{ إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنّ اللّهَ يُبَشّرُكِ بِكَلِمَةٍ مّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرّبِينَ }
يعني بقوله جلّ ثناؤه : { إذْ قَالَتِ المَلائِكَةُ } وما كنت لديهم إذ يختصمون ، وما كنت لديهم أيضا إذ قالت الملائكة : يا مريم إن الله يبشرك . والتبشير : إخبار المرء بما يسرّه من خبر . وقوله : { بِكَلِمَةٍ مِنْهُ } يعني : برسالة من الله ، وخبر من عنده ، وهو من قول القائل : ألقى فلان إليّ كلمة سرّني بها ، بمعنى : أخبرني خبرا فرحت به ، كما قال جلّ ثناؤه : { وَكَلِمَتُهُ ألْقاها إلى مَرْيَمَ } يعني بشرى الله مريم بعيسى ألقاها إليها .
فتأويل الكلام : وما كنت يا محمد عند القوم إذ قالت الملائكة لمريم : يا مريم إن الله يبشرك ببشرى من عنده ، هي ولد لك ، اسمه المسيح عيسى ابن مريم .
وقد قال قوم ، وهو قول قتادة : إن الكلمة التي قال الله عزّ وجلّ بكلمة منه ، هو قوله : «كن » .
حدثنا بذلك الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة قوله : { بِكَلِمَةٍ مِنْهُ } قال : قوله : «كن » .
فسماه الله عزّ وجلّ كلمته ، لأنه كان عن كلمته ، كما يقال لما قدر الله من شيء : هذا قدر الله وقضاؤه ، يعني به : هذا عن قدر الله وقضائه حدث ، وكما قال جلّ ثناؤه : { وَكانَ أمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً } يعني به : ما أمر الله به ، وهو المأمور الذي كان عن أمر الله عزّ وجلّ .
وقال آخرون : بل هي اسم لعيسى سماه الله بها كما سمى سائر خلقه بما شاء من الأسماء . ورُوي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : الكلمة : هي عيسى .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : { إذْ قالَتِ المَلاَئِكَةُ يا مَرْيَمُ إنّ اللّهَ يُبَشّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ } قال : عيسى هو الكلمة من الله .
وأقرب الوجوه إلى الصواب عندي القول الأول : وهو أن الملائكة بشرت مريم بعيسى عن الله عزّ وجلّ برسالته وكلمته التي أمرها أن تلقيها إليها ، أن الله خالق منها ولدا من غير بعل ولا فحل ، ولذلك قال عزّ وجلّ : { اسْمُهُ المَسِيحُ } فذكّر ، ولم يقل اسمها فيؤنث ، والكلمة مؤنثة ، لأن الكلمة غير مقصود بها قصد الاسم الذي هو بمعنى فلان ، وإنما هي بمعنى البشارة ، فذكرت كنايتها ، كما تذكر كناية الذرّية والدابة والألقاب ، على ما قد بيناه قبل فيما مضى .
فتأويل ذلك كما قلنا آنفا ، من أن معنى ذلك : إن الله يبشركِ ببشرى ، ثم بين عن البشرى ، أنها ولد اسمه المسيح .
وقد زعم بعض نحويي البصرة ، أنه إنما ذكّر فقال : { اسْمُهُ المَسِيحُ } ، وقد قال : { بِكَلِمَةٍ مِنْهُ } والكلمة عنده : هي عيسى ، لأنه في المعنى كذلك ، كما قال جلّ ثناؤه : { أنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتا } ، ثم قال : { بَلَى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذّبْتَ بِها } وكما يقال : ذو الثدية ، لأن يده كانت قصيرة قريبة من ثدييه ، فجعلها كأن اسمها ثَدْيَة ، ولولا ذلك لم تدخل الهاء في التصغير .
وقال بعض نحويي الكوفة نحو قول من ذكرنا من نحويي البصرة ، في أن الهاء من ذكر الكلمة ، وخالفه في المعنى الذي من أجله ذكر قوله { اسْمُهُ } ، والكلمة متقدمة قبله ، فزعم أنه إنما قيل اسمه ، وقد قدمت الكلمة ، ولم يقل اسمها ، لأن من شأن العرب أن تفعل ذلك فيما كان من النعوت والألقاب والأسماء التي لم توضع لتعريف المسمى به كفلان وفلان ، وذلك مثل الذرّية والخليفة والدابة ، ولذلك جاز عنده أن يقال : ذرّية طيبة ، وذرّية طيبا¹ ولم يجز أن يقال : طلحة أقبلت ، ومغيرة قامت . وأنكر بعضهم اعتلال من اعتلّ في ذلك بذي الثدية ، وقالوا : إنما أدخلت الهاء في ذي الثدية لأنه أريد بذلك : القطعة من الثدي ، كما قيل : كنا في لحمة ونبيذة ، يراد به : القطعة منه . وهذا القول نحو قولنا الذي قلناه في ذلك .
