جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{قُلۡ يَـٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ مَنۡ ءَامَنَ تَبۡغُونَهَا عِوَجٗا وَأَنتُمۡ شُهَدَآءُۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ} (99)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَآءُ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ }

يعني بذلك جلّ ثناؤه : يا معشر يهود بني إسرائيل وغيرهم ممن ينتحل التصديق بكتب الله ، { لِمَ تَصُدّونَ عَنْ سَبيلِ اللّهِ } يقول : لم تضلون عن طريق الله ومحجته التي شرعها لأنبيائه وأوليائه وأهل الإيمان { مَنْ آمَنَ } يقول : من صدّق بالله ورسوله ، وما جاء به من عند الله { تَبْغُونَها عِوَجا } يعني تبغون لها عوجا والهاء والألف اللتان في قوله : { تَبْغُونَها } عائدتان على السبيل ، وأنثها لتأنيث السبيل .

ومعنى قوله : تبغون لها عوجا ، من قول الشاعر ، وهو سحيم عبد بني الحساس :

بغَاكَ وَما تَبْغِيهِ حتى وَجَدْتَهُكأنّكَ قد وَاعَدْتَهُ أمْسِ مَوْعِدَا

يعني طلبك وما تطلبه يقال : ابغني كذا¹ يراد : ابتغه لي ، فإذا أرادوا : أعنّي على طلبه ، وابتغه معي قالوا : أبْغني بفتح الألف ، وكذلك يقال : احْلُبني ، بمعنى : اكفني الحلب وأحْلِبْني : أعني عليه ، وكذلك جميع ما ورد من هذا النوع فعلى هذا .

وأما العِوَجُ : فهو الأوَدُ والميل ، وإنما يعني بذلك الضلال عن الهدى يقول جلّ ثناؤه : { ولِمَ تَصُدّون }عن دين الله من صدّق الله ورسوله ، تبغون دين الله اعوجاجا عن سننه واستقامته وخرج الكلام على السبيل ، والمعنى لأهله ، كأن المعنى : تبغون لأهل دين الله ، ولمن هو على سبيل الحقّ عوجا ، يقول : ضلالاً عن الحقّ وزيغا عن الاستقامة على الهدى والمحجة . والعِوَج بكسر أوله : الأود في الدين والكلام ، والعَوَج بفتح أوله : الميل في الحائط والقناة وكل شيء منتصب قائم .

وأما قوله : { وأنْتُمْ شُهَدَاءُ } فإنه يعني : شهداء على أن الذي تصدّون عنه من السبيل حق تعلمونه وتجدونه في كتبكم . { وَما اللّهُ بِغَافِلٍ عَمّا تَعْلَمُونَ } يقول : ليس الله بغافل عن أعمالكم التي تعلمونها مما لا يرضاه لعباده ، وغير ذلك من أعمالكم حتى يعاجلكم بالعقوبة عليها معجلة ، أو يؤخر ذلك لكم ، حتى تلقوه ، فيجازيكم عليها .

