وقوله : وَما جَعَلْنا أصحَابَ النّارِ إلاّ مَلائِكَةً يقول تعالى ذكره : وما جعلنا خزَنة النار إلا ملائكة . يقول لأبي جهل في قوله لقريش : أما يستطيع كلّ عشرة منكم أن تغلب منها واحدا ؟ فمن ذا يغلب خزنة النار وهم الملائكة . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : حدثنا ابن زيد ، في قوله : وَما جَعَلْنا أصحَابَ النّارِ إلاّ مَلائِكَةً قال : ما جعلناهم رجالاً ، فيأخذ كلّ رجل رجلاً كما قال هذا .
وقوله : وَما جَعَلْنا عِدّتَهُمْ إلاّ فِتْنَةً للّذِينَ كَفَرُوا يقول : وما جعلنا عدّة هؤلاء الخزنة إلا فتنة للذين كفروا بالله من مُشركي قريش . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَما جَعَلْنا عِدّتَهُمْ إلاّ فِتْنَةً للّذِينَ كَفَرُوا : إلا بلاء .
وإنما جعل الله الخبر عن عدّة خزنة جهنم فتنة للذين كفروا ، لتكذيبهم بذلك ، وقول بعضهم لأصحابه : أنا أكفيكموهم . ذكر الخبر عمن قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : تِسْعَةَ عَشَرَ قال : جعلوا فتنة ، قال أبو الأشدّ بن الجمحي : لا يبلغون رتوتي حتى أجهضهم عن جهنم .
وقوله : لِيَسْتَيْقِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ يقول تعالى ذكره : ليستيقن أهل التوراة والإنجيل حقيقة ما في كتبهم من الخبر عن عدّة خزَنة جهنم ، إذ وافق ذلك ما أنزل الله في كتابه على محمد صلى الله عليه وسلم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : لِيَسْتَيْقِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ وَيَزْدَادَ الّذِينَ آمَنُوا إيمَانا قال : وإنها في التوراة والإنجيل تسعة عشرة ، فأراد الله أن يستيقن أهل الكتاب ، ويزداد الذين آمنوا إيمانا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : لِيَسْتَيْقِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ قال : يجدونه مكتوبا عندهم عدّة خزَنة أهل النار .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة لِيَسْتَيْقِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ يصدّق القرآن الكتب التي كانت قبله فيها كلها ، التوراة والإنجيل أن خزنة النار تسعة عشر .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : لِيَسْتَيْقِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ قال : ليستيقن أهل الكتاب حين وافق عدّة خزنة النار ما في كتبهم .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : لِيَسْتَيْقِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ قال : عدّة خزنة جهنم تسعة عشر في التوراة والإنجيل .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : لِيَسْتَيْقِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ أنك رسول الله .
وقوله : وَيَزْدَادَ الّذِينَ آمَنُوا إيمَانا يقول تعالى ذكره : وليزداد الذين آمنوا بالله تصديقا إلى تصديقهم بالله وبرسوله بتصديقهم بعدّة خزنة جهنم .
وقوله : وَلا يَرْتابَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ وَالمُؤْمِنُونَ يقول : ولا يشكّ أهل التوراة والإنجيل في حقيقة ذلك والمؤمنون بالله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم .
وقوله : وَليَقُولَ الّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ والكافِرُونَ يقول تعالى ذكره : وليقول الذين في قلوبهم مرض النفاق ، والكافرون بالله من مشركي قريش ماذَا أرَادَ اللّهُ بِهَذَا مَثَلاً ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَلِيَقُولَ الّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ : أي نفاق .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَلِيَقُولَ الّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ والكافِرُونَ ماذَا أرَادَ اللّهُ بِهَذَا مَثَلاً يقول : حتى يخوّفنا بهؤلاء التسعة عشر .
