التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{إِن تَسۡتَفۡتِحُواْ فَقَدۡ جَآءَكُمُ ٱلۡفَتۡحُۖ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۖ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدۡ وَلَن تُغۡنِيَ عَنكُمۡ فِئَتُكُمۡ شَيۡـٔٗا وَلَوۡ كَثُرَتۡ وَأَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (19)

وبعد أن ذكر - سبحانه - عباده المؤمنين بما حباهم به من منن في عزوة بدر ، ليستمروا على طاعتهم له ولرسوله . . أتبع ذلك بتوجيه الخطاب إلى الكافرين الذين حملهم الرسوخ في الكفر على أن يدعو الله أن يجعل الدائرة في بدر على أضل الفريقين فقال - تعالى - : { إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ الله مَعَ المؤمنين } .

روى الإِمام أحمد والنسائى والحاكم وصححه ، عن ثعلبة ، أن أبا جهل قال حين التقى القوم - في بدر - : اللهم أقطعنا للرحم ، وأتانا بما لا نعرفه ، فأحنه - أي فأهلكه - الغداة . فكان المستفتح .

وعن السدى أن المشركين حين خرجوا من مكة إلى بدر أخذوا بأستار الكعبة فاستنصروا الله وقالوا : اللهم انصر أهدى الجندين ، وأكرم الفئتين ، وخير القبيلتين . فقال - تعالى - { إِن تَسْتَفْتِحُواْ . . . } الآية .

قال الراغب : وقوله : { إِن تَسْتَفْتِحُواْ } أى : إن طلبتم الظفر ، أو طلبتم لافتاح أي الحكم . . والفتح إزالة الإِغلاق والإِشكال . . ويقال : فتح القضية فتاحا . أي فصل الأمر فيها وأزال الإِغلاق عنها . قال - تعالى - : { وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ . . . } والمعنى : إن تطلبوا الفتح أى : القضاء والفصل بينكم وبين أعدائكم المؤمنين { فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح } أى : فقد جاءكم الفصل والقضاء فيما طلبتم حيث حكم الله وقضى بينكم وبين المؤمنين ، بأن أعزهم ونصرهم لأنهم على الحق ، وخذلكم وأذلكم لأنكم على الباطل .

فالخطاب مسوق للكفارين على سبيل التهكم بهم ، والتوبيخ لهم ، حيث طلبوا من الله - تعالى - القضاء بينهم وبين المؤمنين ، والنصر عليهم ، فكان الأمر على عكس ما أرادوا حيث حكم الله فيهم بحكمه العادل وهو خذلانهم لكفرهم وجحودهم ، وإعلاء كلمة المؤمنين ، لأنهم على الطريق القويم .

وقوله : { وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } أى : وأن تنتهوا عن الكفر وعداوة الحق ، يكن هذا الانتهاء خيراً لكم من الكفر ومحاربة الحق .

وقوله : { وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ . . . } تحذير لهم من التمادى في الباطل بعد ترغيبهم في الانقياد للحق .

أى : { وَإِن تَعُودُواْ } إلى محاربة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين وعداوتهم { نَعُدْ } عليكم بالهزيمة والذلة . وعلى المؤمنين بالنصر والعزة ، ولن تستطيع فئتكم وجماعتكم - ولو كثرت - أن تدفع عنكم شياً من تلك الهزيمة وهذه الذلة ، فإن الكثرة والقوة لا وزن لها ولا قيمة إذا لم يكن الله مع أصحابها بعونه وتأييده .

وقوله : { وَأَنَّ الله مَعَ المؤمنين } تذييل قصد به تثبيت المؤمنين ، وإلقاء الطمأنينة في نفوسهم .

أى : وأن الله مع المؤمنين بعونه وتأييده ، ومن كان الله معه فلن يغلبه غالب مهما بلغت قوته .

قال الجمل : " قرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم بفتح " أن " والباقون بكسرها فالفتح من أوجه :

أحدها : أنه على لام العلة والمعلل تقديره ، ولأن الله مع المؤمنين كان كيت وكيت .

