التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{۞لَتُبۡلَوُنَّ فِيٓ أَمۡوَٰلِكُمۡ وَأَنفُسِكُمۡ وَلَتَسۡمَعُنَّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشۡرَكُوٓاْ أَذٗى كَثِيرٗاۚ وَإِن تَصۡبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنۡ عَزۡمِ ٱلۡأُمُورِ} (186)

ثم بين - سبحانه - للمؤمنين أنهم سيتعرضون فى المستقبل للمحن والآلام كما تعرضوا لذلك فى أيامهم الماضية ، وأن من الواجب عليهم أن يتقبلوا ذلك بعزيمة صادقة ، وصبر جميل فقال - تعالى - : { لَتُبْلَوُنَّ في أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أشركوا أَذًى كَثِيراً } .

وقوله { لَتُبْلَوُنَّ } جواب قسم محذوف أى : والله لتبلون أى لتختبرن . والمراد لتعاملن معاملة المختبر والممتحن ليظهر ما عندكم من الثبات على الحق ، ومن التمسك بمكارم الأخلاق ، فإن المصائب محك الرجال .

وإنما أخبرهم - سبحانه - بما سيقع لهم من بلاء ، ليوطنوا أنفسهم على احتماله عند وقوعه ، وليستعدوا لتلقيه من غير فزع أو جزع ، فإن الشدة المتوقعة يسهل احتمالها ، أما الشدة التى تقع من غير توقع فإنها يصعب احتمالها .

والمعنى : لتبلون - أيها المؤمنون - ولتختبرن { في أَمْوَالِكُمْ } بما يصيبها من الآفات ، وبما تطالبون به من إنفاق فى سبيل إعلاء كلمة الله ، ولتختبرن أيضاً فى { أَنْفُسِكُمْ } بسبب ما يصيبكم من جراح وآلام من قبل أعدائكم ، وبسبب ما تتعرضون له من حروب ومتاعب وشدائد ، وفضلا عن ذلك فإنكم { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ } وهم اليهود والنصارى { وَمِنَ الذين أشركوا } وهم كفار العرب ، لتسمعن من هؤلاء جميعا { أَذًى كَثِيراً } كالطعن فى دينكم ، والاستهزاء بعقيدتكم ، والسخرية من شريعتكم والاستخفاف بالتعاليم التى أتاكم بها نبيكم ، والتفنن فيما يضركم .

وقد رتب - سبحانه - ما يصيب المؤمنين ترتيبا تدريجيا ، فابتدأ بأدتى ألوان البلاء وهو الإصابة فى المال ، فإنها مع شدتها وقسوتها على الإنسان إلا أنها أهون من الإصابة فى النفس لأنها أغلى من المال ، ثم ختم ألوان الابتلاء ببيان الدرجة العليا منه وهى التى تختص بالإصابة فى الدين ، وقد عبر عنها بقوله : { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أشركوا أَذًى كَثِيراً } .

وإنما كانت الإصابة فى الدين أعلى أنواع البلاء ، لأن المؤمن الصادق يهون عليه ماله ، وتهون عليه نفسه ، ولكنه لا يهون عليه دينه ، ويسهل عليه أن يتحمل الأذى فى ماله ونفسه ولكن ليس من السهل عليه أن يؤذى فى دينه . . .

ولقد كان أبو بكر الصديق مشهورا بلينه ورفقه . ولكنه مع ذلك - لقوة إيمانه - لم يحتمل من " فنحاص " اليهودى أن يصف الخالق - عز وجل - بأنه فقير ، فما كان من الصديق إلا أن شجَّ وجه فنحاص عندما قال ذلك القول الباطل .

وقد جمع - سبحانه - بين أهل الكتاب وبين المشركين فى عداوتهم وإيذائهم للمؤمنين ، للإشعار بأن الكفر ملة واحدة ، وأن العالم بالكتاب والجاهل به يستويان فى معاداتهم للحق ، لأن العناد إذا استولى على القلوب زاد الجاهلين جهلا وحمقا ، وزاد العالمين حقداً وحسداً .

ثم أرشد - سبحانه - المؤمنين إلى العلاج الذى يعين على التغلب على هذا البلاء فقال : { وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذلك مِنْ عَزْمِ الأمور } .

أى : وإن تصبروا على تلك الشدائد ، وتقابلوها يضبط النفس ، وقوة الاحتمال . { وَتَتَّقُواْ } الله فى كل ما أمركم به ونهاكم عنه ، تنالوا رضاه - سبحانه - وتنجوا من كيد أعدائكم .