وقد ذكر أن هاتين الاَيتين من قوله : { يا أهْلِ الكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بآياتِ اللّهِ } والاَيات بعدهما إلى قوله : { فأُولَئِكَ لَهُم عَذَابٌ عَظِيمٌ } نزلت في رجل من اليهود حاول الإغراء بين الحيين من الأوس والخزرج بعد الإسلام ، ليراجعوا ما كانوا عليه في جاهليتهم من العداوة والبغضاء ، فعنفه الله بفعله ذلك وقبح له ما فعل ووبخه عليه ، ووعظ أيضا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونهاهم عن الافتراق والاختلاف ، وأمرهم بالاجتماع والائتلاف . ذكر الرواية بذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، قال : ثني الثقفة ، عن زيد بن أسلم ، قال : مرّ شاس بن قيس ، وكان شيخا قد عسا في الجاهلية ، عظيم الكفر ، شديد الضغن على المسلمين شديد الحسد لهم ، على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدّثون فيه . فغاظه ما رأى من جماعتهم وألفتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية ، فقال : قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد ، والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم لها من قرار فأمر فتى شابا من اليهود وكان معه ، فقال : اعمد إليهم ، فاجلس معهم وذكرهم يوم بُعاث وما كان قبله ، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار . وكان يوم بعاث يوما اقتتلت فيه الأوس والخزرج ، وكان الظفر فيه للأوس على الخزرج . ففعل ، فتكلم القوم عند ذلك ، فتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب أوس بن قيظي أحد بني حارثة بن الحرث من الأوس وجبار بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج ، فتقاولا ، ثم قال أحدهما لصاحبه : إن شئتم والله رددناها الاَن جَذَعَةً . وغضب الفريقان ، وقالوا : قد فعلنا السلاحَ السلاحَ موعدكم الظاهرة والظاهرة : الحَرّة فخرجوا إليها وتحاور الناس ، فانضمت الأوس بعضها إلى بعض ، والخزرج بعضها إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية . فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى جاءهم ، فقال : «يا مَعشرَ المسلِمينَ اللّهَ اللّهَ ، أبدَعْوَى الجاهليّةِ وأنَا بينَ أظهرُكمْ بعدَ إذْ هداكُمُ اللّهُ إلى الإسلامِ ، وأكرَمكُمْ بهِ ، وقطعَ بهِ عَنْكُمْ أمْرَ الجاهليّةِ ، واستنقذكُمْ بهِ مِنَ الكفرِ وألّفَ بهِ بَينَكُمْ ترْجعونَ إلى ما كُنْتمْ عليهِ كُفّارا » فعرف القوم أنها نزعة من الشيطان ، وكيد من عدوّهم ، فألقوا السلاح من أيديهم ، وبكوا ، وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضا . ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين ، قد أطفأ الله عنهم كيد عدوّ الله شاس بن قيس وما صنع فأنزل الله في شاس بن قيس وما صنع { يا أهلَ الكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بآياتِ اللّهِ واللّهُ شَهِيدٌ على ما تَعْمَلُونَ يا أهْلَ الكِتابِ لِمَ تَصُدّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجا } . . . الاَية وأنزل الله عزّ وجلّ في أوس بن قيظي وجبار بن صخر ومن كان معهما من قومهما الذين صنعوا ما صنعوا مما أدخل عليهم شاس بن قيس من أمر الجاهلية { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنْ تُطِيعُوا فَرِيقا مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ يَرُدّوكُمْ بَعْدَ إيمانِكُمْ كافِرينَ } إلى قوله : { أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } .

وقيل : إنه عنى بقوله : { يا أهْلَ الكِتابِ لِمَ تَصُدّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ } جماعة يهود بني إسرائيل الذين كانوا بين أظهر مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام نزلت هذه الاَيات والنصارى ، وأن صدّهم عن سبيل الله كان بإخبارهم من سألهم عن أمر نبيّ الله محمد صلى الله عليه وسلم ، هل يجدون ذكره في كتبهم أنهم لا يجدون نعته في كتبهم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { يا أهْلَ الكِتابِ لِمَ تَصُدّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُوَنها عِوَجا } كانوا إذا سألهم أحد : هل تجدون محمدا ؟ قالوا : لا ! فصدّوا عنه الناس ، وبغوا محمدا عوجا : هلاكا .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { يا أهْلَ الكِتابِ لِمَ تَصُدّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ } يقول : لم تصدون عن الإسلام ، وعن نبي الله ومن آمن بالله ، وأنتم شهداء فيما تقرءون من كتاب الله أن محمدا رسول الله ، وأن الإسلام دين الله الذي لا يقبل غيره ولا يجزي إلا به ، تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، نحوه .