والثانى : أن التقدير : ولأن الله مع المؤمنين امتنع عنادهم . والثالث أنه خبر مبتدأ محذوف . أى : والأمر أن الله مع المؤمنين .

والوجه الأخير يقرب في المعنى من قراءة الكسر لأنه استئناف .

هذا وما جرينا عليه من أن الخطاب في قوله - تعالى - { إِن تَسْتَفْتِحُواْ .

. } للمشركين هو رأى جمهور المفسرين .

ومنهم من يرى أن الخطاب في الآية الكريمة للمؤمنين ، وعليه يكون المعنى : { إِن تَسْتَفْتِحُواْ . . . } أي تطلبوا - أيها المؤمنون - النصر على أعدائكم { فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح } أى : فقد جاءكم النصر من عند الله كما طلبتم .

{ وَإِن تَنتَهُواْ } أي عن المنازعة في أمر الانفال ، وعن التكاسل في طاعة الله ورسوله ، { فَهُوَ } أي هذا الانتهاء { خَيْرٌ لَّكُمْ } .

{ وَإِن تَعُودُواْ } إلى المنازعات والتكاسل { نَعُدْ } عليكم بالإِنكار وتهييج الأعداء .

{ وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ } أى : ولن تفيدكم كثرتكم شيئاً مهما كثرت إن لم يكن الله معكم بنصره .

وأن الله - تعالى - مع المؤمنين الصادقين في إيمانهم وطاعتهم له .

والذى يبدو لنا أن كون الخطاب للكافرين أرجح ، لأن أسباب النزول تؤيده ، فقد سبق أن بينا أن الكافرين عند خروجهم إلى بدر تعلقوا بأستار الكعبة وقالوا : اللهم انصر اهدى الجندين . . وأن أبا جهل قال حين التقى القوم :

اللهم أينا أقطع للرحم . . فأحنه الغداة . قال ابن جرير : فكان ذلك استفتاحه ، فأنزل الله في ذلك { إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح . . } .

ولعل مما يرجح أن الخطاب في قوله - تعالى - { إِن تَسْتَفْتِحُواْ . . . } للكافرين ، أن بعض المفسرين - كان جرير وابن كثير - ساروا في تفسيرهم للآية على ذلك ، وأهملوا الرأى القائل بأن الخطاب للمؤمنين فلم يذكروه أصلا .

أما صاحب الكشاف فقد ذكره بصيغة " وقيل " وصدر كلامه بكون الخطاب للكافرين فقال : قوله - تعالى - : { إِن تَسْتَفْتِحُواْ . . } خطاب لأهل مكة على سبيل التهكم . وذلك أنهم حين أرادوا أن ينفروا تعلقوا بأستار الكعبة وقالوا : اللهم انصر أقرانا للضيف ، وأوصلنا للرحم ، وأفكنا للعانى . . .

وبذلك نرى هذه الآيات الكريمة التي افتتحت بنداء المؤمنين ، قد أمرتهم بالثبات عند لقاء الأعداء . . وبينت لهم جوانب من مظاهر فضل الله عليهم ، ورعايته لهم . . وغربت المشركين في الانتهاء عن شركهم وعن محاربتهم للحق ، وحذرتهم من التمادى في باطلهم وطغيانهم . . وأخبرتهم في ختامها بأن الله - تعالى - مع المؤمنين بتأييده ونصره .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{إِن تَسۡتَفۡتِحُواْ فَقَدۡ جَآءَكُمُ ٱلۡفَتۡحُۖ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۖ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدۡ وَلَن تُغۡنِيَ عَنكُمۡ فِئَتُكُمۡ شَيۡـٔٗا وَلَوۡ كَثُرَتۡ وَأَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (19)

جمهور المفسرين جعلوا الخطاب موجهاً إلى المشركين ، فيكون الكلام اعتراضاً خوطب به المشركون في خلال خطبات المسلمين بمناسبة قوله : { ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين } [ الأنفال : 18 ] والخطاب التفات من طريق الغيبة الذي اقتضاه قوله : { وأن الله موهن كيد الكافرين } [ الأنفال : 18 ] وذكر المفسرون في سبب نزولها أن أبا جهل وأصحابه لما أزمعوا الخروج إلى بدر استنصروا الله تجاه الكعبة ، وأنهم قبل أن يشرعوا في القتال يومَ بدر استنصروا الله أيضاً وقالوا ربنا افتح بيننا وبين محمد وأصحابه ، فخوطبوا بأن قد جاءهم الفتح على سبيل التهكم أي الفتح الذي هو نصر المسلمين عليهم .

وإنما كان تهكماً لأن في معنى { جاءكم الفتح } استعارة المجيء للحصول عندهم تشبيهاً بمجيء المُنجد لأن جعل الفتح جاءيا إياهم . يقتضي أن النصر كان في جانبهم ولمنفعتهم ، والواقع يخالف ذلك ، فعُلم أن الخبر مستعمل في التهكم بقرينة مخالفته الواقع بمسمع المخاطبين ومرآهم .

وحَمل ابن عطية فعل { جاءكم } على معنى : فقد تبين لكم النصر ورأيتموه أنه عليكم لا لكم ، وعلى هذا يكون المجيء بمعنى الظهور : مثل { وجاء ربك } [ الفجر : 22 ] ومثل { جاء الحق وزهق الباطل } [ الإسراء : 81 ] ولا يكون في الكلام تهكم .

وصيغ { تستفتحوا } بصيغة المضارع مع أن الفعل مضى لقصد استحضار الحالة من تكريرهم الدعاء بالنصر على المسلمين ، وبذلك تظهر مناسبة عطف { وإن تنتهوا فهو خير لكم } إلى قوله { وأن الله مع المؤمنين } أي تنتهوا عن كفركم بعد ظهور الحق في جانب المسلمين .

وعطف الوعيدُ على ذلك بقوله : { وإن تَعُودوا نعد } أي : إن تعودوا إلى العناد والقتال نعد ، أي نعد إلى هزمكم كما فعلنا بكم يوم بدر .

ثم أيْأسهم من الانتصار في المستقبل كله بقوله : { ولن تُغني عنكم فئتكم شيئاً ولو كثرت } أي لا تنفعكم جماعتكم على كثرتها كما لم تغن عنكم يوم بدر ، فإن المشركين كانوا يومئذٍ واثقين بالنصر على المسلمين لِكثرة عَددهم وعُدَدهم . والظاهر أن جملة : { إن تعودوا } معطوفة على جملة الجزاء وهي : { فقد جاءكم الفتح } .

و { لو } اتصالية أي { لن } تغني عنكم في حال من الأحوال ولو كانت في حال كثرة على فئةِ أعدَائِكم ، وصاحب الحال المقترنة ب ( لو ) الاتصالية قد يكون متصفاً بمضمونها ، وقد يَكون متصفاً بنقيضه ، فإن كان المراد من العَود في قوله : { وإن تعودوا } العود إلى طلب النصر للمُحق فالمعنى واضح ، وإن كان المراد منه العود إلى محاربة المسلمين فقد يشكل بأن المشركين انتصروا على المسلمين يومَ أُحُد فلم يتحقق معنى نَعُد ولا موقع لجملة : { ولن تغني عنكم فئتكم } فإن فئتهم أغنت عنهم يوم أُحُد .

والجواب عن هذا إشكال أن الشرط لم يكن بأداة شرط مما يفيد العموم مثل ( مَهْما ) فلا يُبطله تخلف حصول مضمون الجزاء عن حصول الشرط في مرة ، أو نقول إن الله قضى للمسلمين بالنصر يوم اُحُد ، ونصرهم وعلم المشركون أنهم قد غُلبوا ثم دارت الهزيمة على المسلمين ؛ لأنهم لم يمتثلوا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبرَحوا عن الموضع الذي أمرهم أن لا يبرحوا عنه طلباً للغنيمة فعوقبوا بالهزيمة كما قال : { وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله } [ آل عمران : 166 ] وقال { إن الذين تَولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا } وقد مضى ذلك في سورة [ آل عمران : 155 ] ، وبعدُ ففي هذا الوعيد بشارة أن النصر الحاسم سيكون للمسلمين وهو نصر يوم فتح مكة .

وجملة : { وأن الله مع المؤمنين } على هذا التفسير زيادة في تأييس المشركين من النصر ، وتنويه بفضل المؤمنين بأن النصر الذي انتصروه هو من الله لا بأسبابهم فإنهم دون المشركين عدداً وعُدة .

ومن المفسرين من جعل الخطاب بهذه الآية للمسلمين ، ونسب إلى أُبيّ بن كعب وعطاء ، لكون خطاب المشركين بعد الهجرة قد صار نادراً ، لأنهم أصبحوا بُعداء عن سماع القرآن ، فتكون الجملة مستأنفة استينافاً بيانياً فإنهم لما ذُكروا باستجابة دعائهم بقوله : { إذ تستغيثون ربكم } [ الأنفال : 9 ] الآيات ، وأمروا بالثبات للمشركين ، وذكروا بنصر الله تعالى إياهم يوم بدر بقوله : { فلم تقتلوهم } إلى قوله { مُوهن كيد الكافرين } [ الأنفال : 17 ، 18 ] كان ذلك كله يثير سؤالاً يختلج في نفوسهم أن يقولوا أيكون كذلك شأننا كلما جاهدنا أم هذه مزية لوقعة بدر ، فكانت هذه الآية مفيدة جواب هذا التساؤل . فالمعنى : إن تستنصروا في المستقبل قوله فقد جاءكم الفتح ، والتعبير بالفعل الماضي في جواب الشرط للتنبيه على تحقيق وقوعه ، ويَكون قوله { فقد جاءكم الفتح } دليلاً على كلام محذوف ، والتقدير : إن تستنصروا في المستقبل ننصركم فقد نصرناكم يوم بدر .

والاستفتاح على هذا التفسير كناية عن الخروج للجهاد ، لأن ذلك يستلزم طلب النصر ومعنى { وإن تنتهوا فهو خير لكم } أي إن تمسكوا عن الجهاد حيث لا يتعين فهو أي الإمساك ، خير لكم لتستجمعوا قوتكم وأعدادكم ، فأنتم في حال الجهاد منتصرون ، وفي حال السلم قائمون بأمر الدين وتدبير شؤونكم الصالحة ، فيكون كقول النبي صلى الله عليه وسلم لا تمنّوا لقاء العدو ، وقيل المراد وإن تنتهوا عن التشاجر في أمر الغنيمة أو عن التفاخر بانتصاركم يوم بدر فهو خير لكم من وقوعه . وأما قوله : { وإن تعودوا نعد } على هذا التفسير فهو إن تعودوا إلى طلب النصر نعد فننصركم أي لا يُنقص ذلك من عطائنا كما قال زهير/

سألنا فأعطيتكم وعدنا فعُدْتُم *** ومن أكثر التَسآل يوماً سيُحرم

يُعلّمهم الله صدق التوجه إليه ، ويكون موقع { ولن تغني عنكم فئتكم شيئاً } زيادة تقرير لمضمون { إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح } وقوله : { وإن تعودوا نعد } أي لا تعتمدوا إلاّ على نصر الله .

فموقع قوله : { ولن تغني عنكم فئتكم شيئاً } بمنزلة التعليل لتعليق مجيء الفتح على أن { تستفتحوا } المشعر بأن النصر غير مضمون الحصول إلاّ إذا استنصروا بالله تعالى وجملَه { ولو كثرت } في موضع الحال ، و { لو } اتصالية ، وصاحب الحال متصف بضد مضمونها ، أي : ولو كثرت فكيف وفئتكم قليلة ، وعلى هذا الوجه يكون في قوله : { وأن الله مع المؤمنين } إظهار في مقام الإضمار ، لأن مقتضى الظاهر أن يقال : وإن الله معكم ، فعدل إلى الاسم الظاهر للإيماء إلى أن سبب عناية الله بهم هو إيمانهم . فهذان تفسيران للآية والوجدان يكون كلاهما مراداً .

والفتح حقيقته إزالة شيء مجعول حَاجزاً دون شيء آخر ، حفظاً له من الضياع أو الافتكاك والسرقة ، فالجدار حاجز ، والباب حاجز ، والسد حاجز ، والصندوق حاجز ، والعِدل تجعل فيه الثياب والمتاع حاجز ، فإذا أزيل الحاجز أو فرج فيه فرجة يسلك منها إلى المحجوز سميت تلك الإزالة فتحاً ، وذلك هو المعنى الحقيقي ، إذ هو المعنى الذي لا يخلو عن اعتباره جميع استعمال مادة الفتح وهو بهذا المعنى يستعار لإعطاء الشيء العزيز النوال استعارةً مفردةً أو تمثيلية وقد تقدم عند قوله تعالى : { فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء } [ الأنعام : 44 ] وقوله تعالى : { ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات } الآية في سورة [ الأعراف : 96 ] فالاستفتاح هنا طلب الفتح أي النصر ، والمعنى إن تستنصروا الله فقد جاءكم النصر .

وكثر إطلاق الفتح على حلول قوم بأرض أو بلدِ غيرهم في حرب أو غارة ، وعلى النصر ، وعلى الحُكْم ، وعلى معان أُخر ، على وجه المجاز أو الكناية وقوله : { وأن الله مع المؤمنين } وقرأه نافع ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم ، وأبو جعفر ، بفتح همزة { أن } على تقدير لام التعليل عطفاً على قوله : { وأن الله موهن كيد الكافرين } [ الأنفال : 18 ]

وقرأه الباقون بكسر الهمزة ، فهو تذييل للآية في معنى التعليل ، لأن التذييل لما فيه من العموم يصلح لإفادة تعليل المذيّل ، لأنه بمنزلة المقدمة الكبرى للمقدمة الصغرى .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{إِن تَسۡتَفۡتِحُواْ فَقَدۡ جَآءَكُمُ ٱلۡفَتۡحُۖ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۖ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدۡ وَلَن تُغۡنِيَ عَنكُمۡ فِئَتُكُمۡ شَيۡـٔٗا وَلَوۡ كَثُرَتۡ وَأَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (19)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح}، وذلك أن عاتكة بنت عبد المطلب رأت في المنام، كأن فارسا دخل المسجد الحرام، فنادى: يا آل فهر من قريش، انفروا في ليلة أو ليلتين، ثم صعد فوق الكعبة، فنادى مثلها، ثم صعد أبا قبيس، فنادى مثلها، ثم نقض صخرة من الجبل فرفعها المنادى، فضرب بها الجبل فانفلقت، فلم يبق بيت بمكة إلا دخلت قطعة منه فيه، فلما أصبحت أخبرت أخاها العباس وجلا، وعنده أبو جهل ابن هشام، فقال أبو جهل: يا آل قريش، ألا تعذرونا من بنى عبد المطلب، إنهم لا يرضون أن تنبأ رجالهم حتى تنبأت نساؤهم، ثم قال أبو جهل للعباس: تنبأت رجالكم وتنبأت نساؤكم، والله لتنتهن، وأوعدهم، فقال العباس: إن شئتم ناجزناكم الساعة. فلما قدم ضمضم بن عمرو الغفاري، قال: أدركوا العير أو لا تدركوا، فعمد أبو جهل وأصحابه، فأخذوا بأستار الكعبة، ثم قال أبو جهل: اللهم انصر أعلى الجندين وأكرم القبيلتين، ثم خرجوا على كل صعب وذلول ليعينوا أبا سفيان، فترك أبو سفيان الطريق وأغز على ساحل البحر، فقدم مكة وسبق أبو جهل النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المشركين إلى ماء بدر، فلما التقوا، قال أبو جهل: اللهم اقض بيننا وبين محمد، اللهم أينا كان أحب إليك وأرضى عندك فانصره، ففعل الله عز وجل ذلك، وهزم المشركين وقتلهم ونصر المؤمنين. فأنزل الله في قول أبي جهل: {إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح}، يقول: إن تستنصروا فقد جاءكم النصر، فقد نصرت من قلتم، {وإن تنتهوا فهو خير لكم} من القتال، {وإن تعودوا} لقتالهم، {نعد} عليكم بالقتل والهزيمة بما فعلنا ببدر، {ولن تغني عنكم فئتكم شيئا} يعنى جماعتكم شيئا {ولو كثرت} فئتكم، {وأن الله مع المؤمنين} [آية: 19] في النصر لهم...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره للمشركين الذين حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر:"إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ" يعني: إن تستحكموا الله على أقطع الحزبين للرحم وأظلم الفئتين، وتستنصروه عليه، فقد جاءكم حكم الله ونصره المظلوم على الظالم، والمحقّ على المبطل... عن الضحاك: "إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ "قال: إن تستقضوا فقد جاءكم القضاء...