والإشارة فى قوله { فَإِنَّ ذلك مِنْ عَزْمِ الأمور } تعود إلى المذكور ضمنا من الصبر والتقوى ، أى فإن صبركم وتقواكم من الأمور التى يجب أن يسير عليها كل عاقل . لأنها تؤدى إلى النجاح والظفر .

وقوله { فَإِنَّ ذلك مِنْ عَزْمِ الأمور } دليل على جواب الشرط .

والتقدير : وإن تصبروا وتتقوا تنالوا ثواب أ÷ل العزم فإن ذلك من عزم الأمور .

فالآية الكريمة استئناف مسوق لإيقاظ المؤمنين ، وتنبيههم إلى سنة من سنن الحياة ، وهى أن أهل الحق لا بد من أن يتعرضوا للابتلاء والامتحان ، فعليهم أن يوطنوا أنفسهم على تحمل كل ذلك ، لأن ضعفاء العزيمة ليسوا أهلا لبلوغ النصر .

ولقد بين النبى صلى الله عليه وسلم أن قوة الإيمان وشدة البلاء متلازمان ، فقد روى الترمذى عن مصعب بن سعد عن أبيه قال : قلت يا رسول الله ، أى الناس أشد بلاء ؟ قال : الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل . فيبتلى الرجل على حسب دينه . فإن كان دينه صلبا اشتد بلاؤه ، وإن كان فى دينه رقة ابتلى على حسب دينه ، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشى على الأرض ما عليه خطيئة " .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞لَتُبۡلَوُنَّ فِيٓ أَمۡوَٰلِكُمۡ وَأَنفُسِكُمۡ وَلَتَسۡمَعُنَّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشۡرَكُوٓاْ أَذٗى كَثِيرٗاۚ وَإِن تَصۡبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنۡ عَزۡمِ ٱلۡأُمُورِ} (186)

هذا الخطاب للنبي عليه السلام وأمته ، والمعنى : لتختبرن ولتمتحنن في أموالكم بالمصائب والأرزاء ، وبالإنفاق في سبيل الله ، وفي سائر تكاليف الشرع ، والابتلاء في الأنفس بالموت والأمراض ، وفقد الأحبة بالموت ، واختلف المفسرون في سبب قوله تعالى : { ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } فقال عكرمة وغيره : السبب في ذلك قول فنحاص : إن الله فقير ونحن إغنياء ، وقوله : يد الله مغلولة إلى غير ذلك ، وقال الزهري وغيره : نزلت هذه الآية بسبب كعب بن الأشرف ، فإنه كان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه ويشبب بنساء المسلمين ، حتى بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتله القتلة المشهورة في السيرة{[3761]} ، و«الأذى » : اسم جامع في معنى الضرر وهو هنا يشمل أقوالهم فيما يخص النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من سبهم وأقوالهم في جهة الله تعالى وأنبيائه ، وندب الله تعالى عباده إلى الصبر والتقوى ، وأخبر أنه من عزم الأمور ، أي من أشدها وأحسنها ، و «العزم » : إمضاء الأمر المروي المنقح ، وليس ركوب الأمر دون روية عزماً إلا على مقطع المشيحين من فتاك العرب كما قال{[3762]} :

إذا هَمَّ ألقَى بَيْنَ عَيْنَيْهِ عزْمَهُ . . . وَنَكَّبَ عَنْ ذِكْرِ الْحَوَادِثِ جَانِبَا

وقال النقاش : العزم والحزم بمعنى واحد : الحاء مبدلة من العين .

قال القاضي : وهذا خطأ ، والحزم : جودة النظر في الأمور وتنقيحه والحذر من الخطأ فيه ، و «العزم » : قصد الإمضاء ، والله تعالى يقول : { وشاورهم في الأمر ، فإذا عزمت }{[3763]} فالمشاورة وما كان في معناها هو الحزم ، والعرب تقول : قد أحزم و لو أعزم{[3764]} .


[3761]:- أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم- عن الزهري، كما أخرجه ابن المنذر من طريق الزهري- عن عبد الرحمان بن كعب بن مالك (فتح القدير للشوكاني1/375) ورواه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عبد الرحمان بن كعب بن مالك. (لباب النقول في أسباب النزول: 17، وابن جرير في تفسيره، وسيرة ابن هشام 3/ 54).
[3762]:- قال ابن الأثير: المشيح: الحذر والجاد في الأمر، وقيل: المقبل إليك المانع لما وراء ظهره، فيجوز أن يكون أشاح أحد هذه المعاني 2/ 366.
[3763]:- من الآية (159) من سورة الشورى.
[3764]:- هذا مثل، معناه: إن عزمت الرأي فأمضيته فأنا حازم، وإن تركت الصواب وأنا أراه وضيعت العزم لم ينفعني حزمي (الميادني 2/34).