جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري  
{قُلۡ إِن كَانَتۡ لَكُمُ ٱلدَّارُ ٱلۡأٓخِرَةُ عِندَ ٱللَّهِ خَالِصَةٗ مِّن دُونِ ٱلنَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ ٱلۡمَوۡتَ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ} (94)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدّارُ الاَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مّن دُونِ النّاسِ فَتَمَنّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ }

قال أبو جعفر : وهذه الآية مما احتجّ الله بها لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم على اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجره ، وفضح بها أحبارهم وعلماءهم . وذلك أن الله جل ثناؤه أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعوهم إلى قضية عادلة بينه وبينهم فيما كان بينه وبينهم من الخلاف ، كما أمره الله أن يدعو الفريق الاَخر من النصارى إذ خالفوه في عيسى صلوات الله عليه وجادلوا فيه إلى فاصلة بينه وبينهم من المباهلة . وقال لفريق اليهود : إن كنتم محقين فتمنوا الموت ، فإن ذلك غير ضاركم إن كنتم محقين فيما تدّعون من الإيمان وقرب المنزلة من الله ، بل إن أعطيتم أمنيتكم من الموت إذا تمنيتم فإنما تصيرون إلى الراحة من تعب الدنيا ونصبها وكدر عيشها والفوز بجوار الله في جنانه ، إن كان الأمر كما تزعمون أن الدار الاَخرة لكم خالصة دوننا . وإن لم تُعْطَوْها علم الناس أنكم المبطلون ونحن المحقون في دعوانا وانكشف أمرنا وأمركم لهم . فامتنعت اليهود من إجابة النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى ذلك لعلمها أنها إن تمنت الموت هلكت فذهبت دنياها وصارت إلى خزي الأبد في آخرتها . كما امتنع فريق النصارى الذين جادلوا النبيّ صلى الله عليه وسلم في عيسى إذ دُعوا إلى المباهلة من المباهلة فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «لَوْ أنّ اليَهُودَ تَمَنّوُا المَوْتَ لَمَاتُوا وَلَرَأَوْا مَقاعِدَهُمْ مِنَ النّارِ ، وَلَوْ خَرَجَ الّذِينَ يُبَاهِلُونَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم لَرَجَعُوا لا يَجِدُونَ أَهْلاً وَلا مالاً » .

حدثنا بذلك أبو كريب ، قال : حدثنا أبو زكريا بن عديّ ، قال : حدثنا عبيد الله بن عمرو ، عن عبد الكريم ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثام بن عليّ ، عن الأعمش ، عن ابن عباس في قوله : { فَتَمَنّوُا المَوْتَ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } قال : لو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقه .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن عبد الكريم الجزري ، عن عكرمة في قوله : { فَتَمَنّوُا المَوْتَ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } قال : قال ابن عباس : لو تمنى اليهود الموت لماتوا .

حدثني موسى ، قال : أخبرنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، عن ابن عباس ، مثله .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني ابن إسحاق ، قال : حدثني محمد بن أبي محمد ، قال أبو جعفر فيما أروي : أنبأنا عن سعيد أو عكرمة ، عن ابن عباس قال : لو تمنوه يوم قال لهم ذلك ، ما بقي على ظهر الأرض يهودي إلا مات .

قال أبو جعفر : فانكشف ، لمن كان مشكلاً عليه أمر اليهود يومئذ ، كذبهم وبَهْتهم وبغيهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وظهرت حجة رسول الله وحجة أصحابه عليهم ، ولم تزل والحمد لله ظاهرة عليهم وعلى غيرهم من سائر أهل الملل . وإنما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم : { فَتَمَنّوُا المَوْتَ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ لأنهم } فيما ذكر لنا قالُوا { نَحْنُ أبْناءُ اللّهِ وأحبّاؤهُ } وقالوا : { لَنْ يَدْخُلَ الجَنّةَ إلاّ مَنْ كَانَ هُودا أوْ نَصَارَى } فقال الله لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم : قل لهم إن كنتم صادقين فيما تزعمون فتمنوا الموت فأبان الله كذبهم بامتناعهم من تمني ذلك ، وأفلج حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقد اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعو اليهود أن يتمنوا الموت ، وعلى أيّ وجه أمروا أن يتمنوه .

