{ تِلْكَ الرّسُلُ فَضّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مّنْهُمْ مّن كَلّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيّنَاتِ وَأَيّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَآءَ اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الّذِينَ مِن بَعْدِهِم مّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيّنَاتُ وَلََكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُمْ مّنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مّن كَفَرَ وَلَوْ شَآءَ اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلََكِنّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ }
يعني تعالى ذكره بقوله : { تِلْكَ الرّسُلُ } الذين قصّ الله قصصهم في هذه السورة ، كموسى بن عمران وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وشمويل وداود ، وسائر من ذكر نبأهم في هذه السورة . يقول تعالى ذكره : هؤلاء رسلي فضلت بعضهم على بعض ، فكلمت بعضهم والذي كلمته منهم موسى صلى الله عليه وسلم ورفعت بعضهم درجات على بعض بالكرامة ورفعة المنزلة . كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله تعالى ذكره : { تِلْكَ الرّسُلُ فَضّلْنا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ } قال : يقول : منهم من كلّم الله ورفع بعضهم على بعض درجات . يقول : كلم الله موسى ، وأرسل محمدا إلى الناس كافة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بنحوه .
ومما يدل على صحة ما قلنا في ذلك قول النبيّ صلى الله عليه وسلم : «أُعْطِيتُ خَمْسا لَمْ يُعْطَهُنّ أحَدٌ قَبْلِي : بُعِثْتُ إلى الأحْمَرِ وَالأَسْوَدِ ، وَنُصِرْتُ بالرّعْبِ ، فإنّ العَدُوّ لَيُرْعَبُ مِنّي على مَسِيرَةِ شَهْرٍ ، وَجُعِلَتْ لِيَ الأرْضُ مَسْجِدا وَطَهُورا ، وأُحِلّتْ لِيَ الغَنَائِمُ ولَمْ تَحِلّ لأحَدٍ كانَ قَبْلِي ، وَقِيلَ لي : سَلْ تُعْطَهْ ، فاخْتَبأتُها شَفاعَةً لأُمّتِي ، فَهِيَ نائِلَةٌ مِنْكُمْ إنْ شاءَ اللّهُ مَنْ لا يُشْرِكُ باللّهِ شَيْئا » .
القول في تأويل قوله تعالى : { وآتَيْنَا عِيسَى ابنَ مَرْيَمَ البَيّنَاتِ وَأيّدْناهُ بِرُوحِ القُدُسِ } .
يعني تعالى ذكره بذلك : { وآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ البَيّنَاتِ } وآتينا عيسى ابن مريم الحجج والأدلة على نبوّته : من إبراء الأكْمَهِ والأبرص ، وإحياء الموتى ، وما أشبه ذلك ، مع الإنجيل الذي أنزلته إليه ، فبينت فيه ما فرضت عليه .
ويعني تعالى ذكره بقوله : { وأيّدْناهُ } وقوّيناه وأعنّاه { بِرُوحِ القُدُسِ } يعني بروح الله ، وهو جبريل . وقد ذكرنا اختلاف أهل العلم في معنى روح القدس والذي هو أولى بالصواب من القول في ذلك فيما مضى قبل ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ شاءَ اللّهُ ما اقْتَتَلَ الّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ البَيّناتُ } .
يعني تعالى ذكره بذلك : ولو أراد الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ، يعني من بعد الرسل الذين وصفهم بأنه فضل بعضهم على بعض ، ورفع بعضهم درجات ، وبعد عيسى ابن مريم ، وقد جاءهم من الاَيات بما فيه مُزْدَجَرٌ لمن هداه الله ووفقه .
ويعني بقوله : { مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَيّناتُ } يعني من بعد ما جاءهم من آيات الله ما أبان لهم الحق ، وأوضح لهم السبيل .
