{ قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدّارُ الاَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مّن دُونِ النّاسِ فَتَمَنّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ }
قال أبو جعفر : وهذه الآية مما احتجّ الله بها لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم على اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجره ، وفضح بها أحبارهم وعلماءهم . وذلك أن الله جل ثناؤه أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعوهم إلى قضية عادلة بينه وبينهم فيما كان بينه وبينهم من الخلاف ، كما أمره الله أن يدعو الفريق الاَخر من النصارى إذ خالفوه في عيسى صلوات الله عليه وجادلوا فيه إلى فاصلة بينه وبينهم من المباهلة . وقال لفريق اليهود : إن كنتم محقين فتمنوا الموت ، فإن ذلك غير ضاركم إن كنتم محقين فيما تدّعون من الإيمان وقرب المنزلة من الله ، بل إن أعطيتم أمنيتكم من الموت إذا تمنيتم فإنما تصيرون إلى الراحة من تعب الدنيا ونصبها وكدر عيشها والفوز بجوار الله في جنانه ، إن كان الأمر كما تزعمون أن الدار الاَخرة لكم خالصة دوننا . وإن لم تُعْطَوْها علم الناس أنكم المبطلون ونحن المحقون في دعوانا وانكشف أمرنا وأمركم لهم . فامتنعت اليهود من إجابة النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى ذلك لعلمها أنها إن تمنت الموت هلكت فذهبت دنياها وصارت إلى خزي الأبد في آخرتها . كما امتنع فريق النصارى الذين جادلوا النبيّ صلى الله عليه وسلم في عيسى إذ دُعوا إلى المباهلة من المباهلة فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «لَوْ أنّ اليَهُودَ تَمَنّوُا المَوْتَ لَمَاتُوا وَلَرَأَوْا مَقاعِدَهُمْ مِنَ النّارِ ، وَلَوْ خَرَجَ الّذِينَ يُبَاهِلُونَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم لَرَجَعُوا لا يَجِدُونَ أَهْلاً وَلا مالاً » .
حدثنا بذلك أبو كريب ، قال : حدثنا أبو زكريا بن عديّ ، قال : حدثنا عبيد الله بن عمرو ، عن عبد الكريم ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثام بن عليّ ، عن الأعمش ، عن ابن عباس في قوله : { فَتَمَنّوُا المَوْتَ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } قال : لو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقه .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن عبد الكريم الجزري ، عن عكرمة في قوله : { فَتَمَنّوُا المَوْتَ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } قال : قال ابن عباس : لو تمنى اليهود الموت لماتوا .
حدثني موسى ، قال : أخبرنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، عن ابن عباس ، مثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني ابن إسحاق ، قال : حدثني محمد بن أبي محمد ، قال أبو جعفر فيما أروي : أنبأنا عن سعيد أو عكرمة ، عن ابن عباس قال : لو تمنوه يوم قال لهم ذلك ، ما بقي على ظهر الأرض يهودي إلا مات .
قال أبو جعفر : فانكشف ، لمن كان مشكلاً عليه أمر اليهود يومئذ ، كذبهم وبَهْتهم وبغيهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وظهرت حجة رسول الله وحجة أصحابه عليهم ، ولم تزل والحمد لله ظاهرة عليهم وعلى غيرهم من سائر أهل الملل . وإنما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم : { فَتَمَنّوُا المَوْتَ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ لأنهم } فيما ذكر لنا قالُوا { نَحْنُ أبْناءُ اللّهِ وأحبّاؤهُ } وقالوا : { لَنْ يَدْخُلَ الجَنّةَ إلاّ مَنْ كَانَ هُودا أوْ نَصَارَى } فقال الله لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم : قل لهم إن كنتم صادقين فيما تزعمون فتمنوا الموت فأبان الله كذبهم بامتناعهم من تمني ذلك ، وأفلج حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعو اليهود أن يتمنوا الموت ، وعلى أيّ وجه أمروا أن يتمنوه .