عن الزهري: "إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ" قال: استفتح أبو جهل، فقال: اللهمّ -يعني محمدا ونفسه- أينا كان أفجر لك اللهمّ وأقطع للرحم فأَحِنْهُ اليوم. قال الله: "إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ"...

عن الزهريّ، عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير، قال: كان المستفتح يوم بدر أبا جهل، قال: اللهمّ أقطعنا للرحم، وآتانا بما لا نعرف، فأحنه الغداة فأنزل الله: "إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ"... فكان هو المستفتح على نفسه.

قال ابن إسحاق:... الاستفتاح: الإنصاف في الدعاء...

وأما قوله: "وَإنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ" فإنه يقول: وإن تنتهوا يا معشر قريش وجماعة الكفار عن الكفر بالله ورسوله، وقتال نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به، فهو خير لكم في دنياكم وآخرتكم. "وَإنْ تَعُودُوا نَعُدْ" يقول: وإن تعودوا لحربه وقتاله وقتال أتباعه المؤمنين، نَعُدْ: أي بمثل الواقعة التي أُوقعت بكم يوم بدر.

وقوله: "وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئا وَلَوْ كَثُرَتْ" يقول: وإن تعودوا نعد لهلاككم بأيدي أوليائي وهزيمتكم، ولن تغني عنكم عند عودي لقتلكم بأيديهم وسبيكم وهزمكم فئتكم شيئا ولو كثرت، يعني جندهم وجماعتهم من المشركين، كما لم يغنوا عنهم يوم بدر مع كثرة عددهم وقلة عدد المؤمنين شيئا. "وأنّ اللّهَ مَعَ المُؤْمِنِينَ" يقول جلّ ذكره: وأن الله مع من آمن به من عباده على من كفر به منهم، ينصرهم عليهم، أو يظهرهم كما أظهرهم يوم بدر على المشركين...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

وقوله تعالى: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) الاستفتاح يحتمل وجوها ثلاثة: يحتمل الاستكشاف وطلب البيان، ويكون طلب الحكم والقضاء بين الحق والباطل؛ يقال: فتح بكذا أي حكم به، وقضى فهو يخرج على وجهين: على طلب بيان المحق من المبطل وطلب بيان أحق الدينين بالنصر والحكم...

فقد بين الله عز وجل أحق الدينين وأعز الجندين لما هزم المشركين مع قوتهم وعدتهم وكثرة عددهم بفئة ضعيفة ذليلة قليلة العدد وضعيفة الأبدان والأسباب. دل أنه قد بين لهم الأحق من غيره...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

قال بعض المتأولين: هذه الآية مخاطبة للمؤمنين الحاضرين بوم بدر، قال الله لهم: {إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح} وهو الحكم بينكم وبين الكافرين فقد جاءكم، وقد حكم الله لكم، {وإن تنتهوا} عما فعلتم من الكلام في أمر الغنائم وما شجر بينكم فيها وعن تفاخركم بأفعالكم من قتل وغيره فهو خير لكم {وإن تعودوا} لهذه الأفعال نعد لتوبيخكم، ثم أعلمهم أن الفئة وهي الجماعة لا تغني وإن كثرت إلا بنصر الله تعالى ومعونته، ثم أنسهم بقوله وإيجابه، أنه مع المؤمنين. وقال أكثر المتأولين: هذه الآية مخاطبة للكفار أهل مكة...

