التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فَهَزَمُوهُم بِإِذۡنِ ٱللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُۥدُ جَالُوتَ وَءَاتَىٰهُ ٱللَّهُ ٱلۡمُلۡكَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَعَلَّمَهُۥ مِمَّا يَشَآءُۗ وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ ذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ} (251)

فماذا كانت نتيجة هذا الدعاء الخاشع الخالص ؟ كانت نتيجته النصر المؤزر الذي حكاه القرآن في قوله : { فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ الله } .

وأصل الهزم في اللغة الكسر .

ومنه سقاء منهزم أي انثنى بعضه على بعض مع الجفاف . ويقال للسحاب هزيم ، لأنه يتشقق بالمطر . والفاء هنا فصيحة أو سببه أي أنهم بسبب دعائهم المخلص ، وإيمانهم القوى ، واستجابتهم لما أمرهم الله به ، استطاعوا أن يكسروا أعداءهم ويهزموهم ، وقوله ، { بِإِذْنِ الله } أي بتوفيقه وتيسيره وتأييده . والباء إما للاستعانة والسببية وإما للمصاحبة . ثم قال - تعالى - : { وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ } أي : وقتل داود بن إيشا - وكان في جيش طالوت - جالوت الذي كان يقود جيش الكفر ، وبقتله مزق أتباعه شر ممزق ، ورزق الله طالوت ومن معه النصر والغلبة .

ثم بين - سبحانه - ما منحه لداود من نعم فقال : { وَآتَاهُ الله الملك والحكمة وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَآءُ } والحكمة المراد بها هنا النبوة ، ولم يجتمع الملك والنبوة لأحد قبله في بني إسرائيل ، وورثه فيهما ابنه سليمان - عليه السلام - .

أي : وأعطى الله - تعالى - عبده داود ملك بني إسرائيل وأعطاه النبوة التي هي أشرف من الملك زيادة في ترقيته في درجات الشرف والكمال ، وعلمه - سبحانه - مما يشاء من فنون العلم ، ومن أمور الدين والدنيا كمعرفته لغة الطيور ، وكلام الدواب ، وصناعة آلات الحرب وغير ذلك من ألوان العلوم المختلفة التي لا تحدها إلا مشيئة الله وإرادته .

وفي قوله - تعالى - : { وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَآءُ } بعد الإِخبار بأنه - سبحانه - آتى داود الحكمة ، إشعار بأن الإِنسان لا يستغني عن التعلم سواء أكان نبيا أم لم يكن ، لأن داود - عليه السلام - مع حصولة على النبوة لم يستغن عن تعليم الله إياه ، وقد أمر الله - تعالى - نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يلتمس المزيد من العلم فقال : { وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً } ثم بين - سبحانه - بعض مظاهر فضله على عباده فقال : { وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض } .

أي : ولولا أن الله - تعالى - يدفع أهل الباطل بأهل الحق ، لفسدت الأرض ، وعمها الخراب لأن أهل الفساد إذا تركوا من غير أن يقاوموا استطارت شرورهم ، وتغلبوا على أهل الصلاح والاستقامة ، وتعطلت مصالح الناس ، وانتشر الفساد في الأرض .

فلولا في الجملة الكريمة حرف امتناع لوجود . أي : امتنع فساد الأرض لأجل وجود دفع الناس بعضهم ببعض .

فالجملة الكريمة تأمر في كل زمان ومكان أن يقفوا في وجوه الأشرار ، وأن يقاوموهم بكل وسيلة من شأنها أن تحول بينهم وبين الفساد والطغيان .

ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { ولكن الله ذُو فَضْلٍ عَلَى العالمين } .

أي : ولكن الله - تعالى - صاحب فضل عظيم ، وإنعام كبير على الناس أجمعين ، لأنه وضع لهم هذا التنظيم الحكيم الذي أوجب فيه على المصلحين أن يدافعوا المفسدين ، وأن يقاوموهم بالطريقة التي تمنع فسادهم حتى ولو أدى ذلك إلى رفع السلاح في وجوههم ، لأن السكوت عن فساد المفسدين سيؤدي إلى العقاب الذي يعمهم ويصيب معهم المصلحين .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَهَزَمُوهُم بِإِذۡنِ ٱللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُۥدُ جَالُوتَ وَءَاتَىٰهُ ٱللَّهُ ٱلۡمُلۡكَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَعَلَّمَهُۥ مِمَّا يَشَآءُۗ وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ ذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ} (251)

والهزم أصله أن يضرب الشيء فيدخل بعضه في بعض ، وكذلك الجيش الذي يرد يركب ردعه( {[1]} ) ، ثم قيل في معنى الغلبة : هزم ، وكان جالوت أمير العمالقة وملكهم ، وكان فيما روي في ثلاثمائة ألف فارس .