حدثنا محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر ، قال : حدثنا عباد ، عن الحسن في قوله : { قُلْ يا أهْلَ الكِتابِ لِمَ تَصُدّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ } قال : هم اليهود والنصارى ، نهاهم أن يصدوا المسلمين عن سبيل الله ، ويريدون أن يعدلوا الناس إلى الضلالة .

فتأويل الاَية ما قاله السديّ : يا معشر اليهود لم تصدّون عن محمد ، وتمنعون من اتباعه المؤمنين بكتمانكم صفته التي تجدونها في كتبكم . ومحمد على هذا القول : هو السبيل { تَبْغُونَها عِوَجا } : تبغون محمدا هلاكا . وأما سائر الروايات غيره والأقوال في ذلك ، فإنه نحو التأويل الذي بيناه قبل ، من أن معنى السبيل التي ذكرها في هذا الموضع الإسلام وما جاء به محمد من الحقّ من عند الله .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{قُلۡ يَـٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ مَنۡ ءَامَنَ تَبۡغُونَهَا عِوَجٗا وَأَنتُمۡ شُهَدَآءُۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ} (99)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{قل يا أهل الكتاب}: يعني اليهود. {لم تصدون عن سبيل الله}: عن دين الإسلام، {من آمن تبغونها عوجا}: يعني بملة الإسلام زيغا، {وأنتم شهداء}: أن الدين هو الإسلام، وأن محمدا رسول الله ونبي، {وما الله بغافل عما تعملون}...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يا معشر يهود بني إسرائيل وغيرهم ممن ينتحل التصديق بكتب الله، {لِمَ تَصُدّونَ عَنْ سَبيلِ اللّهِ}: لم تضلون عن طريق الله ومحجته التي شرعها لأنبيائه وأوليائه وأهل الإيمان {مَنْ آمَنَ}: من صدّق بالله ورسوله، وما جاء به من عند الله {تَبْغُونَها عِوَجا}: تبغون لها عوجا والهاء والألف اللتان في قوله: {تَبْغُونَها} عائدتان على السبيل، وأنثها لتأنيث السبيل.

وأما العِوَجُ: فهو الأوَدُ والميل، وإنما يعني بذلك الضلال عن الهدى يقول جلّ ثناؤه: ولِمَ تَصُدّون عن دين الله من صدّق الله ورسوله، تبغون دين الله اعوجاجا عن سننه واستقامته وخرج الكلام على السبيل، والمعنى لأهله، كأن المعنى: تبغون لأهل دين الله، ولمن هو على سبيل الحقّ عوجا، يقول: ضلالاً عن الحقّ وزيغا عن الاستقامة على الهدى والمحجة. والعِوَج بكسر أوله: الأود في الدين والكلام، والعَوَج بفتح أوله: الميل في الحائط والقناة وكل شيء منتصب قائم.

{وأنْتُمْ شُهَدَاءُ}: شهداء على أن الذي تصدّون عنه من السبيل حق تعلمونه وتجدونه في كتبكم. {وَما اللّهُ بِغَافِلٍ عَمّا تَعْلَمُونَ}: ليس الله بغافل عن أعمالكم التي تعلمونها مما لا يرضاه لعباده، وغير ذلك من أعمالكم حتى يعاجلكم بالعقوبة عليها معجلة، أو يؤخر ذلك لكم، حتى تلقوه، فيجازيكم عليها.

