التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلۡفُۢۚ بَل لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفۡرِهِمۡ فَقَلِيلٗا مَّا يُؤۡمِنُونَ} (88)

ثم حكى القرآن بعض الدعاوى الباطلة التي كان يدعيها اليهود في العصر النبوي ورد عليها بما يدحضها فقال : { وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ } أي : قال اليهود الذين كانوا في العهد النبوي : قلوبنا يا محمد مغطاة بأغطية حسية مانعة من نفوذ ما جئت به فيها . ومقصدهم من ذلك ، إقناطه صلى الله عليه وسلم من إجابتهم لدعوته حتى لا يعيد عليهم الدعوة من بعد .

والغلف : جمع أغلف ، وهو الذي جعل له غلاف ، ومنه قيل للقلب الذي لا يعى ولا يفهم ، قلب أغلف ، كأنه حجب عن الفهم بالغلاف .

قال ابن كثير : وقرأ ابن عباس - بضم اللام - وهو جمع غلاف . أي : قلوبنا أوعية لكل علم فلا نحتاج إلى علمك .

وقد رد الله - تعالى - على كذبهم هذا بما يدحضه ويفضحه فقال :

{ بَل لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ } أي : أن قلوبهم ليست غلفاً بحيث لا تصل إليها دعوة الحق بل هي متمكنة بأصل فطرتها من قبول الحق ، ولكن الله أبعدهم من رحمته بسبب كفرهم بالأنبياء واستحبابهم العمى على الهدى .

والفاء في قوله : { فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ } للدلالة على أن ما بعدها متسبب عما قبلها و { مَّا } في قوله { فَقَلِيلاً مَّا } لتأكيد معنى الفلة .

والمعنى أن الله لعنهم وكان هذا اللعن سبباً لقلة إيمانهم فلا يؤمنون إلا إيماناً قليلا ، وقلة الإِيمان ترجع إلى معنى أنهم لا يؤمنون إلا بقليل مما يجب عليهم الإِيمان به . وقد وصفهم الله - تعالى - فيما سبق بأنهم كانوا يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض .

ثم نبه القرآن المؤمنين إلى نوع آخر من رذائل اليهود ، ويتجلى هذا النوع في جحودهم الحق عن معرفة وعناد ، وكراهتهم الخير لغيرهم يدافع الأنانية والحسد ، وتحولهم إلى أناس يتميزون من الغيظ إذا ما رأوا نعمة تساق لغير أبناء ملتهم .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلۡفُۢۚ بَل لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفۡرِهِمۡ فَقَلِيلٗا مَّا يُؤۡمِنُونَ} (88)

{ وقالوا قلوبنا غلف } مغشاة بأغطية خلقية لا يصل إليها ما جئت به ولا تفقهه ، مستعار من الأغلف الذي لم يختن وقيل أصله غلف جمع غلاف فخفف ، والمعنى أنها أوعية للعلم لا تسمع علما إلا وعته ، ولا تعي ما تقول . أو نحن مستغنون بما فيها عن غيره . { بل لعنهم الله بكفرهم } رد لما قالوه ، والمعنى أنها خلقت على الفطرة والتمكن من قبول الحق ، ولكن الله خذلهم بكفرهم فأبطل استعدادهم ، أو أنها لم تأب قبول ما تقوله لخلل فيه ، بل لأن الله تعالى خذلهم بكفرهم كما قال تعالى : { فأصمهم وأعمى أبصارهم } ، أو هم كفرة ملعونون ، فمن أين لهم دعوى العلم والاستغناء عنك ؟ { فقليلا ما يؤمنون } فإيمانا قليلا يؤمنون ، وما مزيده للمبالغة في التقليل ، وهو إيمانهم ببعض الكتاب . وقيل أراد بالقلة العدم .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلۡفُۢۚ بَل لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفۡرِهِمۡ فَقَلِيلٗا مَّا يُؤۡمِنُونَ} (88)

إما عطف على قوله : { استكبرتم } [ البقرة : 87 ] أو على { كذبتم } [ البقرة : 87 ] فيكون على الوجه الثاني تفسيراً للاستكبار أي يكون على تقدير عطفه على { كذبتم } من جملة تفصيل الاستكبار بأن أشير إلى أن استكبارهم أنواع : تكذيبٌ وتقتيل وإعراض . وعلى الوجهين ففيه التفات من الخطاب إلى الغيبة وإبعاد لهم عن مقام الحضور فهو من الالتفات الذي نكتته أن ما أجري على المخاطب من صفات النقص والفظاعة قد أوجب إبعاده عن البال وإعراضَ البال عنه فيشار إلى هذا الإبعاد بخطابه بخطاب البعد فهو كناية{[151]} .

وقد حسَّن الالتفاتَ أنه مؤذن بانتقال الكلام إلى سوء مقابلتهم للدعوة المحمدية وهو غرض جديد فإنهم لما تحدث عنهم بما هو من شؤونهم مع أنبيائهم وجه الخطاب إليهم ، ولما أريد الحديث عنهم في إعراضهم عن النبيء صلى الله عليه وسلم صار الخطاب جارياً مع المؤمنين وأجرى على اليهود ضمير الغيبة . على أنه يحتمل أن قولهم { قلوبنا غلف } لم يصرحوا به علَنا ويدل لذلك أن أسلوب الخطاب جرى على الغيبة من مبدأ هذه الآية إلى قوله تعالى : { ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل } [ البقرة : 92 ] . والقلوبُ مستعملة في معنى الأذهان على طريقة كلام العرب في إطلاق القلب على العقل .

