خفّت موازينه يوم القيامة ، لاتباعهم الباطل في الدنيا ، وخفته عليهم ، وحقّ لميزان لا يوضع فيه إلا الباطل أن يخف ، ألم تر أن الله ذكر أهل الجنة بأحسن أعمالهم ، فيقول قائل : أين يبلغ عملي من عمل هؤلاء ، وذلك أن الله عزّ وجلّ تجاوز عن أسوإ أعمالهم فلم يبده ، ألم تر أن الله ذكر أهل النار بأسوإ أعمالهم حتى يقول قائل : أنا خير عملاً من هؤلاء ، وذلك بأن الله ردّ عليهم أحسن أعمالهم ، ألم تر أن الله عزّ وجلّ أنزل آية الشدّة عند آية الرخاء ، وآية الرخاء عند آية الشدّة ، ليكون المؤمن راغبا راهبا ، لئلا يُلقي بيده إلى التهلكة ، ولا يتمنى على الله أمنية يتمنى على الله فيها غير الحقّ .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : نَتَقَبّلُ عَنْهُمْ أحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض قرّاء الكوفة «يُتَقَبّلُ ، وَيُتَجاوَزُ » بضم الياء منهما ، على ما لم يسمّ فاعله ، ورفع «أحْسَنُ » . وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة نَتَقَبّلُ ، ونَتَجاوَزُ بالنون وفتحها ، ونصب أحسنَ على معنى إخبار الله جلّ ثناؤه عن نفسه أنه يفعل ذلك بهم ، وردّا للكلام على قوله : وَوَصّيْنا الإنْسانَ ونحن نتقبل منهم أحسن ما عملوا ونتجاوز ، وهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب .
وقوله : وَعْدَ الصّدْقِ الّذِي كانُوا يُوعَدُون يقول : وعدهم الله هذا الوعد ، وعد الحقّ لا شك فيه أنه موفَ لهم به ، الذي كانوا إياه في الدنيا يعدهم الله تعالى ، ونصب قوله : وَعْدَ الصّدْقِ لأنه مصدر خارج من قوله : يَتَقَبّلُ عَنْهُمْ أحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَتَجاوَزُ عَنْ سَيّئاتِهِم ، وإنما أخرج من هذا الكلام مصدر وعد وعدا ، لأن قوله : يَتَقَبّلُ عَنْهُمْ وَيَتَجاوَزُ وعد من الله لهم ، فقال : وعد الصدق ، على ذلك المعنى .
{ أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا } يعني طاعاتهم فإن المباح حسن ولا يثاب عليه . { ونتجاوز عن سيئاتهم } لتوبتهم ، وقرأ حمزة الكسائي وحفص بالنون فيهما . { في أصحاب الجنة } كائنين في عدادهم أو مثابين أو معدودين فيهم . { وعد الصدق } مصدر مؤكد لنفسه فإن يتقبل ويتجاوز وعد { الذي كانوا يوعدون } أي في الدنيا .
جيء باسم الإشارة للغرض الذي ذكرناه آنفاً عند قوله : { أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها } [ الأحقاف : 14 ] . وكونه إشارة جمع ومخبرة عنه بألفاظ الجمع ظاهر في أن المراد بالإنسان من قوله : { ووصينا الإنسان } [ الأحقاف : 15 ] غير معيّن بل المراد الجنس المستعمل في الاستغراق كما قدمناه . والجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن ما قبلها من الوصف والحثّ يُحدث ترقب السامع لمعرفة فائدة ذلك فكان قوله : { أولئك الذين يتقبل عنهم } إلى آخره جواباً لترقية .
وعموم { أحسنُ ما عملوا } يكسب الجملة فائدة التذييل ، أي الإحسان بالوالدين والدعاء لهما وللذرية من أفضل الأعمال فهو من أحسن ما عملوا . وقد تُقبل منهم كل ما هو أحسن ما عملوا . والتقبل : ترتب آثار العمل من ثواب على العمل واستجابة للدعاء . وفي هذا إيماء إلى أن هذا الدعاء مرجوّ الإجابة لأن الله تولى تلقينه مثل الدعاء الذي في سورة الفاتحة ودعاء آخر سورة البقرة .
وعدّي فعل { يتقبل } بحرف ( عَن ) ، وحقه أن يعدّى بحرف ( مِن ) تغليباً لجانب المدعو لهم وهم الوالدان والذريّة ، لأن دعاء الوَلد والوالد لأولئك بمنزلة النيابة عنهم في عبادة الدعاء وإذا كان العمل بالنيابة متقبلاً علم أن عمل المرء لنفسه متقبل أيضاً ففي الكلام اختصار كأنه قيل : أولئك يتقبل منهم ويتقبل عن والديْهم وذريتهم أحسن ما عملوا . وقرأ الجمهور { يتقبل } و { يتجاوز } بالياء التحتية مضمومة مَبْنيين للنائب و { أحسن } مرفوع على النيابة عن الفاعل ولم يذكر الفاعل لظهور أن المتقبل هو الله وقرأهما حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف بنونين مفتوحتين ونصب { أحسنَ } .
وقوله : { في أصحاب الجنة } في موضع الحال من اسم الإشارة ، أي كائنين في أصحاب الجنة حين يتقبل أحسن ما عملوا ويتجاوز عن سيئاتهم لأن أصحاب الجنة متقبل أحسن أعمالهم ويتجاوز عن سيئاتهم ، وذكر هذا للتنويه بهم بأنهم من الفريق المشَّرفين كما يقال : أكرمه في أهل العلم .
وانتصب { وعْدَ الصدق } على الحال من التقبل والتجاوز المفهوم من معاني { يتقبل } و { يتجاوز } ، فجاء الحال من المصدر المفهوم من الفعل كما أعيد عليه الضمير في قوله تعالى : { اعدلوا هو أقرب للتقوى } [ المائدة : 8 ] ، أي العدل أقرب للتقوى .
والوعد : مصدر بمعنى المفعول ، أي ذلك موعدهم الذي كانوا يوعدونه .
وإضافة { وعد } إلى { الصدق } إضافةٌ على معنى ( من ) ، أي وعدٌ من الصدق إذ لا يتخلف . و { الذي كانوا يوعدون } صفة وعْد الصدق ، أي ذلك هو الذي كانوا يوعدونه في الدنيا بالقرآن في الآيات الحاثة على بِرّ الوالدين وعلى الشكر وعلى إصلاح الذرية .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.