القول في تأويل قوله تعالى : { وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسّعَةِ أَن يُؤْتُوَاْ أُوْلِي الْقُرْبَىَ وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُوَاْ أَلاَ تُحِبّونَ أَن يَغْفِرَ اللّهُ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره : ولا يحلف بالله ذوو الفضل منكم ، يعني ذوي التفضل والسّعة يقول : وذوو الجِدَة .
واختلف القرّاء في قراءة قوله : وَلا يأْتَلِ فقرأته عامة قرّاء الأمصار : وَلا يَأْتَلِ بمعنى : يفتعل من الأَلِيّة ، وهي القسم بالله سوى أبي جعفر وزيد بن أسلم ، فإنه ذُكِر عنهما أنهما قرآ ذلك : «وَلا يَتأَلّ » بمعنى : يتفعّل ، من الأَلِية .
والصواب من القراءة في ذلك عندي قراءة من قرأ : ولا يأَتَل بمعنى يفتعل من الأَلِية وذلك أن ذلك في خطّ المصحف كذلك ، والقراءة الأخرى مخالفة خطّ المصحف ، فاتباع المصحف مع قراءة جماعة القرّاء وصحّة المقروء به أولى من خلاف ذلك كله . وإنما عُنِي بذلك أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه في حلفه بالله لا ينفق على مِسْطَح ، فقال جلّ ثناؤه : ولا يحلف من كان ذا فضل من مال وسعة منكم أيها المؤمنون بالله ألاّ يُعْطُوا ذَوِي قَرابتهم فيصِلوا به أرحامهم ، كمِسْطح ، وهو ابن خالة أبي بكر . والمساكين : يقول : وذوي خَلّة الحاجة ، وكان مِسْطح منهم ، لأنه كان فقيرا محتاجا . والمهاجرين في سبيل الله وهم الذين هاجروا من ديارهم وأموالهم في جهاد أعداء الله ، وكان مِسْطَح منهم لأنه كان ممن هاجر من مكة إلى المدينة ، وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا . وَلْيَعْفُوا يقول وليعفُوا عما كان منهم إليهم من جُرم ، وذلك كجرم مِسْطح إلى أبي بكر في إشاعته على ابنته عائشة ما أشاع من الإفك . وَلْيَصْفَحُوا يقول : وليتركوا عقوبتهم على ذلك ، بحرمانهم ما كانوا يؤتونهم قبل ذلك ، ولكن ليعودوا لهم إلى مثل الذي كانوا لهم عليه من الإفضال عليهم . ألا تُحِبّونَ أنْ يَغْفِرَ اللّهُ لَكُمْ يقول : ألا تحبون أن يستر الله عليكم ذنوبكم بإفضالكم عليهم ، فيترك عقوبتكم عليها . وَاللّهُ غَفُورٌ لذنوب من أطاعه واتبع أمره ، رحيم بهم أن يعذّبهم مع اتباعهم أمره وطاعتهم إياه ، على ما كان لهم من زلة وهفوة قد استغفروه منها وتابوا إليه من فعلها .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن الزهريّ ، عن عَلقمة بن وقّاص الليثيّ ، وعن سعيد بن المسيب ، وعن عرورة بن الزبير ، وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن عائشة . قال : وثني ابن إسحاق ، قال : حدثنا يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزّبير ، عن أبيه ، عن عائشة . قال : وثني ابن إسحاق ، قال : ثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاريّ ، عن عمرة بنت عبد الرحمن ، عن عائشة ، قالت : لما نزل هذا يعني قوله : إنّ الّذِينَ جاءُوا باْلإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ في عائشة ، وفيمن قال لها ما قال قال أبو بكر ، وكان ينفق على مسطح لقرابته وحاجته : والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا ولا أنفعه بنفع أبدا بعد الذي قال لعائشة ما قال وأدخل عليها ما أدخل قالت : فأنزل الله في ذلك : وَلا يأَتَلِ أُولُوا الفَضْلِ مِنْكُمْ والسّعَةِ . . . الآية . قالت : فقال أبو بكر : والله إني لأحبّ أن يغفر الله لي فرجع إلى مسطح نفقتَه التي كان يُنفِق عليه ، وقال : والله لا أنزعها منه أبدا .
حدثني عليّ ، قال حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسّعَةِ يقول : لا تُقْسِموا ألاّ تنفعوا أحدا .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسّعَةِ . . . إلى آخر الآية ، قال : كان ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رَمَوا عائشة بالقبيح وأفشَوا ذلك وتكلوا به ، فأقسم ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيهم أبو بكر ، ألاّ يتصدّق على رجل تكلم بشيء من هذا ولا يصله ، فقال : لا يُقْسِم أولوا الفضل منكم والسعة أن يصلوا أرحامهم وأن يعطوهم من أموالهم كالذي كانوا يفعلون قبل ذلك . فأمر الله أن يُغْفَر لهم وأن يُعْفَى عنهم .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسّعَةِ : لما أنزل الله تعالى ذكره عذر عائشة من السماء ، قال أبو بكر وآخرون من المسلمين : والله لا نصل رجلا منهم تَكَلّم بشيء من شأن عائشة ولا ننفعه فأنزل الله : وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسّعة يقول : ولا يحلف .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسّعَةِ أنْ يُؤْتُوا أُولي القُرْبَى قال : كان مِسْطَح ذا قرابة . والَمَساكِينَ قال : كان مسكينا . وَالمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللّه كان بدْريّا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الفَضْلِ مِنْكُمْ والسّعَةِ قال : أبو بكر حلف أن لا ينفع يتيما في حِجْره كان أشاع ذلك . فلما نزلت هذه الآية قال : بلى أنا أحبّ أن يغفر الله لي ، فَلاكوننّ ليتيمي خيرَ ما كنت له قطّ .
{ ولا يأتل } ولا يحلف افتعال من الألية ، أو ولا يقصر من الألو ، ويؤيد الأول أنه قرئ ولا " يتأل " . وأنه نزل في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وقد حلف أن لا ينفق على مسطح بعد وكان ابن خالته وكان من فقراء المهاجرين . { أولوا الفضل منكم } في الدين . { والسعة } في المال . وفيه دليل على فضل أبي بكر وشرفه رضي الله تعالى عنه . { أن يؤتوا } على أ لا { يؤتوا } ، أو في { أن يؤتوا } . وقرئ بالتاء على الالتفات . { أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله } صفات لموصوف واحد ، أي ناسا جامعين لها لأن الكلام فيمن كان كذلك ، أو لموصفات أقيمت مقامها فيكون أبلغ في تعليل المقصود . { وليعفوا } عما فرط منهم . { وليصفحوا } بالإغماض عنه . { ألا تحبون أن يغفر الله لكم } على عفوكم وصفحكم وإحسانكم إلى من أساء إليكم . { والله غفور رحيم } مع كمال قدرته فتخلقوا بأخلاقه . روي أنه عليه الصلاة والسلام قرأها على أبي بكر رضي الله تعالى عنه فقال : بلى أحب ورجع إلى مسطح نفقته .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.