وروي في قصة داود وقتله جالوت ، أن أصحاب طالوت كان فيهم إخوة داود وهم بنو إيشى ، وكان داود صغيراً يرعى غنماً لأبيه ، فلما حضرت الحرب قال في نفسه : لأذهبن لرؤية هذه الحرب ، فلما نهض مر في طريقه بحجر فناداه : يا داود ، خذني فبي تقتل جالوت ، ثم ناداه حجر آخر ، ثم آخر ، ثم آخر فأخذها وجعلها في مخلاته وسار ، فلما حضر الناس ، خرج جالوت يطلب مبارزاً فكع الناس عنه حتى قال طالوت : من يبرز له ويقتله فأنا أزوجه بنتي وأحكمه في مالي ، فجاء داود ، فقال : أنا أبرز له وأقتله ، فقال له طالوت : فاركب فرسي ، وخذ سلاحي ، ففعل ، وخرج في أحسن شكة فلما مشى قليلاً رجع . فقال الناس : جبن الفتى ، فقال داود : إن الله إن لم يقتله لي ويعني عليه لم ينفعني هذا الفرس ولا هذا السلاح ، ولكني أحب أن أقاتله على عادتي .

قال : وكان داود من أرمى الناس بالمقلاع ، فنزل وأخذ مخلاته فتقلدها وأخذ مقلاعه ، وخرج إلى جالوت وهو شاك في سلاحه( {[2]} ) ، فقال له جالوت : أنت يا فتى تخرج إليّ ، قال : نعم ، قال : هكذا كما يخرج إلى الكلب ، قال : نعم وأنت أهون . قال : لأطعمن اليوم لحمك الطير والسباع ، ثم تدانيا فأدار داود مقلاعه ، وأدخل يده إلى الحجارة فروي أنها التأمت فصارت حجراً واحداً فأخذه فوضعه في المقلاع وسمى الله وأداره ورماه فأصاب به رأس جالوت فقتله ، وحز رأسه وجعله في مخلاته واختلط الناس وحمل أصحاب طالوت وكانت الهزيمة ، ثم إن داود جاء يطلب شرطه من طالوت ، فقال له : إن بنات الملوك لهن غرائب من المهر ، ولا بد لك من قتل مائتين من هؤلاء الجراجمة( {[3]} ) الذين يؤذون الناس ، وتجيئني بغلفهم وطمع طالوت أن يعرض داود للقتل بهذه النزعة فقتل داود منهم مائتين ، وجاء بذلك وطلب امرأته فدفعها إليه طالوت ، وعظم أمر داود ، فيروى أن طالوت تخلى له عن الملك وصار هو الملك ، ويروى أن بني إسرائيل غلبت طالوت على ذلك بسبب أن داود قتل جالوت ، وكان سبب الفتح ، وروي أن طالوت أخاف داود حتى هرب منه فكان في جبل إلى أن مات طالوت فذهبت بنو إسرائيل إلى داود فملكته أمرها ، وروي أن نبي الله سمويل أوحى الله إليه أن يذهب إلى إيشى ويسأله أن يعرض عليه بنيه فيدهن الذي يشار إليه بدهن القدس ويجعله ملك بني إسرائيل .

والله أعلم أي ذلك كان ، غير أنه يقطع من ألفاظ الآية على أن داود صار ملك بني إسرائيل . وقد روي في صدر هذه القصة : أن داود كان يسير في مطبخة طالوت ثم كلمه حجر فأخذه فكان ذلك سبب قتله جالوت ومملكته ، وقد أكثر الناس في قصص هذه الآية ، وذلك كله لين الأسانيد ، فلذلك انتقيت منه ما تنفك به الآية وتعلم به مناقل( {[4]} ) النازلة واختصرت سائر ذلك ، وأما الحكمة التي آتاه الله فهي النبوة والزبور وقال السدي : آتاه الله ملك طالوت ونبوة شمعون والذي علمه هي صنعة الدروع ومنطق الطير وغير ذلك من أنواع علمه صلى الله عليه وسلم .

