التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{إِذۡ قَالَتِ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ يَٰمَرۡيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٖ مِّنۡهُ ٱسۡمُهُ ٱلۡمَسِيحُ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَ وَجِيهٗا فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِ وَمِنَ ٱلۡمُقَرَّبِينَ} (45)

{ إِذْ قَالَتِ الملائكة يا مريم إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسمه المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ } .

وهذه الجملة الكريمة بدل اشتمال من جملة { وَإِذْ قَالَتِ الملائكة يا مريم إِنَّ الله اصطفاك } . . الخ قالوا : ولا يضر الفصل إذ الجملة الفاصلة بين البدل والمبدل منه اعتراض جيء به تقريراً لما سبق ؛ وتنبيها على استقلاله .

والظرف { وَإِذْ } معمول لمحذوف تقديره اذكر ، أى اذكر وقت أن قالت الملائكة لمريم ، يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه .

وقوله يبشرك { بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ } أى يبشرك بمولود يحصل بكلمة منه - سبحانه - وسمى هذا المولود كلمة لأنه وجد بكلمة كن فهو من باب إطلاق السبب على المسبب .

والمراد أنه وجد من غير واسطة أب ، لأن غيره وإن وجد بتلك الكلمة لكنه بواسطة أب ، أى أنه - سبحانه - إذا كان قد خلق الناس بطريق التناسل عن ذكر وأنثى وأخرج الأولاد من أصلاب الآباء ، فإن عيسى - عليه السلام - لم يكن كذلك ، بل خلقه الله - تعالى - خلقا آخر ، خلقه { بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ } وهى " كن " فكان كما أراده الله و " من " فى قوله " منه " لابتداء الغاية والجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة لكلمة : أى بكلمة كائنة منه .

فالمراد بقوله " كلمة " أى يبشر بولد حى يسرى عليه حكم الأحياء اسمه المسيح عيسى ابن مريم وعلى هذا التأويل سار كثير من المفسرين .

ورجح ابن جرير أن معنى { بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ } ببشرى منه - سبحانه - فقد قال : وقوله " بكلمة منه " يعنى برسالة من الله وخير من عنده وهو من قول القائل : ألقى إلى فلان كلمة سرني بها بمعنى أخبرني خبرا فرحت به . . فتأويل الكلام : وما كنت يا محمد عند القوم إذ قالت الملائكة لمريم إن الله يبشرك ببشرى من عنده ، هى ولدك اسمه المسيح عيسى ابن مريم " .

وعلى كلا التأويلين ففى التعبير عن عيسى - عليه السلام - بأنه كلمة من الله تكريم له وتشريف ، وقوله { اسمه المسيح } مبتدأ وخبر ، والجملة نعت . والضمير في قوله { اسمه } يعود إلى كلمة . وجاء مذكراً رعاية للمعنى لأننا سبق بينا أن المراد بها عند كثير من المفسرين الولد .

والمسيح : لقب من الألقاب المشرفة كالصديق والفاروق ، وأصله مشيحاً بالعبرانية ومعناه المبارك . وقد حكى الله - تعالى - أنه قال عن نفسه

{ قَالَ إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِيَ الكتاب وَجَعَلَنِي نَبِيّاً وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بالصلاة والزكاة مَا دُمْتُ حَيّاً } وقيل المسيح فعيل بمعنى فاعل ، للمبالغة في مسحه الأرض بالسياحة للعبادة : أو مسحه ذا العاهة ليبرأ . أو بمعنى مفعول أي ممسوح لأن الله مسحه بالطهر من الذنوب .

وعيسى : اسم لهذا الاسم الكريم ، وهو اسم ينبىء عن البياض والصفاء والنقاء .

قال الراغب : عيسى اسم علم ، وإذا جعل عربياً أمكن أن يكون من قولهم بعيراً عيسى وناقة عيساء وجمعها عيس وهى أبل بيض يعتري بياضها بعض الظلمة " أى فيها أغبرار قليل يعطى بياضها صفاء ونقاء وجمالا .

وابن مريم : هو كنيته ، وهي للإشارة إلى أن نسبه ثاتب لأمه لا لأحد سواها وليس ابنا لله - تعالى - كما قال الضالون .

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : لم قيل عيسى بن مريم والخطاب لمريم ؟ قلت : لأن الأبناء ينسبون إلى الأباء لا إلى الأمهات ، فأعلمت بنسبه إليها أنه يولد من غير أب فلا ينسب إلا إلى أمه . وبذلك فضلت واصطفيت على نساء العالمين : فإن قلت لم ذكر ضمير الكلمة . قلت لأن المسمى بها مذكر . فإن قلت : لم قيل اسمه المسيح عيسى بن مريم وهذه ثلاثة أشياء : الاسم منها عيسى وأما المسيح والابن فلقب وصفة ؟ قلت : الاسم المسمى علامة يعرف بها ويتميز من غيره ، فكأنه قيل : الذى يعرف به ويتميز ممن سواه مجموع هذه الثلاثة " .

والمعنى الإجمالي للجملة الكريمة : اذكر يا محمد وقت أن قالت الملائكة لمريم : يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه أى بمولود يحصل بكلمة منه بلا واسطة أب ، هذا المولود العجيب اسمه الذى يميزه لقبا المسيح ويميزه علماً عيسى ويميزه كنبة ابن مريم .

فأنت ترى أنه - سبحانه - قد عرف هذا المولود العظيم بتعريف واحد جمع ثلاثة أمور كل واحد منها يشيى إلى معنى كريم قد تحقق فى هذا النبى العظيم ومجموع هذه الأمور لا يشاركه فيها أحد من البشر ، ثم بعد ذلك وصفه - سبحانه - بأربعة أوصاف تدل على فضله وعلو منزلته فقال - تعالى - { وَجِيهاً فِي الدنيا والآخرة وَمِنَ المقربين وَيُكَلِّمُ الناس فِي المهد وَكَهْلاً وَمِنَ الصالحين } .

أما الصفة الأولى فهي قوله - تعالى - : { وَجِيهاً فِي الدنيا والآخرة } أى ذا جاه وشرف ومنزلة عالية . يقال وجه الرجل يوجه - من باب ظرف - وجاهة فهو وجيه إذا صارت له منزلة رفيعة عند الناس . واشتقاقه من الوجه لأنه أشرف الأعضاء ولأنه هو الذى يواجه الإنسان به غيره .

وعيسى عليه السلام ، شهد الله تعالى له ، - وكفى بالله شهيداً - شهد له بالوجاهة وسمو المنزلة في الدنيا والآخرة لما له من آثار عظيمة فى هداية الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور ، ودعوتهم إلى وحدانية الله وإلى مكارم الأخلاق ، وإقامة التوراة بعد أن اختلفوا فيها .

والصفة الثانية من صفاته أنه من { المقربين } أى أنه من المقربين عند الله - تعالى -

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{إِذۡ قَالَتِ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ يَٰمَرۡيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٖ مِّنۡهُ ٱسۡمُهُ ٱلۡمَسِيحُ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَ وَجِيهٗا فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِ وَمِنَ ٱلۡمُقَرَّبِينَ} (45)

{ إذ قالت الملائكة } فعل مضمر تقديره اذكر { إذ قالت الملائكة } وهكذا يطرد وصف الآية وتتوالى الإعلامات بهذه الغيوب ، وقال الزجّاج ، العامل فيها { يختصمون } ، ويجوز أن يتعلق بقوله : { وما كنت لديهم إذ قالت الملائكة } وهذا كله يرده المعنى ، لأن الاختصام لم يكن عند قول الملائكة ، وقرأ ابن مسعود وعبد الله بن عمر : «إذ قال الملائكة » واختلف المتأولون هل الملائكة هنا عبارة عن جبريل وحده أو عن جماعة من الملائكة ؟ وقد تقدم معنى ذلك كله في قوله آنفاً ، { فنادته الملائكة } [ آل عمران : 39 ] فتأمله ، وتقدم ذكر القراءات في قوله { يبشرك } .

واختلف المفسرون لم عبر عن عيسى عليه السلام { بكلمة } ؟ فقال قتادة : جعله «كلمة » إذ هو موجود بكلمة وهي قوله تعالى : لمراداته - كن - وهذا كما تقول في شيء حادث هذا قدر الله أي هو عند قدر الله وكذلك تقول هذا أمر الله ، وترجم الطبري فقال : وقال آخرون : بل الكلمة اسم لعيسى سماه الله بها كما سمى سائر خلقه بما شاء من الأسماء ، فمقتضى هذه الترجمة أن الكلمة اسم مرتجل لعيسى ثم أدخل الطبري تحت الترجمة عن ابن عباس أنه قال : «الكلمة » هي عيسى ، وقول ابن عباس يحتمل أن يفسر بما قال قتادة وبغير ذلك مما سنذكره الآن وليس فيه شيء مما ادعى الطبري رحمه الله ، وقال قوم من أهل العلم : سماه الله «كلمة » من حيث كان تقدم ذكره في توراة موسى وغيرها من كتب الله وأنه سيكون ، فهذه كلمة سبقت فيه من الله ، فمعنى الآية ، أنت يا مريم مبشرة بأنك المخصوصة بولادة الإنسان الذي قد تكلم الله بأمره وأخبر به في ماضي كتبه المنزلة على أنبيائه ، و{ اسمه } في هذا الموضع ، معناه تسميته ، وجاء الضمير مذكراً من أجل المعنى ، إذ «الكلمة » عبارة عن ولد .

واختلف الناس في اشتقاق لفظة { المسيح }{[3174]} فقال قوم ، هو من ساح يسيح في الأرض ، إذا ذهب ومشى أقطارها فوزنه مفعل ، وقال جمهور الناس : هو من - مسيح- فوزنه - فعيل ، واختلفوا - بعد - في صورة اشتقاقه من - مسح - فقال قوم من العلماء ، سمي بذلك من مساحة الأرض لأنه مشاها فكأنه مسحها ، وقال آخرون : سمي بذلك لأنه ما مسح بيده على ذي علة إلا برىء ، فهو على هذين القولين - فعيل- بمعنى - فاعل - وقال ابن جبير : سمي بذلك لأنه مسح بالبركة ، وقال آخرون : سمي بذلك لأنه مسح بدهن القدس فهو على هذين القولين - فعيل- بمعنى مفعول ، وكذلك هو في قول من قال : مسحه الله ، فطهره من الذنوب ، قال إبراهيم النخعي : المسيح الصديق ، وقال ابن جبير عن ابن عباس : { المسيح } الملك ، وسمي بذلك لأنه ملك إحياء الموتى ، وغير ذلك من الآيات ، وهذا قول ضعيف لا يصح عن ابن عباس .

وقوله : { عيسى } يحتمل من الإعراب ثلاثة أوجه ، البدل من { المسيح } ، وعطف البيان ، وأن يكون خبراً بعد خبر ، ومنع بعض النحاة أن يكون خبراً بعد خبر وقال : كان يلزم أن تكون أسماؤه على المعنى أو أسماؤها على اللفظ للكلمة ، ويتجه أن يكون { عيسى } خبر ابتداء مضمر ، تقديره ، هو عيسى ابن مريم ، ويدعو إلى هذا كون قوله ، { ابن مريم } صفة ل { عيسى } إذ قد أجمع الناس على كتبه دون ألف ، وأما على البدل أو عطف البيان فلا يجوز أن يكون { ابن مريم } صفة ل { عيسى } لأن الاسم هنا لم يرد به الشخص ، هذه النزعة لأبي علي ، وفي صدر الكلام نظر{[3175]} ، و { وجيهاً } ، نصب على الحال وهو من الوجه ، أي له وجه ومنزلة عند الله والمعنى في الوجيه أنه حيثما أقبل بوجهه ، عظم وروعي أمره ، وتقول العرب : فلان له وجه في الناس وله وجاه ، وهذا على قلب في اللفظة ، يقولون جاهني يجوهني بكذا أي واجهني به ، وجاه عيسى عليه السلام في الدنيا نبوته وذكره ، ورفعه في الآخرة مكانته ونعيمه وشفاعته ، { ومن المقربين } ، معناه من الله تعالى .


[3174]:- قارن ما جاء هنا بما جاء في "زاد المسير" 1/ 389.
[3175]:- قال الزمخشري –ونقله عنه أبو حيان في البحر المحيط 2/460: "فإن قلت: لم قيل: اسمه المسيح عيسى بن مريم-وهذه ثلاثة أشياء الاسم منها (عيسى)، وأما المسيح والابن فلقب وصفة؟ قلت: الاسم للمسمى علامة يعرف بها ويتميز عن غيره، فكأنه قيل: الذي يعرف به ويتميز ممن سواه مجموع هذه الثلاثة"- ثم قال أبو حيان تعقيبا على ذلك: "ويظهر من كلامه أن اسمه مجموع هذه الثلاثة فتكون الثلاثة أخبارا عن قوله: [اسمه] فيكون من باب: هذا حلو حامض، وهذا أعسر أيسر- فلا يكون أحدهما على هذا مستقلا بالخبرية، ونظيره في كون الشيئين أو الأشياء في حكم شيء واحد قول الشاعر: كيف أصبحت؟ كيف أمسيت؟ مما يزرع الود في فؤاد الكريم؟ أي: مجموع هذا مما يزرع الود، فلما جاز في المبتدأ أن يتعدد دون حرف عطف إذا كان المعنى على المجموع، كذلك يجوز في الخبر".