التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱلۡقَوۡلِ ٱلثَّابِتِ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِۖ وَيُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلظَّـٰلِمِينَۚ وَيَفۡعَلُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ} (27)

وقوله سبحانه - { يُثَبِّتُ الله الذين آمَنُواْ بالقول الثابت فِي الحياة الدنيا وَفِي الآخرة } بيان لفضل الله - تعالى - على هؤلاء المؤمنين ، ولحسن عاقبتهم . .

والمراد بالحياة الدنيا : مدة حياتهم فى هذه الدنيا .

والمراد بالآخرة : ما يشمل سؤالهم فى القبر وسؤالهم فى مواقف القيامة .

والمعنى : يثبت الله - تعالى - الذين آمنوا بالقول الثابت أى : الصادق الذى لا شك فيه ، فى الحياة الدنيا ، بأن يجعلهم متمسكين بالحق ، ثابتين عليه دون أن يصرفهم عن ذلك ترغيب أو ترهيب .

ويثبتهم أيضاً بعد مماتهم ، بأن يوفقهم إلى الجواب السديد عند سؤالهم فى القبر وعند سؤالهم فى مواقف يوم القيامة .

قال الآلوسى ما ملخصه : " قوله - تعالى - { يُثَبِّتُ الله الذين آمَنُواْ بالقول الثابت } أى : الذى ثبت عندهم وتمكن فى قلوبهم ، وهو الكلمة الطيبة التى ذكرت صفتها العجيبة . . . { فِي الحياة الدنيا } أى يثبتهم بالبقاء على ذلك مدة حياتهم ، فلا يزالون عند الفتنة . . { وَفِي الآخرة } أى بعد الموت وذلك فى القبر الذى هو أول منزل من منازل الآخرة ، وفى مواقف القيامة ، فلا يتلعثمون إذا سئلوا عن معتقدهم هناك ، ولا تدهشهم الأهوال . . . " .

وقوله : { وَيُضِلُّ الله الظالمين } بيان لسوء عاقبة أصحاب المثل الثانى وهم الكافرون .

أى : ويخلق فيهم الضلال عن الحق بسبب إيثارهم الكفر على الإيمان .

{ وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَآءُ } فعله ، عن تثبيت من يريد تثبيته ، وإضلال من يريد إضلاله ، حسبما تقتضيه إرادته وحكمته ، لاراد لأمره ، ولا معقب لحكمه .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱلۡقَوۡلِ ٱلثَّابِتِ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِۖ وَيُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلظَّـٰلِمِينَۚ وَيَفۡعَلُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ} (27)

{ يثبّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت } الذي ثبت بالحجة عندهم وتمكن في قلوبهم { في الحياة الدنيا } فلا يزالون إذا فتنوا في دينهم كزكريا ويحي عليهما السلام وجرجيس وشمعون والذين فتنهم أصحاب الأخدود . { وفي الآخرة } فلا يتلعثمون إذا سئلوا عن معتقدهم في الموقف ، ولا تدهشهم أهوال يوم القيامة . وروي ( أنه صلى الله عليه وسلم ذكر قبض روح المؤمن فقال : ثم تعاد روحه في جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه في قبره ويقولان له : من ربك ؟ وما دينك ؟ ومن نبيك ؟ فيقول : ربي الله وديني الإسلام ، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم ، فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي فذلك قوله : { يثبّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت } . { ويضل الله الظالمين } الذين ظلموا أنفسهم بالاقتصار على التقليد فلا يهتدون إلى الحق ولا يثبتون في مواقف الفتن . { ويفعل الله ما يشاء } من تثبيت بعض وإضلال آخرين من غير اعتراض عليه .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱلۡقَوۡلِ ٱلثَّابِتِ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِۖ وَيُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلظَّـٰلِمِينَۚ وَيَفۡعَلُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ} (27)

{ القول الثابت في الحياة الدنيا } ، كلمة الإخلاص والنجاة من النار : لا إله إلا الله ، والإقرار بالنبوة .

وهذه الآية تعم العالم من لدن آدم عليه السلام إلى يوم القيامة ، وقال طاوس وقتادة وجمهور العلماء : { الحياة الدنيا } هي مدة حياة الإنسان . { وفي الآخرة } هي وقت سؤاله في قبره . وقال البراء بن عازب وجماعة { في الحياة الدنيا } هي وقت سؤاله في قبره -ورواه البراء عن النبي عليه السلام في لفظ متأول{[7073]} .

قال القاضي أبو محمد : ووجه القول لأن ذلك في مدة وجود الدنيا .

وقوله { في الآخرة } هو يوم القيامة عند العرض .

قال القاضي أبو محمد : والأول أحسن ، ورجحه الطبري .

و { الظالمين } في هذه الآية ، الكافرين ، بدليل أنه عادل بهم المؤمنين ، وعادل التثبيت بالإضلال ، وقوله : { ويفعل الله ما يشاء } تقرير لهذا التقسيم المتقدم ، كأن امرأً رأى التقسيم فطلب في نفسه علته ، فقيل له : { ويفعل الله ما يشاء } بحق الملك .