فقال بعضهم : أمروا أن يتمنوه على وجه الدعاء على الفريق الكاذب منهما . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني ابن إسحاق ، قال : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن سعيد أو عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم : { قُلْ إنْ كَانَتْ لَكُمُ الدّارُ الاَخِرَة عندَ اللّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النّاسِ ، فَتَمَنّوا المَوْتَ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أي ادعوا بالموت على أيّ الفريقين أكذب . وقال آخرون بما :

حدثني بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { قُلْ إنْ كانَتْ لَكُمُ الدّارُ الاَخِرَةُ عِنْدَ اللّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النّاسِ } وذلك أنهم قالُوا لَنْ يَدْخُلَ الجَنّةَ إلاّ مَنْ كانَ هُودا أوْ نَصارى وَقالُوا : { نحْنُ أبْناءُ اللّهِ وأحِبّاؤُهُ } فقيل لهم :

{ فَتَمَنّوُا المَوْتَ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، قال : قالت اليهود : { لَنْ يَدْخُلَ الجَنّةَ إلاّ مَنْ كَانَ هُودا أوْ نَصَارَى } ، { وَقالُوا : نَحْنُ أبْناءُ اللّهِ وأحِبّاؤُهُ } فقال الله : { قُلْ إنْ كانَتْ لَكُمُ الدّارُ الاَخِرَةُ عِنْدَ الله خَالِصَةً مِنْ دُونِ النّاسِ فَتَمَنّوُا المَوْتَ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } فلم يفعلوا .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثني أبو جعفر ، عن الربيع قوله : { قُلْ إنْ كانَتْ لَكُمُ الدّارُ الاَخِرَةُ عِنْدَ اللّهِ خَالِصَةً } الآية ، وذلك بأنهم قالُوا { لَنْ يَدْخُلَ الجَنّةَ إلاّ مَنْ كانَ هُودا أوْ نَصَارَى } وقالُوا : { نَحْنُ أَبْناءُ اللّهِ وأحِباؤُهُ } .

وأما تأويل قوله : { قلْ إنْ كانَت لَكُمُ الدّارُ الاَخِرَةِ عِنْدَ اللّهِ خَالِصَةً }فإنه يقول : قل يا محمد إن كان نعيم الدار الاَخرة ولذاتها لكم يا معشر اليهود عند الله . فاكتفى بذكر «الدار » من ذكر نعيمها لمعرفة المخاطبين بالآية معناها . وقد بينا معنى الدار الاَخرة فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .

وأما تأويل قوله : خالِصَةً فإنه يعني به صافية ، كما يقال : خلص لي فلان بمعنى صار لي وحدي وصَفَا لي يقال : منه خلص لي هذا الشيء ، فهو يخلص خُلُوصا وخالصة ، والخالصة مصدر مثل العافية ، ويقال للرجل : هذا خُلْصاني ، يعني خالصتي من دون أصحابي . وقد رُوي عن ابن عباس أنه كان يتأول قوله : خالِصَةً خاصة ، وذلك تأويل قريب من معنى التأويل الذي قلناه في ذلك .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك عن ابن عباس : { قُلْ إنْ كانَتْ لَكُمُ الدّارُ الاَخِرَةُ } قال : قل يا محمد لهم يعني اليهود إن كانت لكم الدار الاَخرة يعني الخير عِنْدَ اللّهِ خَالِصَةً يقول : خاصة لكم .

وأما قوله : مِنْ دُونِ النّاسِ فإن الذي يدل عليه ظاهر التنزيل أنهم قالوا : لنا الدار الاَخرة عند الله خالصة من دون جميع الناس . ويبين أن ذلك كان قولهم من غير استثناء منهم من ذلك أحدا من بني آدم إخبارُ الله عنهم أنهم قالوا : { لَنْ يَدْخُلَ الجَنّةَ إلاّ مَنْ كانَ هُودا أوْ نَصَارَى } . إلا أنه رُوي عن ابن عباس قول غير ذلك .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : { مِنْ دُونِ النّاسِ } يقول : من دون محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين استهزأتم بهم ، وزعمتم أن الحق في أيديكم ، وأن الدار الاَخرة لكم دونهم .

وأما قوله : { فَتَمَنّوُا المَوْتَ } فإن تأويله : تشهّوه وأَرِيدُوه . وقد رُوي عن ابن عباس أنه قال في تأويله : «فسلوا الموت » . ولا يعرف التمني بمعنى المسألة في كلام العرب ، ولكن أحسب أن ابن عباس وجه معنى الأمنية إذا كانت محبة النفس وشهوتها إلى معنى الرغبة والمسألة ، إذ كانت المسألة هي رغبة السائل إلى الله فيما سأله .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك عن ابن عباس : { فَتَمَنّوُ ا المَوْتَ } فسلوا الموت { إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } .