ثم ينتقل القرآن إلى الحديث عن مشهد آخر من مشاهد يوم القيامة ، يحدثنا فيه عن أصحاب الأعراف وما يدور بينهم وبين أهل الجنة وأهل النار من حوار فيقول :
{ وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ } أى : بين أهل الجنة وأهل النار حجاب يفصل بينهما ، ويمنع وصول أحد الفريقين إلى الآخر .
ويرى بعض العلماء أن هذا الحجاب هو السور الذي ذكره الله في قوله - تعالى - في سورة الحديد : { يَوْمَ يَقُولُ المنافقون والمنافقات لِلَّذِينَ آمَنُواْ انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارجعوا وَرَآءَكُمْ فالتمسوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرحمة وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ العذاب } ثم قال - تعالى - : { وَعَلَى الأعراف رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الجنة أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ } .
الأعراف : جمع عرف ، وهو المكان المرتفع من الأرض وغيرها . ومنه عرف الديك وعرف الفرس وهو الشعر الذي يكون في أعلى الرقبة .
والمعنى : وبين الجنة والنار حاجز يفصل بينهما وعلى أعراف هذا الحاجز - أى في أعلاه - رجال يرون أهل الجنة وأهل النار فيعرفون كلا منهم بسيماهم وعلاماتهم التي وصفهم الله بها في كتابه كبياض الوجوه بالنسبة لأهل الجنة ، وسوادها بالنسبة لأهل النار ، ونادى أصحاب الأعراف أصحاب الجنة عند رؤيتهم لهم بقولهم : سلام عليكم وتحية لكم { لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ } .
هذا ، وللعلماء أقوال في أصحاب الأعراف أوصلها بعض المفسرين إلى اثنى عشر قولا من أشهرها قولان :
أولهما : أن أصحاب الأعراف قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم ، وقد روى هذا القول عن حذيفة وابن عباس وابن مسعود وغير واحد من السلف والخلف .
وقد استشهد أصحاب هذا القول بما رواه ابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال : " سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن استوت حسناتهم وسيئاتهم فقال : " أولئك أصحاب الأعراف ، لم يدخلوها وهم يطمعون " " .
وعن الشعبى عن حذيفة أنه سئل عن أصحاب الأعراف فقال : " هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فقعدت بهم سيئاتهم عن الجنة ، وخلفت بهم حسناتهم عن النار . قال : فوقفوا هناك على السور حتى يقضى الله فيهم " .
وهناك آثار أخرى تقوى هذا الرأى ذكرها الإمام ابن كثير في تفسيره .
أما الرأى الثانى : فيرى أصحابه أن أصحاب الأعراف قوم من أشرف الخلق وعدولهم كالأنبياء والصديقين والشهداء . وينسب هذا القول إلى مجاهد وإلى أبى مجلز فقد قال مجاهد : " أصحاب الأعراف قوم صالحون فقهاء علماء " وقال أبو مجلز : أصحاب الأعراف هم رجال من الملائكة يعرفون أهل الجنة وأهل النار .
ومعنى كونهم رجالا - في قول أبى مجلز أى : في صورتهم .
وقد رجح بعض العلماء الرأى الثانى فقال : " وليس أصحاب الأعراف ممن تساوت حسناتهم وسيئاتهم كما جاء في بعض الروايات ، لأن ما نسب إليهم من أقوال لا يتفق مع انحطاط منزلتهم عن أهل الجنة ، انظر قولهم للمستكبرين :
{ مَآ أغنى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ } فإن هذا الكلام لا يصدر إلا من أرباب المعرفة الذين اطمأنوا إلى مكانتهم . ولذا أرجح أن رجال الأعراف هم عدول الأمم والشهداء على الناس ، وفى مقدمتهم الأنبياء والرسل " .
والذى نراه : أن هناك حجاباً بين الجنة والنار ، الله أعلم بحقيقته ، وأن هذا الحجاب لا يمنع وصول الأصوات عن طريق المناداة ، وأن هذا الحجاب من فوقه رجال يرون أهل الجنة وأهل النار فينادون كل فريق بما يناسبه ، يحيون أهل الجنة ويقرعون أهل النار ، وأن هؤلاء الرجال - يغلب على ظننا - أنهم قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم . لأن هذا القول هو قول جمهور العلماء من السلف والخلف ، ولأن آثار تؤيده ، ولذا قال ابن كثير : " واختلفت عبارات المفسرين في أصحاب الأعراف من هم ؟ وكلها قريبة ترجع إلى معنى واحد ، وهو أنهم قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم ، نص عليه حذيفة وابن عباس وابن مسعود وغير واحد من السلف والخلف رحمهم الله " .
وقوله : { لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه في أصحاب الأعراف ، أى أن أصحاب الأعراف عندما رأوا أهل الجنة سلموا عليهم حال كونهم - أى أصحاب الأعراف - لم يدخلوها معهم وهم طامعون في دخولها مترقبون له .
وثانيهما : أنه في أصحاب الجنة : أى : أنهم لم يدخلوها بعد ، وهم طامعون في دخولها لما ظهر لهم من يسر الحساب . وكريم اللقاء .
{ وبينهما حجاب } أي بين الفريقين لقوله تعالى : { فضرب بينهم بسور } أو بين الجنة والنار ليمنع وصول اثر إحداهما إلى الأخرى . { وعلى الأعراف } وعلى أعراف الحجاب أي أعاليه ، وهو السور المضروب بينهما جمع عرف مستعار من عرف الفرس وقيل العرف ما ارتفع من الشيء فإنه يكون لظهوره أعرف من غيره . { رجال } طائفة من الموحدين قصروا في العمل فيحبسون بين الجنة والنار حتى يقضي الله سبحانه وتعالى فيهم ما يشاء وقيل قوم علت درجاتهم كالأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، أو الشهداء رضي الله تعالى عنهم ، أو خيار المؤمنين وعلمائهم ، أو ملائكة يرون في صورة الرجال . { يعرفون كلا } من أهل الجنة والنار . { بسيماهم } بعلامتهم التي أعلمهم الله بها كبياض الوجه وسواده ، فعل من سام إبله إذا أرسلها في المرعى معلمة ، أو من وسم على القلب كالجاه من الوجه ، وإنما يعرفون ذلك بالإلهام أو تعليم الملائكة . { ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم } أي إذا نظروا إليهم سلموا عليهم . { لم يدخلوها وهم يطعمون } حال من الواو على الوجه الأول ومن أصحاب على الوجوه الباقية .
تقديم { وبينهما } وهو خبر على المبتدأ للاهتمام بالمكان المتوسّط بين الجنّة والنّار وما ذكر من شأنه . وبهذا التّقديم صحّ تصحيح الابتداء بالنّكرة ، والتّنكير للتّعظيم .
وضمير { بينهما } يعود إلى لفظي الجنّة والنّار الواقعين في قوله { ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار } [ الأعراف : 44 ] وهما اسما مكان ، فيصلح اعتبار التّوسّط بينهما . وجُعل الحجاب فصلاً بينهما . وتثنية الضّمير تُعيِّن هذا المعنى ، ولو أريد من الضّمير فريقَا أهللِ الجنّة وأهل النّار ، لقال : بينهم ، كما قال في سورة الحديد ( 13 ) { فضرب بينهم بسور } الآية .
والحجاب : سور ضُرب فاصلاً بين مكان الجنّة ومكان جهنّم ، وقد سمّاه القرآن سوراً في قوله : { فضرب بينهم بسور له باب } في سورة الحديد ( 13 ) ، وسمّي السور حجاباً لأنّه يقصد منه الحجب والمنع كما سمّي سوراً باعتبار الإحاطة .
والأعراف : جمع عُرْف بِضّم العين وسكون الرّاء ، وقد تضمّ الرّاء أيضاً وهو أعلى الشّيء ومنه سمّي عُرف الفرس ، الشّعر الذي في أعلى رقبته ، وسمّي عُرف الدّيك . الرّيش الذي في أعلى رأسه .
و ( أل ) في الأعراف } للعهد . وهي الأعراف المعهودة التي تكون بارزة في أعالي السّور . ليرقب منها النظَّارة حركات العد وليشعروا به إذا داهمهم . ولم يسبق ذكر للأعراف هنا حتّى تعرّف بلام العهد ، فتعيّن أنّها ما يعهده النّاس في الأسوار . أو يجعل ( ألْ ) عوضاً عن المضاف إليه : أي وعلى أعراف السّور . وهما وجهان في نظائر هذا التّعريف كقوله تعالى : { فإن الجنة هي المأوى } [ النازعات : 41 ] وأيّاً مّا كان فنظم الآية يأبى أن يكون المراد من الأعراف مكاناً مخصوصاً يتعرّف منه أهل الجنّة وأهل النّار ، إذ لا وجه حينئذٍ لتعريفه مع عدم سبق الحديث عنه .
وتقديم الجار والمجرور لتصحيح الابتداء بالنّكرة ، إذ اقتضى المقام الحديث عن رجال مجهولين يكونون على أعراف هذا الحجاب ، قبل أن يدخلوا الجنّة ، فيشهدون هنالك أحوال أهل الجنّة وأحوال أهل النّار ، ويعرِفون رجالاً من أهل النّار كانوا من أهل العزّة والكبرياء في الدّنيا ، وكانوا يكذّبون وعد الله المؤمنين بالجنّة ، وليس تخصيص الرّجال بالذّكر بمقتض أن ليس في أهل الأعراف نساء ، ولا اختصاص هؤلاء الرّجال المتحدّث عنهم بذلك المكان دون سواهم من الرّجال ، ولكن هؤلاء رجال يقع لهم هذا الخبر ، فذكروا هنا للاعتبار على وجه المصادفة ، لا لقصد تقسيم أهل الآخرة وأمكنتهم ، ولعلّ توهّم أنّ تخصيص الرّجال بالذّكر لقصد التّقسيم قد أوقع بعض المفسّرين في حيرة لتطلّب المعنى لأنّ ذلك يقتضي أن يكون أهل الأعراف قد استحقّوا ذلك المكان لأجل حالة لاحظّ للنّساء فيها ، فبعضهم حمل الرّجال على الحقيقة فتطلب عملاً يعمله الرّجال لاحظ للنّساء فيه في الإسلام ، وليس إلاّ الجهاد ، فقال بعض المفسرين : هؤلاء قوم جاهدوا وكانوا عاصين لآبائهم ، وبعض المفسّرين حمل الرّجال على المجاز بمعنى الأشخاص من الملائكة ، أطلق عليهم الرّجال لأنّهم ليسوا إناثاً كما أطلق على أشخاص الجنّ في قوله تعالى : { وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن } [ الجن : 6 ] فيظهر وجه لتخصيص الرّجال بالذّكر تبعاً لما في بعض تلك الأحاديث التي أشرنا إليها .
وأمّا ما نقل عن بعض السّلف أنّ أهل الأعراف هم قوم اسْتوت موازين حسناتهم مع موازين سيّئاتهم ، ويكون إطلاق الرّجال عليهم تغليباً ، لأنّه لا بدّ أن يكون فيهم نساء ، ويروى فيه أخبار مسندة إلى النّبيء صلى الله عليه وسلم لم تبلغ مبلغ الصّحيح ولم تنزل إلى رتبة الضّعيف : روى بعضَها ابنُ ماجة ، وبعضَها ابنُ مردويه ، وبعضَها الطّبري ، فإذا صحت فإنّ المراد منها أن من كانت تلك حالتهم يكونون من جملة أهل الأعراف المخبر عنهم في القرآن بأنّهم لم يدخلوا الجنّة وهم يطمعون . وليس المراد منها أنّهم المقصودُ من هذه الآية كما لا يخفى على المتأمّل فيها .
والذي ينبغي تفسير الآية به : أنّ هذه الأعراف جعلها الله مكاناً يوقف به من جعله الله من أهل الجنّة قبل دخوله إياها ، وذلك ضرب من العقاب خفيف ، فجعل الدّاخلين إلى الجنّة متفاوتين في السبق تفاوتاً يعلم الله أسبابه ومقاديره ، وقد قال تعالى : { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعدُ وقاتلوا وكلاً وعد الله الحسنى } [ الحديد : 10 ] وخصّ الله بالحديث في هذه الآيات رجالاً من أصحاب الأعراف . ثمّ يحتمل أن يكون أصحاب الأعراف من الأمّة الإسلاميّة خاصّة . ويحتمل أن يكونوا من سائر الأمم المؤمنين برسلهم ، وأيّاما كان فالمقصود من هذه الآيات هم من كان من الأمّة المحمّديّة .
وتنوين { كلاً } عوضٌ عن المضاف إليه المعروف من الكلام المتقدّم . أي كلّ أهل الجنّة وأهل النّار .
والسيما بالقصر السمة أي العلامة ، أي بعلامة ميَّز الله بها أهل الجنّة وأهل النّار ، وقد تقدّم بيانها واشتقاقها عند قوله تعالى : { تعرفهم بسيماهُم } في سورة البقرة ( 273 ) .
ونداؤهم أهلَ الجنّة بالسّلام يؤذن بأنّهم في اتّصال بعيد من أهل الجنّة ، فجعل الله ذلك أمارة لهم بحسن عاقبتهم ترتاح لها نفوسهم . ويعلمون أنّهم صائرون إلى الجنّة ، فلذلك حكى الله حالهم هذه للنّاس إيذاناً بذلك وبأن طمعهم في قوله : { لم يدخلوها وهم يطمعون } هو طمع مستند إلى علامات وقوع المطموع فيه ، فهو من صنف الرّجاء كقوله : { والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين } ( الشعراء 82 ) .
و { أن } تفسير للنّداء ، وهو القول { سلام عليكم } . و { سلام عليكم } دعاءُ تحيّة وإكرام .
وجملة : { لم يدخلوها وهم يطمعون } مستأنفة للبيان ، لأنّ قوله { ونادوا أصحاب الجنّة } يثير سؤالاً يبحث عن كونهم صائرين إلى الجنّة أو إلى غيرها . وجملة : { وهم يطمعون } حال من ضمير { يدخلوها } والجملتان معاً معترضتان بين جملة : { ونادوا أصحاب الجنة } وجملة { وإذا صرفت أبصارهم } .