فقال بعضهم : أمروا أن يتمنوه على وجه الدعاء على الفريق الكاذب منهما . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني ابن إسحاق ، قال : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن سعيد أو عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم : { قُلْ إنْ كَانَتْ لَكُمُ الدّارُ الاَخِرَة عندَ اللّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النّاسِ ، فَتَمَنّوا المَوْتَ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أي ادعوا بالموت على أيّ الفريقين أكذب . وقال آخرون بما :
حدثني بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { قُلْ إنْ كانَتْ لَكُمُ الدّارُ الاَخِرَةُ عِنْدَ اللّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النّاسِ } وذلك أنهم قالُوا لَنْ يَدْخُلَ الجَنّةَ إلاّ مَنْ كانَ هُودا أوْ نَصارى وَقالُوا : { نحْنُ أبْناءُ اللّهِ وأحِبّاؤُهُ } فقيل لهم :
{ فَتَمَنّوُا المَوْتَ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، قال : قالت اليهود : { لَنْ يَدْخُلَ الجَنّةَ إلاّ مَنْ كَانَ هُودا أوْ نَصَارَى } ، { وَقالُوا : نَحْنُ أبْناءُ اللّهِ وأحِبّاؤُهُ } فقال الله : { قُلْ إنْ كانَتْ لَكُمُ الدّارُ الاَخِرَةُ عِنْدَ الله خَالِصَةً مِنْ دُونِ النّاسِ فَتَمَنّوُا المَوْتَ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } فلم يفعلوا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثني أبو جعفر ، عن الربيع قوله : { قُلْ إنْ كانَتْ لَكُمُ الدّارُ الاَخِرَةُ عِنْدَ اللّهِ خَالِصَةً } الآية ، وذلك بأنهم قالُوا { لَنْ يَدْخُلَ الجَنّةَ إلاّ مَنْ كانَ هُودا أوْ نَصَارَى } وقالُوا : { نَحْنُ أَبْناءُ اللّهِ وأحِباؤُهُ } .
وأما تأويل قوله : { قلْ إنْ كانَت لَكُمُ الدّارُ الاَخِرَةِ عِنْدَ اللّهِ خَالِصَةً }فإنه يقول : قل يا محمد إن كان نعيم الدار الاَخرة ولذاتها لكم يا معشر اليهود عند الله . فاكتفى بذكر «الدار » من ذكر نعيمها لمعرفة المخاطبين بالآية معناها . وقد بينا معنى الدار الاَخرة فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
وأما تأويل قوله : خالِصَةً فإنه يعني به صافية ، كما يقال : خلص لي فلان بمعنى صار لي وحدي وصَفَا لي يقال : منه خلص لي هذا الشيء ، فهو يخلص خُلُوصا وخالصة ، والخالصة مصدر مثل العافية ، ويقال للرجل : هذا خُلْصاني ، يعني خالصتي من دون أصحابي . وقد رُوي عن ابن عباس أنه كان يتأول قوله : خالِصَةً خاصة ، وذلك تأويل قريب من معنى التأويل الذي قلناه في ذلك .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك عن ابن عباس : { قُلْ إنْ كانَتْ لَكُمُ الدّارُ الاَخِرَةُ } قال : قل يا محمد لهم يعني اليهود إن كانت لكم الدار الاَخرة يعني الخير عِنْدَ اللّهِ خَالِصَةً يقول : خاصة لكم .
وأما قوله : مِنْ دُونِ النّاسِ فإن الذي يدل عليه ظاهر التنزيل أنهم قالوا : لنا الدار الاَخرة عند الله خالصة من دون جميع الناس . ويبين أن ذلك كان قولهم من غير استثناء منهم من ذلك أحدا من بني آدم إخبارُ الله عنهم أنهم قالوا : { لَنْ يَدْخُلَ الجَنّةَ إلاّ مَنْ كانَ هُودا أوْ نَصَارَى } . إلا أنه رُوي عن ابن عباس قول غير ذلك .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : { مِنْ دُونِ النّاسِ } يقول : من دون محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين استهزأتم بهم ، وزعمتم أن الحق في أيديكم ، وأن الدار الاَخرة لكم دونهم .
وأما قوله : { فَتَمَنّوُا المَوْتَ } فإن تأويله : تشهّوه وأَرِيدُوه . وقد رُوي عن ابن عباس أنه قال في تأويله : «فسلوا الموت » . ولا يعرف التمني بمعنى المسألة في كلام العرب ، ولكن أحسب أن ابن عباس وجه معنى الأمنية إذا كانت محبة النفس وشهوتها إلى معنى الرغبة والمسألة ، إذ كانت المسألة هي رغبة السائل إلى الله فيما سأله .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك عن ابن عباس : { فَتَمَنّوُ ا المَوْتَ } فسلوا الموت { إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.