وقد ذكر أن هاتين الآيتين من قوله: {يا أهْلِ الكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بآياتِ اللّهِ} والآيات بعدهما إلى قوله: {فأُولَئِكَ لَهُم عَذَابٌ عَظِيمٌ} نزلت في رجل من اليهود حاول الإغراء بين الحيين من الأوس والخزرج بعد الإسلام، ليراجعوا ما كانوا عليه في جاهليتهم من العداوة والبغضاء، فعنفه الله بفعله ذلك وقبح له ما فعل ووبخه عليه، ووعظ أيضا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونهاهم عن الافتراق والاختلاف، وأمرهم بالاجتماع والائتلاف... عن زيد بن أسلم، قال: مرّ شاس بن قيس، وكان شيخا قد عسا في الجاهلية، عظيم الكفر، شديد الضغن على المسلمين شديد الحسد لهم، على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدّثون فيه. فغاظه ما رأى من جماعتهم وألفتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية، فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد، والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم لها من قرار فأمر فتى شابا من اليهود وكان معه، فقال: اعمد إليهم، فاجلس معهم وذكرهم يوم بُعاث وما كان قبله، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار. وكان يوم بعاث يوما اقتتلت فيه الأوس والخزرج، وكان الظفر فيه للأوس على الخزرج. ففعل، فتكلم القوم عند ذلك، فتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب أوس بن قيظي أحد بني حارثة بن الحرث من الأوس وجبار بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج، فتقاولا، ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم والله رددناها الاَن جَذَعَةً. وغضب الفريقان، وقالوا: قد فعلنا السلاحَ السلاحَ، موعدكم الظاهرة، والظاهرة: الحَرّة فخرجوا إليها وتحاور الناس، فانضمت الأوس بعضها إلى بعض، والخزرج بعضها إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى جاءهم، فقال: «يا مَعشرَ المسلِمينَ اللّهَ اللّهَ، أبدَعْوَى الجاهليّةِ وأنَا بينَ أظهرُكمْ بعدَ إذْ هداكُمُ اللّهُ إلى الإسلامِ، وأكرَمكُمْ بهِ، وقطعَ بهِ عَنْكُمْ أمْرَ الجاهليّةِ، واستنقذكُمْ بهِ مِنَ الكفرِ وألّفَ بهِ بَينَكُمْ، ترْجعونَ إلى ما كُنْتمْ عليهِ كُفّارا» فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدوّهم، فألقوا السلاح من أيديهم، وبكوا، وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضا. ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين، قد أطفأ الله عنهم كيد عدوّ الله شاس بن قيس وما صنع، فأنزل الله في شاس بن قيس وما صنع: {يا أهلَ الكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بآياتِ اللّهِ واللّهُ شَهِيدٌ على ما تَعْمَلُونَ يا أهْلَ الكِتابِ لِمَ تَصُدّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجا}... الآية وأنزل الله عزّ وجلّ في أوس بن قيظي وجبار بن صخر ومن كان معهما من قومهما الذين صنعوا ما صنعوا مما أدخل عليهم شاس بن قيس من أمر الجاهلية {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنْ تُطِيعُوا فَرِيقا مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ يَرُدّوكُمْ بَعْدَ إيمانِكُمْ كافِرينَ} إلى قوله: {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.

وقيل: إنه عنى بقوله: {يا أهْلَ الكِتابِ لِمَ تَصُدّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ} جماعة يهود بني إسرائيل الذين كانوا بين أظهر مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام نزلت هذه الآيات والنصارى، وأن صدّهم عن سبيل الله كان بإخبارهم من سألهم عن أمر نبيّ الله محمد صلى الله عليه وسلم، هل يجدون ذكره في كتبهم أنهم لا يجدون نعته في كتبهم.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{وما الله بغافل عما تعملون} هو حرف وعيد وتنبيه، لأن من علم [أن عليه رقيبا وحافظا] فيكون أحذر وأخوف ممن لم يكن عليه ذلك. وفيه أنه لا غفلة [عن الذي] يكون منكم، ولكن على علم لتعلموا أنه لا للحاجة خلقكم بل إظهار الغني والسلطان له، جل جلاله، وعم نواله...

أحكام القرآن للجصاص 370 هـ :

إن قيل: قد سمى الله الكفار شهداء وليسوا حجة على غيرهم، فلا يصح لكم الاحتجاج بقوله: {لتكونُوا شُهَدَاءَ على النَّاسِ} [البقرة:143] في صحة إجماع الأمّة وثبوت حجته. قيل له: إنه جَلّ وعلا لم يقل في أهل الكتاب وأنتم شهداء على غيركم، وقال هناك: {لتكونوا شهداء على الناس} [البقرة:143] كما قال: {ويكون الرسول عليكم شهيداً} [البقرة:143] فأوجب ذلك تصديقهم وصحة إجماعهم؛ وقال في هذه الآية: {وأَنْتُمْ شُهَدَاءُ} ومعناه غير معنى قوله: {شهداء على الناس} [البقرة:143] وقد قيل في معناه وجهان، أحدهما: {وأنْتُمْ شُهَدَاءُ} أنكم عالمون ببطلان قولكم في صدكم عن دين الله تعالى؛ وذلك في أهل الكتاب منهم. والثاني: أن يريد بقوله: {شُهَدَاءُ} عقلاء، كما قال الله تعالى: {أو ألقى السمع وهو شهيد} [ق:37] يعني: وهو عاقل؛ لأنه يشهد الدليل الذي يميز به الحق من الباطل...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ} أنها سبيل الله التي لا يصدّ عنها إلا ضال مضلّ، أو وأنتم شهداء بين أهل دينكم، عدول يثقون بأقوالكم ويستشهدونكم في عظائم أمورهم، وهم الأحبار...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

العِوج -بكسر العين-: ما كان في الأمور والحجج غير الأجرام، والعَوج -بفتح العين-، ما كان في الأجرام، كالجدار والعصا ونحو ذلك...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

ثم إنه تعالى لما أنكر عليهم في ضلالهم ذكر بعد ذلك الإنكار عليهم في إضلالهم لضعفة المسلمين فقال: {قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من ءامن}...

ثم قال: {وما الله بغافل عما تعملون} والمراد التهديد... وإنما ختم الآية الأولى بقوله {والله شهيد} وهذه الآية بقوله {وما الله بغافل عما تعملون} وذلك لأنهم كانوا يظهرون الكفر بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وما كانوا يظهرون إلقاء الشبه في قلوب المسلمين، بل كانوا يحتالون في ذلك بوجوه الحيل فلا جرم قال فيما أظهروه {والله شهيد} وفيما أضمروه {وما الله بغافل عما تعملون} وإنما كرر في الآيتين قوله {قل يا أهل الكتاب} لأن المقصود التوبيخ على ألطف الوجوه، وتكرير هذا الخطاب اللطيف أقرب إلى التلطف في صرفهم عن طريقتهم في الضلال والإضلال وأدل على النصح لهم في الدين والإشفاق...

أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :

كرر الخطاب والاستفهام مبالغة في التقريع ونفي العذر لهم، وإشعارا بأن كل واحد من الأمرين مستقبح في نفسه مستقل باستجلاب العذاب...

البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :

قيل: وفي قوله: {وأنتم شهداء} دلالة على أن شهادة بعضهم على بعض جائزة، لأنه تعالى سماهم شهداء، ولا يصدق هذا الاسم إلا على من يكون له شهادة. وشهادتهم على المسلمين لا تجوز بإجماع، فتعين وصفهم بأن تجوز شهادة بعضهم على بعض، وهو قول أبي حنيفة وجماعة. والأكثرون على أنَّ شهادتهم لا تقبل بحال، وأنّهم ليسوا من أهل الشهادة...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ثم استأنف إيذاناً بالاستقلال تقريعاً آخر لزيادتهم على الكفر التكفير فقال: {قل يا آهل الكتاب} أي المدعين للعلم واتباع الوحي، كرر هذا الوصف لأنه مع أنه أبعد في التقريع أقرب إلى التلطف في صرفهم عن ضلالهم {لم تصدون} أي بعد كفركم {عن سبيل الله} أي الملك الذي له القهر والعز والعظمة والاختصاص بجميع صفات الكمال، وسبيله دينه الذي جاء به نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وقدمه اهتماماً به. ثم ذكر المفعول فقال: {من أمن} حال كونكم {تبغونها} أي السبيل {عوجاً} أي بليكم ألسنتكم وافترائكم على الله...