وقالت فرقة من المتأولين: قوله {وإن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح}، هي مخاطبة للمؤمنين، وسائر الآية مخاطبة للمشركين، كأنه قال وأنتم إن تنتهوا فهو خير لكم...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

ذكر محمد بن إسحاق وعروة عن الزهري عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير أن أبا جهل قال يوم بدر: اللهم أينا كان أقطع للرحم وأتى بما لا يعرف فأحنه الغداة. فكان ذلك استفتاحا منه. رواه عنه أحمد ورواه النسائي في التفسير والحاكم في المستدرك عن الزهري، وروي مثله عن ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة وغيرهم. وقال السدي كان المشركون حين خرجوا من مكة إلى بدر أخذوا بأستار الكعبة فاستنصروا الله وقالوا: اللهم أنصر أعلى الجندين، وأكرم الفئتين، وخير القبيلتين، فقال الله: {إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح} يقول قد نصرت ما قلتم وهو محمد صلى الله عليه وسلم، وفي رواية أن أبا جهل قال حين التقى الجمعان: اللهم رب ديننا القديم ودين محمد الحديث فأي الدينين كان أحب إليك وأرضى عندك فانصر أهله اليوم. فالفتح هو نصر النبي ودينه وأتباعه. وهذا يدل على أن أبا جهل كان مغرورا بشركه واثقا بدينه ولم يكن أكثر أكابر مجرمي مكة كذلك بل كان كفرهم عن كبر وعلو وحسد للنبي صلى الله عليه وسلم.

{وإن تنتهوا فهو خير لكم} أي وإن تنتهوا عن عداوة النبي صلى الله عليه وسلم وقتاله فالانتهاء خير لكم لأنكم لا تكونون إلا مغلوبين مخذولين كقوله: {قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد} [آل عمران: 12] والخيرية في هذه الحالة بالإضافة إلى الاستمرار على العدوان والقتال، ويحتمل أن يراد به الانتهاء عن الشرك فتكون الخيرية على حقيقتها وكمالها.

{وإن تعودوا نعد} أي وإن تعودوا إلى مقاتلته نعد لما رأيتم من الفتح له عليكم حتى يجيء الفتح الأعظم الذي يذل فيه شرككم، وتدول الدولة للمؤمنين عليكم {ولن تغني عنكم شيئا ولو كثرت} أي ولن تدفع عنكم جماعتكم من المشركين شيئا من بأس الله وبطشه ولو كثرت عددا فالكثرة لا تكون سببا للنصر، إلا إذا تساوت مع القلة في الثبات والصبر، والثقة بالله عز وجل {وأن الله مع المؤمنين} بالمعونة والولاية والتوفيق فلا تضرهم قلتهم. قرأ نافع وابن عامر (وأن) وحفص بفتح الهمزة بتقدير اللام أي ولأن الله مع المؤمنين كان الأمر ما ذكره، وقرأها الباقون بالكسر على الاستئناف.

وقيل إن الخطاب في الآية للمؤمنين كسابقه ولاحقه والمعنى: إن تستنصروا ربكم وتستغيثون عند شعوركم بالضعف والقلة فقد جاءكم النصر وإن تنتهوا عن التكاسل في القتال والرغبة عما يأمر به الرسول ومجادلته في الحق بعد ما تبين فهو خير لكم. وإن تعودوا إليه نعد عليكم بالإنكار أو تهييج العدو، ولن تغني عنكم كثرتكم إذا لم يكن الله معكم بالنصر، فها نحن أولاء قد نصرناكم على قلتكم وضعفكم. هذا أقوى من كل ما رأيناه في تصوير المعنى فأكثر ما قالوه ظاهر التكلف، ولولا السياق لكان المعنى الأول أرجح لأنه أظهر.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

..."وأن الله مع الْمؤمنين". ومن كان اللّه معه فهو المنصور وإن كان ضعيفا قليلا عدده، وهذه المعية التي أخبر اللّه أنه يؤيد بها المؤمنين، تكون بحسب ما قاموا به من أعمال الإيمان. فإذا أديل العدو على المؤمنين في بعض الأوقات، فليس ذلك إلا تفريطا من المؤمنين وعدم قيام بواجب الإيمان ومقتضاه، وإلا فلو قاموا بما أمر اللّه به من كل وجه، لما انهزم لهم راية [انهزاما مستقرا] ولا أديل عليهم عدوهم أبدا.