وأما قوله : { اسْمُهُ المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ } فإنه جلّ ثناؤه أنبأ عباده عن نسبة عيسى ، وأنه ابن أمه مريم ، ونفى بذلك عنه ما أضاف إليه الملحدون في الله جلّ ثناؤه من النصارى ، من إضافتهم بنوته إلى الله عزّ وجلّ ، وما قَذَفَت أُمّهُ به المفتريةُ عليها من اليهود . كما :
حدثني به ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : { إذْ قالَتِ المَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إنّ اللّهَ يُبَشّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ المَسِيحُ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيها فِي الدّنْيَا وَالاَخِرَةِ وَمِنَ المُقَرّبِينَ } : أي هكذا كان أمره ، لا ما يقولون فيه .
وأما المسيح ، فإنه فَعِيل ، صرّف من مفعول إلى فعيل ، وإنما هو ممسوح ، يعني : مسحه الله فطهره من الذنوب ، ولذلك قال إبراهيم : المسيح الصديق . . . .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي عن سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، مثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، مثله .
حدثنا ابن البرقي ، قال : حدثنا عمرو بن أبي سلمة ، قال : قال سعيد : إنما سمي المسيح ، لأنه مسح بالبركة .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَجِيها فِي الدّنْيا وَالاَخِرَةِ وَمِنَ المُقَرّبِينَ } .
يعني بقوله «وجيها » : ذا وجه ومنزلة عالية عند الله وشرف وكرامة ، ومنه يقال للرجل الذي يشرف وتعظمه الملوك والناس : وجيه¹ يقال منه : ما كان فلان وجيها ، ولقد وَجُهَ وجاهةً ، وإن له لَوَجْها عند السلطان ، وجاها ووجاهة . والجاه : مقلوب قلبت واوه من أوّله إلى موضع العين منه ، فقيل جاه ، وإنما هو وجه وفعل من الجاه : جَاهَ يَجُوهُ ، مسموع من العرب : أخاف أن يجوهني بأكثر من هذا ، بمعنى : أن يستقبلني في وجهي بأعظم منه . وأما نصب الوجيه فعلى القطع من عيسى ، لأن عيسى معرفة ، ووجيه نكرة ، وهو من نعته ، ولو كان مخفوضا على الردّ على الكلمة كان جائزا .
وكما قلنا من أن تأويل ذلك وجيها في الدنيا والاَخرة عند الله ، قال فيما بلغنا محمد بن جعفر .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : { وَجِيها } قال : وجيها في الدنيا والاَخرة عند الله .
وأما قوله : { وَمِنَ المُقَرّبِينَ } فإنه يعني : أنه ممن يقرّبه الله يوم القيامة ، فيسكنه في جواره ، ويدنيه منه . كما :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَمِنَ المُقَرّبِينَ } يقول : من المقرّبين عند الله يوم القيامة .
حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قوله : { وَمِنَ المُقَرّبِينَ } يقول : من المقرّبين عند الله يوم القيامة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله .
{ إذ قالت الملائكة } بدل من { إذ قالت } الأولى وما بينهما اعتراض ، أو من { إذ يختصمون } على أن وقوع الاختصام والبشارة في زمان متسع كقولك لقيته في سنة كذا . { يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم } المسيح لقبه وهو من الألقاب المشرفة كالصديق وأصله بالعبرية مشيحا معناه : المبارك ، وعيسى معرب ايشوع واشتقاقهما من المسح لأنهما مسح بالبركة أو بما طهره من الذنوب ، أو مسح الأرض ولم يقم في موضع ، أو مسحه جبريل ، ومن العيس وهو بياض يعلوه حمرة ، تكلف لا طائل تحته وابن مريم لما كان صفة تميز تمييز الأسماء نظمت في سلكها ، ولا ينافي تعدد الخبر وإفراد المبتدأ فإنه اسم جنس مضاف ويحتمل أن يراد به أن الذي يعرف به ويتميز عن غيره هذه الثلاثة ، فإن الاسم علامة المسمى والمميز له ممن سواه ويجوز أن يكون عيسى خبر مبتدأ محذوف وابن مريم صفته ، وإنما قيل ابن مريم والخطاب لها تنبيها على أنه يولد من غير أب إذ الأولاد تنسب إلى الآباء ولا تنسب إلى الأم إلا إذا فقد الأب . { وجيها في الدنيا والآخرة } حال مقدرة من كلمة وهي وإن كانت نكرة لكنها موصوفة وتذكيره للمعنى ، والوجاهة في الدنيا النبوة وفي الآخرة الشفاعة { ومن المقربين } من الله ، وقيل إشارة إلى علو درجته في الجنة أو رفعه إلى السماء وصحبة الملائكة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.