والغُلْف بضم فسكون جمع أغلف وهو الشديد الغلاف مشتق من غَلَّفه إذا جعل له غِلافاً وهو الوعاء الحافظ للشيء والساتر له من وصول ما يُكره له .

وهذا كلام كانوا يقولونه للنبيء صلى الله عليه وسلم حين يدعوهم للإسلام قصدوا به التهكم وقطع طمعه في إسلامهم وهو كقول المشركين : { قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب } [ فصلت : 5 ] . وفي الكلام توجيه لأن أصل الأغلف أن يكون محجوباً عما لا يلائمه فإن ذلك معنى الغِلاف فهم يُخيَلون أن قلوبهم مستورة عن الفهم ويريدون أنها محفوظة من فهم الضلالات ولذلك قال المفسرون : إنه مؤذن بمعنى أنها لا تعي ما تقول ولو كان حقاً لوعته ، وهذان المعنيان اللذان تضمنهما لتوجيه يلاقيهما الرد بقوله تعالى : { بل لعنهم الله بكفرهم } أي ليس عدم إيمانهم لقصور في أفهامهم ولا لربوها عن قبول مثل ما دعوا إليه ولكن لأنهم كفروا فلعنهم الله بكفرهم وأبعدهم عن الخير وأسبابه . وبهذا حصل المعنيان المرادان لهم من غير حاجة إلى فرض احتمال أن يكون ( غلف ) جمع غلاف لما فيه من التكلف في حذف المضاف إليه حتى يقدر أنها أوعية للعلم والحق فلا يتسرب إليها الباطل .

وقوله : { بل لعنهم الله بكفرهم } تسجيل عليهم وفضح لهم بأنهم صمموا على الكفر والتمسك بدينهم من غير التفات لحجة النبيء صلى الله عليه وسلم فلما صمموا على ذلك عاقبهم الله باللعن والإبعاد عن الرحمة والخير فحرمهم التوفيق والتبصر في دلائل صدق الرسول ، فاللعنة حصلت لهم عقاباً على التصميم على الكفر وعلى الإعراض عن الحق وفي ذلك رد لما أوهموه من أن قلوبهم خلقت بعيدة عن الفهم لأن الله خلقهم كسائر العقلاء مستطيعين لإدراك الحق لو توجهوا إليه بالنظر وترك المكابرة وهذا معتقد أهل الحق من المؤمنين عدا الجبرية .

وقوله : { فقليلاً ما يؤمنون } تفريع على { لَعَنهم } و { قليلاً } صفة لمحذوف دل عليه الفعل والتقدير فإيماناً قليلاً وما زائدة للمبالغة في التقليل والضمير لمجموع بني إسرائيل ويجوز أن يكون ( قليلاً ) صفة للزمان الذي يستلزمه الفعل أي فحيناً قليلاً يؤمنون . وقيل يجوز أن يكون باقياً على حقيقته مشاراً به إلى إيمانهم ببعض الكتاب أو إلى إيمانهم ببعض ما يدعو له النبيء صلى الله عليه وسلم مما يوافق دينهم القديم كالتوحيد ونبوءة موسى أو إلى إيمان أفراد منهم في بعض الأيام فإن إيمان أفراد قليلة منهم يستلزم صدور إيمان من مجموع بني إسرائيل في أزمنة قليلة أو حصول إيمانات قليلة . ويجوز أن يكون { قليلاً } هنا مستعملاً في معنى العدم فإن القلة تستعمل في العَدَم في كلام العرب قال أبو كبير الهذلي :

قليلُ التشكي للمهم يصيبه *** كثيرُ الهوى شتى النوى والمسالك

أراد أنه لا يتشكى ، وقال عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود في أرض نصيبين « كثيرة العقارب قليلة الأقارب » أراد عديمة الأقارب ويقولون : فلان قليل الحياء وذلك كله إما مجاز لأن القليل شبه بالعدم وإما كناية وهو أظهر لأن الشيء إذا قل آل إلى الاضمحلال فكان الانعدام لازماً عرفياً للقلة ادعائياً فتكون { ما } مصدرية والوجهان أشار إليهما في « الكشاف » باختصار واقتصر على الوجه الثاني منهما في تفسيره قولَه تعالى : { ءإله مع الله قليلاً ما تذكرون } في سورة النمل ( 62 ) فقال : والمعنى نفي التذكير والقلة تستعمل في معنى النفي وكأنَّ وجه ذلك أن التذكر من شأنه تحصيل العلم فلو تذكر المشركون المخاطبون بالآية لحصل لهم العلم بأن الله واحد لا شريك له ، كيف وخطابهم بقوله : { ءإله مع الله } المقصود منه الإنكار بناء على أنهم غير معتقدين ذلك .


[151]:- قلت نظير هذا الالتفات من الخطاب إلى الغيبة بعد إجراء صفات نقص قول الشاعر يذم من بخل في قضاء مهم: أبى لك كسب الحمد رأي مقصر ونفس أضاق الله بالخير باعها إذا هي حثته على الخير مرة عصاها وإن همت بشر أطاعها