وقوله : كَذَلكَ يُضِلّ اللّهُ مَنْ يَشاءُ ويَهْدِي مَنْ يَشاءُ يقول تعالى ذكره : كما أضل الله هؤلاء المنافقين والمشركين القائلين في خبر الله عن عدّة خزنة جهنم : أيّ شيء أراد الله بهذا الخبر من المثل حتى يخوّفنا بذكر عدتهم ، ويهتدي به المؤمنون ، فازدادوا بتصديقهم إلى إيمانهم إيمانا كَذلكَ يُضِل اللّهُ مَنْ يَشاءُ مِنْ خَلْقِهِ فيخذله عن إصابة الحقّ ويَهْدِي مَنْ يَشاءُ منهم ، فيوفقه لإصابة الصواب وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ من كثرتهم إلاّ هُوَ : يعني الله ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إلاّ هُوَ أي من كثرتهم .
وقوله : وَما هِيَ إلاّ ذِكْرَى للْبَشَرِ يقول تعالى ذكره : وما النار التي وصفتها إلا تذكرة ذكر بها البشر ، وهم بنو آدم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَما هِيَ إلاّ ذِكْرَى للْبَشَر يعني النار .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وَما هِيَ إلاّ ذِكْرَى للْبَشَر قال : النار .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة} يعنى خزن النار.
{وما جعلنا عدتهم} يعني قلتهم {إلا فتنة للذين كفروا} حين قال أبو الأشدين، وأبو جهل ما قالا، فأنزل الله تعالى في قول أبي جهل: ما لمحمد من الجنود إلا تسعة عشر، {وما يعلم جنود ربك إلا هو} يقول: ما يعلم كثرتهم أحد إلا الله... وأنزل الله في قول أبي الأشدين: أنا أكفيكم منهم سبعة عشر: {عليها ملائكة غلاظ شداد} [التحريم:6].
{وما جعلنا أصحب النار إلا ملائكة} يعنى خزان النار.
{وما جعلنا عدتهم} يعني قلتهم {إلا فتنة للذين كفروا} يعني أبا جهل، وأبا الأشدين، والمستهزئين من قريش،.
{ليستيقن} لكي يستيقن {الذين أوتوا الكتاب} يقول: ليعلم مؤمنو أهل التوراة أن الذي قال محمد صلى الله عليه وسلم حق، لأن عدة خزان جهنم في التوراة تسعة عشر.
{ويزداد الذين آمنوا إيمانا} يعني تصديقا، ولا يشكوا في محمد صلى الله عليه وسلم بما جاء به.
{ولا يرتاب} يقول: ولكي لا يرتاب يعني لكي لا يشك يقول: لئلا يشك {الذين أوتوا الكتاب} يعني أهل التوراة {و} لا يشك {والمؤمنون} أن خزنة جهنم تسعة عشر.
{وليقول الذين في قلوبهم مرض} يعني الشك، وهم اليهود من أهل المدينة {والكافرون} من أهل مكة، يعني مشركي العرب {ماذا أراد الله بهذا مثلا} يعني ذكره عدة خزنة جهنم، يستقلونهم.
{كذلك يضل الله} بهذا المثل {من يشاء} عن دينه {ويهدي من يشاء} إلى دينه. ثم رجع إلى سقر، فقال: {وما هي} يعني سقر {إلا ذكرى للبشر} يعني سقر تذكر وتفكر للعالم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وما جعلنا خزَنة النار إلا ملائكة. يقول لأبي جهل في قوله لقريش: أما يستطيع كلّ عشرة منكم أن تغلب منها واحدا؟ فمن ذا يغلب خزنة النار وهم الملائكة.
"وَما جَعَلْنا عِدّتَهُمْ إلاّ فِتْنَةً للّذِينَ كَفَرُوا"، يقول: وما جعلنا عدّة هؤلاء الخزنة إلا فتنة للذين كفروا بالله من مُشركي قريش.
"لِيَسْتَيْقِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ" يقول تعالى ذكره: ليستيقن أهل التوراة والإنجيل حقيقة ما في كتبهم من الخبر عن عدّة خزَنة جهنم، إذ وافق ذلك ما أنزل الله في كتابه على محمد صلى الله عليه وسلم، عن ابن عباس، قوله: "لِيَسْتَيْقِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ وَيَزْدَادَ الّذِينَ آمَنُوا إيمَانا"، قال: وإنها في التوراة والإنجيل تسعة عشرة، فأراد الله أن يستيقن أهل الكتاب، ويزداد الذين آمنوا إيمانا.
" وَلا يَرْتابَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ وَالمُؤْمِنُونَ" يقول: ولا يشكّ أهل التوراة والإنجيل في حقيقة ذلك والمؤمنون بالله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
"وَليَقُولَ الّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ والكافِرُونَ" يقول تعالى ذكره: وليقول الذين في قلوبهم مرض النفاق، والكافرون بالله من مشركي قريش ماذَا أرَادَ اللّهُ بِهَذَا مَثَلاً.
"كَذَلكَ يُضِلّ اللّهُ مَنْ يَشاءُ ويَهْدِي مَنْ يَشاءُ". يقول تعالى ذكره: كما أضل الله هؤلاء المنافقين والمشركين القائلين في خبر الله عن عدّة خزنة جهنم: أيّ شيء أراد الله بهذا الخبر من المثل حتى يخوّفنا بذكر عدتهم، ويهتدي به المؤمنون، فازدادوا بتصديقهم إلى إيمانهم إيمانا.
"كَذلكَ يُضِل اللّهُ مَنْ يَشاءُ" مِنْ خَلْقِهِ فيخذله عن إصابة الحقّ.
"ويَهْدِي مَنْ يَشاءُ" منهم، فيوفقه لإصابة الصواب.
"وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ" من كثرتهم "إلاّ هُوَ": يعني الله.
"وَما هِيَ إلاّ ذِكْرَى للْبَشَرِ" يقول تعالى ذكره: وما النار التي وصفتها إلا تذكرة ذكر بها البشر، وهم بنو آدم.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{وما هي إلا ذِكْرى للبَشَرِ} فيه ثلاثة أوجه:
الثالث: وما هذه السورة إلا تذكرة للناس، قاله ابن شجرة.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان هذا غير مميز للمعدود، وكانت الحكمة في تعيين هذا العد غير ظاهرة، وكان هذا العدد مما يستقله المتعنت فيزيده كفراً، قال تعالى- مبيناً لذلك: {وما جعلنا} أي بما لنا من العظمة وإن خفي وجه العظمة فيه على من عمي قلبه {أصحاب النار} أي خزنتها {إلا ملائكة} أي إنهم ليسوا من جنس المعذبين فيرقوا لهم ويطيق المعذبون محاولتهم أو يستريحوا إليهم وهم أقوى الخلق، وقد تكرر عليكم ذكرهم وعلمتم أوصافهم وأنهم ليسوا كالبشر، بل الواحد منهم يصيح صيحة واحدة فيهلك مدينة كاملة كما وقع لثمود، فكيف إذا كان كل واحد من هؤلاء الخزنة رئيساً تحت يده من الجنود ما لا يحصيه إلا الله تعالى {وما جعلنا} على ما لنا من العظمة {عدتهم} أي مذكورة ومحصورة فيما ذكرنا {إلا فتنة} أي حالة مخالطة مميلة محيلة {للذين كفروا} أي أوجدوا هذا الوصف ولو على أدنى الوجوه، فإنهم يستقلونه ويستهزئون به ويتعنتون أنواعاً من التعنت بحيث أن بعض أغبياء قريش وهو أبو جهل، قال: ثكلتكم أمهاتكم، أسمع ابن أبي كبشة يقول كذا وأنتم ألدهم، أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم، فقال أبو الأشد بن أسيد بن كلدة الجمحي -وكان شديد البطش: أنا أكفيكم سبعة عشر فاكفوني أنتم اثنين، وهذا كله على سبيل الاستهزاء، فإنهم مكذبون بالبعث الذي هذا من آثاره، وكان في علم أهل الكتاب أن هذه العدة عدتهم، وأن العرب إذا سمعوا هذه العدة كانت سبباً لشك أكثرهم وموضعاً للتعنت، فلذلك علق بالفتنة أو ب "جعلنا " قوله: {ليستيقن} أي يوجد اليقين إيجاداً تاماً كأنه بغاية الرغبة {الذين أوتوا الكتاب} بناه للمفعول لأن مطلق الإيتاء كاف في ذلك من غير احتياج إلى تعيين المؤتي مع أنه معروف أنه هو الله... {ويزداد الذين آمنوا} أي أوجدوا هذه الحقيقة ولو على أدنى الوجوه إلى ما عندهم من الإيمان {إيماناً} بتصديق ما لم يعلموا وجه حكمته لا سيما مع افتتان غيرهم به وكثرة كلامهم فيه، فإن الإيمان بمثل ذلك يكون أعظم. ولما أثبت لكل من الجاهل والعالم ما أثبت، أكده بنفي ضده مبيناً للفتنة فقال: {ولا يرتاب} أي يشك شكاً يحصل بتعمد وتكسب {الذين أوتوا الكتاب} لما عندهم من العلم المطابق لذلك.
{والمؤمنون} أي لا يرتاب الذين رسخ الإيمان عندهم لما رأوا من الدلائل التي جعلتهم في مثل ضوء النهار. {وليقول الذين} استقر {في قلوبهم مرض} أي شك أو نفاق وإن قل، ونزول هذه السورة قبل وجود المنافقين علم من أعلام النبوة، ولا ينكر جعل الله تعالى بعض الأمور علة لمصالح ناس وفساد آخرين، لأنه لا يسأل عما يفعل على أن العلة قد تكون مقصودة لشيء بالقصد الأول، ثم يرتب عليها شيء آخر يكون قصده بالقصد الثاني.
{والكافرون} أي ويقول الراسخون في الكفر الجازمون بالتكذيب المجاهرون به الساترون لما دلت عليه الأدلة من الحق {ماذا} أي أي شيء {أراد الله} أي الملك الذي له جميع العظمة {بهذا}: أي العدد القليل في جنب عظمته {مثلاً} أي من جهة أنه صار بذلك مستغرباً استغراب المثل، أو أن ذلك إشارة إلى أنه ليس المراد به ظاهره بل مثل لشيء لم يفهموه وفهموا أن بين استجماعه للعظمة وهذا العدد عناداً، وما علموا أن القليل من حيث العدد قد يكون أعظم بقوته من الكثير العدد، ويكون أدل على استجماع العظمة. ولما كان التقدير: أراد بهذا إضلال من ضل وهو لا يبالي، وهداية من اهتدى وهو لا يبالي، كان كأنه قيل: هل يفعل مثل هذا في غير هذا؟ فقال جواباً: {كذلك} أي مثل هذا المذكور من الإضلال والهداية {يضل الله} أي الذي له مجامع العظمة ومعاقد العز {من يشاء} بأي كلام شاء {ويهدي} بقدرته التامة {من يشاء} بنفس ذلك الكلام أو بغيره.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً} وذلك لشدتهم وقوتهم. {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} يحتمل أن المراد: إلا لعذابهم وعقابهم في الآخرة، ولزيادة نكالهم فيها، والعذاب يسمى فتنة، [كما قال تعالى: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ}] ويحتمل أن المراد: أنا ما أخبرناكم بعدتهم، إلا لنعلم من يصدق ومن يكذب، ويدل على هذا ما ذكر بعده في قوله: {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} فإن أهل الكتاب، إذا وافق ما عندهم وطابقه، ازداد يقينهم بالحق، والمؤمنون كلما أنزل الله آية، فآمنوا بها وصدقوا، ازداد إيمانهم، {وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ} أي: ليزول عنهم الريب والشك، وهذه مقاصد جليلة، يعتني بها أولو الألباب، وهي السعي في اليقين، وزيادة الإيمان في كل وقت، وكل مسألة من مسائل الدين، ودفع الشكوك والأوهام التي تعرض في مقابلة الحق، فجعل ما أنزله الله على رسوله محصلا لهذه الفوائد الجليلة، ومميزا للكاذبين من الصادقين، ولهذا قال: {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} أي: شك وشبهة ونفاق. {وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} وهذا على وجه الحيرة والشك، والكفر منهم بآيات الله، وهذا وذاك من هداية الله لمن يهديه، وإضلاله لمن يضل ولهذا قال: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} فمن هداه الله، جعل ما أنزله الله على رسوله رحمة في حقه، وزيادة في إيمانه ودينه، ومن أضله، جعل ما أنزله على رسوله زيادة شقاء عليه وحيرة، وظلمة في حقه، والواجب أن يتلقى ما أخبر الله به ورسوله بالتسليم، فإنه لا يعلم جنود ربك من الملائكة وغيرهم {إلَّا هُوَ} فإذا كنتم جاهلين بجنوده، وأخبركم بها العليم الخبير، فعليكم أن تصدقوا خبره، من غير شك ولا ارتياب، {وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} أي: وما هذه الموعظة والتذكار مقصودا به العبث واللعب، وإنما المقصود به أن يتذكر [به] البشر ما ينفعهم فيفعلونه، وما يضرهم فيتركونه