وفي هذه الآية رد على القدرية .

وذكر الطبري في صفة مساءلة العبد في قبره أحاديث ، منها ما وقع في الصحيح . وهي من عقائد الدين ، وأنكرت ذلك المعتزلة . ولم تقل بأن العبد يسأل في قبره ، وجماعة السنة تقول : إن الله يخلق له في قبره إدراكات وتحصيلاً ، إما بحياة كالمتعارفة ، وإما بحضور النفس وإن لم تتلبس بالجسد كالعرف ، كل هذا جائز في قدرة الله تعالى ، غير أن في الأحاديث : «إنه يسمع خفق النعال » ، ومنها : «إنه يرى الضوء كأن الشمس دنت للغروب » ، وفيها : «إنه ليراجع » ، وفيها : «فيعاد روحه إلى جسده » ، وهذا كله يتضمن الحياة - فسبحان رب هذه القدرة .


[7073]:الحديث جاء موقوفا في بعض طرق مسلم عن البراء، قال القرطبي: والصحيح فيه الرفع كما في صحيح مسلم، وكتاب النسائي، وأبي داود، وابن ماجه، وغيرهم، وذكر البخاري بسنده عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أقعد المؤمن في قبره أتاه آت، ثم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فذلك قوله: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة}، وقيل: معنى يثبت: يديمهم الله على القول الثابت، ومنه قول عبد الله بن رواحة: يثبت الله ما آتاك من حسن تثبيت موسى ونصرا كالذي نصرا وليس في الحديث ما يفيد أن الحياة الدنيا هي في القبر، وأن الآخرة هي يوم القيامة، وليس فيه أيضا ما يفيد العكس، ولهذا قال ابن عطية: "في لفظ متأول".
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱلۡقَوۡلِ ٱلثَّابِتِ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِۖ وَيُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلظَّـٰلِمِينَۚ وَيَفۡعَلُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ} (27)

جملة مستأنفة استئنافاً بيانياً ناشئاً عما أثاره تمثيل الكلمة الطيبة بالشجرة الثابتة الأصل بأن يسأل عن الثبات المشبه به : ما هو أثره في الحالة المشبهة فيجاب بأن ذلك الثبات ظهر في قلوب أصحاب الحالة المشبهة وهم الذين آمنوا إذ ثبتوا على الدين ولم يتزعزعوا فيه لأنهم استثمروا من شجرة أصلها ثابت .

والقول : الكلام . والثابت الصادق الذي لا شك فيه . والمراد به أقوال القرآن لأنها صادقة المعاني واضحة الدليل ، فالتعريف في { القول } لاستغراق الأقوال الثابتة . والباء في { بالقول } للسببية .

ومعنى تثبيت الذين آمنوا بها أن الله يسر لهم فيهم الأقوال الإلهية على وجهها وإدراك دلائلها حتى اطمأنت إليها قلوبهم ولم يخامرهم فيها شك فأصبحوا ثابتين في إيمانهم غير مزعزعين وعاملين بها غير مترددين .

وذلك في الحياة الدنيا ظاهر ، وأما في الآخرة فبإلفائهم الأحوال على نحو مما علموه في الدنيا ، فلم تعترهم ندامة ولا لهف . ويكون ذلك بمظاهر كثيرة يَظهر فيها ثباتهم بالحق قولاً وانسياقاً ، وتظهر فيها فتنة غير المؤمنين في الأحوال كلها .

وتفسير ذلك بمقابلته بقوله : { ويضل الله الظالمين } ، أي المشركين ، أي يجعلهم في حيرة وعَماية في الدنيا وفي الآخرة . والضلال : اضطراب وارتباك ، فهو الأثر المناسب لسببه ، أعني الكلمة التي اجتثت من فوق الأرض كما دلت عليه المقابلة .

والظالمون : المشركون ، قال تعالى : { إن الشرك لظلم عظيم } [ سورة لقمان : 13 ] .

ومن مظاهر هذا التثبيت فيهما ما ورد من وصف فتنة سؤال القبر . روى البخاري والترمذي عن البَرَاء بن عازب أن رسول الله قال : المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فذلك قوله تعالى : { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة } .

وجملة { ويفعل الله ما يشاء } كالتذليل لما قبلها . وتحت إبهام { ما يشاء } وعمومه مطاوٍ كثيرة من ارتباط ذلك بمراتب النفوس ، وصفاء النيات في تطلب الإرشاد ، وتربية ذلك في النفوس بنمائه في الخير والشر حتى تبلغ بذور تيْنك الشجرتين منتهى أمدهما من ارتفاع في السماء واجتثاث من فوق الأرض المعبر عنها بالتثبيت والإضلال . وفي كل تلك الأحوال مراتب ودرجات لا تبلغ عقول البشر تفصيلها .

وإظهار اسم الجلالة في { ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء } لِقصد أن تكون كل جملة من الجمل الثلاث مستقلة بدلالتها حتى تسير مسير المثَل .