ولما ذكر صدهم وإرادتهم العوج الذي لا يرضاه ذو عقل قال موبخاً: {وأنتم شهداء} أي باستقامتها بشهادتكم باستقامة دين إبراهيم مع قيام أدلة السمع والعقل أنها دينه وأن النبي والمؤمنين أولى الناس به لانقيادهم للأدلة. ولما كان الشهيد قد يغفل، وكانوا يخفون مكرهم في صدهم، هددهم بإحاطة علمه فقال: {وما الله} أي الذي تقدم أنه شهيد عليكم وله صفات الكمال كلها {بغافل} أي أصلاً {عما تعملون *}.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

يسجل الله تعالى عليهم معرفتهم بالحق الذي يكفرون به، ويصدون الناس عنه: (وأنتم شهداء).. مما يجزم بأنهم كانوا على يقين من صدق ما يكذبون به، ومن صلاح ما يصدون الناس عنه. وهو أمر بشع مستنكر، لا يستحق فاعله ثقة ولا صحبة، ولا يستأهل إلا الاحتقار والتنديد! ولا بد من وقفة أمام وصفة تعالى لهؤلاء القوم بقوله: (لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا...؟) إنها لفتة ذات مغزى كبير.. إن سبيل الله هو الطريق المستقيم. وما عداه عوج غير مستقيم. وحين يصد الناس عن سبيل الله؛ وحين يصد المؤمنون عن منهج الله، فإن الأمور كلها تفقد استقامتها، والموازين كلها تفقد سلامتها، ولا يكون في الأرض إلا العوج الذي لا يستقيم. إنه الفساد. فساد الفطرة بانحرافها. وفساد الحياة باعوجاجها.. وهذا الفساد هو حصيلة صد الناس عن سبيل الله وصد المؤمنين عن منهج الله.. وهو فساد في التصور. وفساد في الضمير. وفساد في الخلق. وفساد في السلوك. وفساد في الروابط. وفساد في المعاملات. وفساد في كل ما بين الناس بعضهم وبعض من ارتباطات. وما بينهم وبين الكون الذي يعيشون فيه من أواصر.. وإما أن يستقيم الناس على منهج الله فهي الاستقامة والصلاح والخير، وإما أن ينحرفوا عنه إلى أية وجهة فهو العوج والفساد والشر. وليس هنالك إلا هاتان الحالتان، تتعاوران حياة بني الإنسان: استقامة على منهج الله فهو الخير والصلاح، وانحراف عن هذا المنهج فهو الشر والفساد!...

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

هب أنكم خبتم في ذواتكم، وحملتم وزر ضلالكم؛ فلماذا تحملون وزر إضلالكم للناس؟

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

من خلال هاتين الآيتين نكتشف طبيعة الأسلوب التقريري، الذي يريد أن يقرّر الحقيقة للآخرين في نوعية مواقفهم بطريقة توجيه الخطاب إليهم، لتنكشف اللعبة من خلال كشف اللاعبين أمام أنفسهم وأمام الآخرين، في جوّ من التهديد الخفيّ الذي يشعرون معه بأنَّ أعين اللّه النفاذة إلى الأعماق لا تغفل عن كلّ ذلك، مهما كان حجمه ومهما كانت نتائجه، ليعيشوا القلق الروحي الذي قد يدفعهم إلى التراجع عن مواقفهم، ويمنعهم عن الامتداد بعيداً في ما يمتدون به من خطوات الغيّ والضلال، أو يفضحهم في عيون الآخرين، فلا يستطيعون أن يُضللوا ويُفسدوا في أقوالهم وأفعالهم.