قوله عز وجل :

{ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ }

أخبر الله تعالى في هذه الآية أنه لولا دفعه بالمؤمنين( {[5]} ) في صدور الكفرة على مر الدهر { لفسدت الأرض } ، لأن الكفر كان يطبقها ويتمادى في جميع أقطارها ، ولكنه تعالى لا يخلي الزمان من قائم بحق ، وداع إلى الله ومقاتل عليه ، إلى أن جعل ذلك في أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة ، له الحمد كثيراً . قال مكي : وأكثر المفسرين على أن المعنى لولا أن الله يدفع بمن يصلي عمن لا يصلي وبمن يتقي عمن لا يتقي لأهلك الناس بذنوبهم( {[6]} ) .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وليس هذ المعنى الآية ولا هي منه في ورد ولا صدر ، والحديث الذي رواه ابن عمر صحيح( {[7]} ) ، وما ذكر مكي من احتجاج ابن عمر عليه بالآية لا يصح عندي لأن ابن عمر من الفصحاء ، وقرأ أبو عمرو وابن كثير : { ولولا دفع الله } ، وفي الحج { إن الله يدفع } [ الآية : 38 ] ، وقرأ نافع «ولولا دفاع الله » ، «وإن الله يدافع » ، وقرأ الباقون { ولولا دفع الله } «وإن الله يدافع » ففرقوا بينهما ، والدفاع ، يحتمل أن يكون مصدر دفع ككتب كتاباً ولقي لقاء ، ويحتمل أن يكون مصدر دافع كقاتل قتالاً .


[1]:- أي فيمن نزلت، أفي المؤمنين جميعا أم في مؤمني أهل الكتاب؟
[2]:- ولم يكن الله ليمتن على رسوله بإيتائه فاتحة الكتاب وهو بمكة، ثم ينزلها بالمدينة، ولا يسعنا القول بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بمكة بضع عشرة سنة يصلي بلا فاتحة الكتاب، هذا ما لا تقبله العقول، قاله الواحدي. وقوله تعالى: (ولقد آتيناك...) هو من الآية رقم (87) من سورة الحجر.
[3]:- أخرجه الإمام مالك في الموطأ المشهور بلفظ: (السبع المثاني القرآن العظيم الذي أعطيته) والترمذي وغيرهما، وخرج ذلك أيضا الإمام البخاري وغيره، عن أبي سعيد ابن المعلى في أول كتاب التفسير، وفي أول كتاب الفضائل بلفظ: (السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته). والسبع الطوال هي: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال، فقوله: والسبع الطوال إلخ. رد على من يقول: إنما السبع المثاني.
[4]:- هو أبو هاشم المكي الليثي، وردت الرواية عنه في حروف القرآن، يروي عن أبيه ابن عمر.
[5]:- من الآية رقم (7) من سورة آل عمران.
[6]:- رواه الترمذي وصححه، والإمام أحمد ولفظه: (الحمد لله أم القرآن، وأم الكتاب، والسبع المثاني)، وهذا الحديث يرد على القولين معا.
[7]:- رواه الإمام أحمد، والترمذي وصححه، والنسائي، ونص الترمذي: (والذي نفسي بيده ما أنزلت في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الزبور، ولا في القرآن مثلها. وإنها السبع من المثاني، والقرآن العظيم الذي أعطيته)، وقد يكون هذا الحديث سندا لما اعتاده الناس من قراءة الفاتحة، وقد أخرج أبو الشيخ في الثواب عن عطاء قال: إذا أردت حاجة فاقرأ فاتحة الكتاب حتى تختمها تقض إن شاء الله، نقله الجلال السيوطي. وللغزالي في الانتصار ما نصه: فاستنزل ما عند ربك وخالقك من خير، واستجلب ما تؤمله من هداية وبر، بقراءة السبع المثاني المأمور بقراءتها في كل صلاة، وتكرارها في كل ركعة، وأخبر الصادق المصدوق أن ليس في التوراة ولا في الإنجيل والفرقان مثلها، قال الشيخ زروق: وفيه تنبيه بل تصريح أن يكثر منها لما فيها من الفوائد والذخائر. انتهى.