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة).. فهم من ذلك الخلق المغيب الذي لا يعلم طبيعته وقوته إلا الله؛ وقد قال لنا عنهم: إنهم (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) فقرر أنهم يطيعون ما يأمرهم به الله، وأن بهم القدرة على فعل ما يأمرهم. فهم إذن مزودون بالقوة التي يقدرون بها على كل ما يكلفهم الله إياه. فإذا كان قد كلفهم القيام على سقر، فهم مزودون من قبله سبحانه بالقوة المطلوبة لهذه المهمة، كما يعلمها الله، فلا مجال لقهرهم أو مغالبتهم من هؤلاء البشر المضعوفين! وما كان قولهم عن مغالبتهم إلا وليد الجهل الغليظ بحقيقة خلق الله وتدبيره للأمور. (وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا).. فهم الذين يثير ذكر العدد في قلوبهم رغبة الجدل؛ ولا يعرفون مواضع التسليم ومواضع الجدل. فهذا الأمر الغيبي كله من شأن الله، وليس لدى البشر عنه من علم كثير ولا قليل، فإذا أخبر الله عنه خبرا فهو المصدر الوحيد لهذا الطرف من الحقيقة، وشأن البشر هو تلقي هذا الخبر بالتسليم، والاطمئنان إلى أن الخير في ذكر هذا الطرف وحده، بالقدر الذي ذكره، وأن لا مجال للجدل فيه، فالإنسان إنما يجادل فيما لديه عنه علم سابق يناقض الخبر الجديد أو يغايره. أما لماذا كانوا تسعة عشر [أيا كان مدلول هذا العدد] فهو أمر يعلمه الله الذي ينسق الوجود كله، ويخلق كل شيء بقدر. وهذا العدد كغيره من الأعداد. والذي يبغي الجدل يمكنه أن يجادل وأن يعترض على أي عدد آخر وعلى أي أمر آخر بنفس الاعتراض.. لماذا كانت السماوات سبعا؟ لماذا كان خلق الإنسان من صلصال كالفخار وخلق الجان من مارج من نار؟ لماذا كان حمل الجنين تسعة أشهر؟ لماذا تعيش السلاحف آلاف السنين؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟ والجواب: لأن صاحب الخلق والأمر يريد ويفعل ما يريد! هذا هو فصل الخطاب في مثل هذه الأمور.. (ليستيقن الذين أوتوا الكتاب، ويزداد الذين آمنوا إيمانا، ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون).. فهؤلاء وهؤلاء سيجدون في عدد حراس سقر ما يدعو بعضهم إلى اليقين ويدعو البعض إلى ازدياد الإيمان. فأما الذين أوتوا الكتاب فلا بد أن لديهم شيئا عن هذه الحقيقة، فإذا سمعوها من القرآن استيقنوا أنه مصدق لما بين يديهم عنها. وأما الذين آمنوا فكل قول من ربهم يزيدهم إيمانا. لأن قلوبهم مفتوحة موصولة تتلقى الحقائق تلقيا مباشرا؛ وكل حقيقة ترد إليها من عند الله تزيدها أنسا بالله.. وستشعر قلوبهم بحكمة الله في هذا العدد، وتقديره الدقيق في الخلق، فتزيد قلوبهم إيمانا. وتثبت هذه الحقيقة في قلوب هؤلاء وهؤلاء فلا يرتابون بعدها فيما يأتيهم من عند الله. (وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون: ماذا أراد الله بهذا مثلا؟).. وهكذا تترك الحقيقة الواحدة أثرين مختلفين في القلوب المختلفة.. فبينما الذين أوتوا الكتاب يستيقنون، والذين آمنوا يزيدون إيمانا، إذا بالذين كفروا وضعاف القلوب المنافقون في حيرة يتساءلون: (ماذا أراد الله بهذا مثلا؟).. فهم لا يدركون حكمة هذا الأمر الغريب. ولا يسلمون بحكمة الله المطلقة في تقدير كل خلق. ولا يطمئنون إلى صدق الخبر والخير الكامن في إخراجه من عالم الغيب إلى عالم الشهادة.. (كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء).. كذلك. بذكر الحقائق وعرض الآيات. فتتلقاها القلوب المختلفة تلقيا مختلفا. ويهتدي بها فريق وفق مشيئة الله؛ ويضل بها فريق حسب مشيئة الله. فكل أمر مرجعه في النهاية إلى إرادة الله المطلقة التي ينتهي إليها كل شيء. وهؤلاء البشر خرجوا من يد القدرة باستعداد مزدوج للهدى وللضلال؛ فمن اهتدى ومن ضل كلاهما يتصرف داخل حدود المشيئة التي خلقتهم بهذا الاستعداد المزدوج، ويسرت لهم التصرف في هذا أو ذاك، في حدود المشيئة الطليقة، ووفق حكمة الله المكنونة. وتصور طلاقة المشيئة وانتهاء كل ما يقع في هذا الوجود إليها تصورا كاملا واسع المدلول، يعفي العقول من الجدل الضيق حول ما يسمونه الجبر والإرادة. وهو الجدل الذي لا ينتهي إلى تصور صحيح، بسبب أنه يتناول المسألة من زاوية ضيقة، ويضعها في أشكال محددة نابعة من منطق الإنسان وتجاربه وتصوراته المحدودة! بينما هو يعالج قضية من قضايا الألوهية غير المحدودة! لقد كشف الله لنا عن طريق الهدى وطريق الضلال. وحدد لنا نهجا نسلكه فنهتدي ونسعد ونفوز. وبين لنا نهوجا ننحرف إليها فنضل ونشقى ونخسر. ولم يكلفنا أن نعلم وراء ذلك شيئا، ولم يهبنا القدرة على علم شيء وراء هذا. وقال لنا: إن إرادتي مطلقة وإن مشيئتي نافذة.. فعلينا أن نعالج -بقدر طاقتنا- تصور حقيقة الإرادة المطلقة والمشيئة النافذة. وأن نلتزم النهج الهادئ ونتجنب النهوج المضللة. ولا ننشغل في جدل عقيم حول ما لم نوهب القدرة على إدراك كنهه من الغيب المكنون. ومن ثم ننظر فنرى كل ما أنفقه المتكلمون في مسألة القدر على النحو الذي تكلموا به جهدا ضائعا لا طائل وراءه لأنه في غير ميدانه.. إننا لا نعلم مشيئة الله المغيبة بنا، ولكننا نعلم ماذا يطلب الله منا لنستحق فضله الذي كتبه على نفسه. وعلينا إذن أن ننفق طاقتنا في أداء ما كلفنا، وأن ندع له هو غيب مشيئته فينا. والذي سيكون هو مشيئته، وعندما يكون سنعرف أن هذه مشيئته لا قبل كونه! والذي سيكون وراءه حكمة يعرفها العليم بالكل المطلق.. وهو الله وحده.. وهذا هو طريق المؤمن في التصور ومنهجه في التفكر.. (وما يعلم جنود ربك إلا هو).. فهي غيب. حقيقتها. ووظيفتها. وقدرتها.. وهو يكشف عما يريد الكشف عنه من أمرها، وقوله هو الفصلفي شأنها. وليس لقائل بعده أن يجادل أو يماحك أو يحاول معرفة ما لم يكشف الله عنه، فليس إلى معرفة هذا من سبيل.. (وما هي إلا ذكرى للبشر).. (وهي) إما أن تكون هي جنود ربك، وإما أن تكون هي سقر ومن عليها. وهي من جنود ربك. وذكرها جاء لينبه ويحذر؛ لا لتكون موضوعا للجدل والمماحكة! والقلوب المؤمنة هي التي تتعظ بالذكرى، فأما القلوب الضالة فتتخذها مماحكة وجدلا.