وقد قيل : إن الهاء والميم في قوله : { مِنْ بَعْدِهِمْ } من ذكر موسى وعيسى : ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَلَوْ شَاءَ اللّهُ مَا اقتتَلَ الّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَيّناتُ } يقول : من بعد موسى وعيسى .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : { وَلَوْ شاءَ اللّهُ ما اقتتَلَ الّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بعدِ ما جاءَتْهُمُ البَيّناتُ } يقول : من بعد موسى وعيسى .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَكِنِ اختَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللّهُ ما اقْتَتَلُوا وَلَكِنّ اللّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ } .
يعني تعالى ذكره بذلك : ولكن اختلف هؤلاء الذين من بعد الرسل لما لم يشأ الله منهم تعالى ذكره أن لا يقتتلوا ، فاقتتلوا من بعد ما جاءتهم البينات من عند ربهم بتحريم الاقتتال والاختلاف ، وبعد ثبوت الحجة عليهم بوحدانية الله ورسالة رسله ووحي كتابه ، فكفر بالله وبآياته بعضهم ، وآمن بذلك بعضهم . فأخبر تعالى ذكره : أنهم أتوا ما أتوا من الكفر والمعاصي بعد علمهم بقيام الحجة عليهم بأنهم على خطأ ، تعمدا منهم للكفر بالله وآياته . ثم قال تعالى ذكره لعباده : { وَلَوْ شاءَ اللّهُ ما اقْتَتَلُوا } يقول : ولو أراد الله أن يحجزهم بعصمته وتوفيقه إياهم عن معصيته فلا يقتتلوا ما اقتتلوا ولا اختلفوا ، { وَلكِنّ الله يَفْعَلُ ما يُرِيدُ } بأن يوفق هذا لطاعته والإيمان به فيؤمن به ويطيعه ، ويخذل هذا فيكفر به ويعصيه .
{ تلك الرسل } إشارة إلى الجماعة المذكورة قصصها في السورة ، أو المعلومة للرسول صلى الله عليه وسلم ، أو جماعة الرسل واللام للاستغراق . { فضلنا بعضهم على بعض } بأن خصصناه بمنقبة ليست لغيره . { منهم من كلم الله } تفضيل له ، وهو موسى عليه الصلاة والسلام . وقيل : موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام كلم الله موسى ليلة الحيرة وفي الطور ، ومحمدا عليه الصلاة والسلام ليلة المعراج حين كان قاب قوسين أو أدنى وبينهما بون بعيد ، وقرئ { كلم الله } و " كالم الله " بالنصب ، فإنه كلم الله كما أن الله كلمه ولذلك قيل كليم الله بمعنى مكالمه . { ورفع بعضهم درجات } بأن فضله على غيره من وجوه متعددة ، أو بمراتب متباعدة . وهو محمد صلى الله عليه وسلم فإنه خصه بالدعوة العامة والحجج المتكاثرة والمعجزات المستمرة ، والآيات المتعاقبة بتعاقب الدهر ، والفضائل العلمية والعملية الفائتة للحصر . والإبهام لتفخيم شأنه كأنه العلم المتعين لهذا لوصف المستغني عن التعيين . وقيل : إبراهيم عليه السلام خصصه بالخلة التي هي أعلى المراتب . وقيل : إدريس عليه السلام لقوله تعالى : { ورفعناه مكانا عليا } . وقيل : أولو العزم من الرسل { وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس } خصه بالتعيين لإفراط اليهود والنصارى في تحقيره وتعظيمه ، وجعل معجزاته سبب تفضيله لأنها آيات واضحة ومعجزات عظيمة لم يستجمعها غيره . { ولو شاء الله } أي هدى الناس جميعا . { ما اقتتل الذين من بعدهم } من بعد الرسل . { من بعد ما جاءتهم البينات } أي المعجزات الواضحة لاختلافهم في الدين ، وتضليل بعضهم بعضا . { ولكن اختلفوا فمنهم من آمن } بتوفيقه التزام دين الأنبياء تفضلا . { ومنهم من كفر } لإعراضه عنه بخذلانه . { ولو شاء الله ما اقتتلوا } كرره للتأكيد . { ولكن الله يفعل ما يريد } فيوفق من يشاء فضلا ، ويخذل من يشاء عدلا . والآية دليل على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام متفاوتة الأقدام ، وأنه يجوز تفضيل بعضهم على بعض ، ولكن بقاطع لأن اعتبار الظن فيما يتعلق بالعمل وأن الحوادث بيد الله سبحانه وتعالى تابعة لمشيئته خيرا كان أو شرا إيمانا أو كفرا .
{ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَءَاتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ }
{ تلك } رفع بالابتداء ، و { الرسل } خبره ، ويجوز أن يكون { الرسل } عطف بيان و { فضلنا } الخبر ، و { تلك } إشارة إلى جماعة مؤنثة اللفظ ، ونص الله في هذه الآية على تفضيل بعض الأنبياء على بعض( {[2410]} ) وذلك في الجملة دون تعيين مفضول . وهكذا هي الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم . فإنه قال : «أنا سيد ولد آدم »( {[2411]} ) ، وقال : «لا تفضلوني على موسى »( {[2412]} ) ، وقال : «لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى »( {[2413]} ) ، وفي هذا نهي شديد عن تعيين المفضول ، لأن يونس عليه السلام كان شاباً( {[2414]} ) وتفسخ( {[2415]} ) تحت أعباء النبوءة ، فإذا كان هذا التوقف فيه لمحمد وإبراهيم ونوح فغيره أحرى ، فربط الباب أن التفضيل فيهم على غير تعيين المفضول ، وقد قال أبو هريرة : خير ولد آدم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وهم أولو العزم( {[2416]} ) والمكلم موسى صلى الله عليه وسلم .
وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آدم أنبي مرسل هو ؟ فقال نعم نبي مكلّم( {[2417]} ) ، وقد تأول بعض الناس أن تكليم آدم كان في الجنة ، فعلى هذا تبقى خاصة موسى ، وقول تعالى : { ورفع بعضهم درجات } قال مجاهد وغيره : هي إشارة إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، لأنه بعث إلى الناس كافة وأعطي الخمس التي لم يعطها أحد قبله( {[2418]} ) ، وهو أعظم الناس أمة ، وختم الله به النبوات إلى غير ذلك من الخلق العظيم الذي أعطاه الله ، ومن معجزاته وباهر آياته ، ويحتمل اللفظ أن يراد به محمد وغيره( {[2419]} ) ممن عظمت آياته ويكون الكلام تأكيداً للأول ، ويحتمل أن يريد رفع إدريس المكان العليّ( {[2420]} ) ومراتب الأنبياء في السماء( {[2421]} ) فتكون الدرجات في المسافة ويبقى التفضيل مذكوراً في صدر الآية فقط ، وبينات عيسى عليه السلام هي إحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، وخلق الطير من الطين ، و «روح القدس » جبريل عليه السلام ، وقد تقدم ما قال العلماء فيه( {[2422]} ) .
{ ولَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ ءَامَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ }
ظاهر اللفظ في قولهم : من بعدهم يعطي أنه أراد القوم الذين جاؤوا من بعد جميع الرسل ، وليس كذلك المعنى ، بل المراد ما اقتتل الناس بعد كل نبي فلف الكلام لفاً يفهمه السامع ، وهذا كما تقول : اشتريت خيلاً ، ثم بعتها ، فجائزة لك هذه العبارة وأنت اشتريت فرساً ثم بعته ، ثم آخر وبعته ، ثم آخر وبعته ، وكذلك هذه النوازل إنما اختلف الناس بعد كل نبي فمنهم من آمن ومنهم من كفر بغياً وحسداً ، وعلى حطام الدنيا ، وذلك كله بقضاء وقدر وإرادة من الله تعالى ، ولو شاء خلاف ذلك لكان . ولكنه المستأثر بسر الحكمة في ذلك . الفعال لما يريد ، فاقتتلوا بأن قتل المؤمنون الكافرين على مر الدهر ، وذلك هو دفع الله الناس بعضهم ببعض .