وبعد أن نهى الله المؤمنين عن تحريم ما أحله لهم ، وأمرهم بأن يتمتعوا بما رزقهم من خير بدون إسراف أو تقتير ، وبين لهم حكم ما عقدوه من أيمان بعد كل ذلك وجه - سبحانه - نداء ثانيا إليهم بين لهم فيه مضار الخمر وأشباهها من الرذائل ، وأمرهم باجتنابها ، فقال تعالى :
{ ياأيها الذين آمَنُواْ . . . }
قال الفخر الرازي : اعلم أن هذا النوع الثالث من الأحكام المذكورة في هذا الموضع - فقد امر الله المؤمنين بعدم تحريم الطيبات ثم بين حكم الأيمان المنعقدة .
ووجه اتصال هذه الآيات بما قبلها أنه - تعالى - قال فيما تقدم : { لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ } إلى قوله : { وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حَلاَلاً طَيِّباً } ثم لما كان من جملة الأمور المستطابة الخمر والميسر ، لا جرم أنه - تعالى - بين أنهما غير داخلين في المحلات بل في المحرمات .
والخمر - بمعنى المصدر - هو الستر ، ولذلك يقال لما يستر به الرأس عند النساء خمار . والخمر - بمعنى الاسم - ما يخمر العقل ويستره ، ويمنعه من التقدير السليم :
قال القرطبي : والخمر مأخوذة من خمر ، إذا ستر ، ومن خمار المرأة لأنه يستر وجهها . وكل شيء غطى شيئاً فقد خمره . ومنه : خمروا آنيتكم أي : غطوها .
وقيل : إنما سميت الخمر خمراً ، لأنها تركت حتى أدركت كما يقال : قد اختمر العجين ، أي : بلغ إدراكه ، وخمر الرأي ، أي ترك حتى يتبين فيه الوجه .
وقيل : إنما سميت الخمر خمراً ، لأنها تخالط العقل . من المخامرة وهي المخالطة . ومنه قولهم : دخلت في خمار الناس - بفتح الخاء وضمها - أي : اختلطت بهم . فالمعاني الثالثة متقاربة ، فالخمر تركت حتى أدركت ، ثم خالطت العقل ، ثم خمرته والأصل الستر .
والميسر : القمار - بكسر القاف - وهو في الأصل مصدر ميمي من يسر كالموعد من وعد . وهو مشتق من اليسر بمعنى السهولة ، لأن المال يجيء للكاسب من غير جهد ، أو هو مشتق من يسر بمعنى جزأ ، ثم أصبح علما على كل ما يتقامر عليه كالجزور ونحوه .
قال القرطبي : الميسر : الجزور الذي كانوا يتقامرون عليه ، سمي ميسراً لأنه يجزأ أجزاء فكأنه موضوع التجزئة . وكل شيء جزأته فقد يسرته . والياسر : الجازر ، لأنه يجزئ لحم الجزور . ويقال للضاربين بالقداح والمتقامرين على الجزور : ياسرون لأنهم جازرون إذ كانوا سببا لذلك .
والمراد بالميسر ما يشمل كل كسب يجيء بطريق الحظ المبني على المصادفة فاللعب بالنرد على مال يسمى قماراً ، واللعب بالشطرنج على مال يسمى قماراً وهكذا ما يشبه ذلك من ألوان تمليك المال بالمخاطرة وبطريق الحظ المبني على المصادفة .
وتحريم الميسر تحريم لذات الفعل . فالعمل في ذاته حرام ، والكسب عن طريقه حرام .
والأنصاب : جمع نصب ، وتطلق على الأصنام التيك انت تنصب للعبادة لها أو على الحجارة التي كانت تخصص للذبح عليها تقرباً للأصنام .
والأزلام : جمع زلم . وهي السهام التي كانوا يتقاسمون بها الجزور أو البقرة إذا ذبحت فسهم عليه واحد ، وسهم اثنان وهكذا إلى عشرة . أو هي السهام التي كانوا يكتبون على أحدها : أمرني ربي وعلى الآخر نهاني ربي ، ويتركون الثالث غفلا من الكتابة فإذا أرادوا سفراً أو حرباً أو زواجاً أو غير ذلك ، أتوا إلى بيت الأصنام واستقسموها ، فإن خرج أمرني ربي أقدموا على ما يرونه ، وإن خرج نهاني ربي أمسكوا عنه ، وإن خرج الغفل أجالوها ثانية حتى يخرج الآمر أو الناهي .
وقد نهى الله - تعالى - في إوائل هذه السورة عن الاستقسام بالأزلام فقال { وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالأزلام ذلكم فِسْقٌ } وقوله : { رِجْسٌ } أي قذر تأباه النفوس الكريمة والعقول السليمة لقذارته ونجاسته .
قال الفخر الرازي : والرجس في اللغة كل ما استقذر من عمل . يقال : رجس الرجل رجسا إذا عمل عملا قبيحا : وأصله من الرجس - بفتح الراء - وهو شدة الصوت . يقال : سحاب رجاس إذا كان شديد الصوت بالرعد . فكأن الرجس هو العمل الذي يكون قوى الدرجة كامل الرتبة في القبح .
وقد ذكرالمفسرون في سبب نزول هذه الآيات روايات منها : ما جاء في صحيح مسلم عن سعد بن أبي وقاص أنه قال : نزلت في آيات من القرآن ، وفيه قال . وأتيت على نفر من الأنصار فقالوا : تعال نطعمك ونسقيك خمراً وذلك قبل أن تحرم الخمر - قال فأتيتهم في حش - أي بستان - فإذا رأس جزور مشوى عندهم وزق من خمر قال : فأكلت وشربت معهم . قال : فذكرت الأنصار والمهاجرين عندهم فقلت : المهاجرون خير من الأنصار . قال . فأخذ رجل - من الأنصار - لحي جمل فضربني به فجرح أنفي ، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم فأخبرته فأنزل الله - تعالى - { ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه } . . الآيات .
ومنها ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس قال : نزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار . شربوا حتى ثملوا ، فعبث بعضهم ببعض ، فلما أن صحوا ، وجعل الرجل منهم يرى الأثر بوجهه ولحيته فيقول : فعل هذا بي أخي فلان - وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن - والله لو كان بي رءوفاً رحيما ما فعل بي هذا ، حتى وقعت في قلوبهم الضغائن فأنزل الله : { ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر } إلى قوله : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } .
والمعنى : { ياأيها الذين آمَنُواْ } إيمانا حقا . إنما تعاطي { الخمر } أي : الشراب الذي يخامر العقل ويخالطه ويمنعه من التفكير السليم { والميسر } أي القمار الذي عن طريقه يكون تمليك المال بالحظ المبني على المصادفة والمخاطرة { والأنصاب } أي : الحجارة التي تذبح عليها الحيوانا تقربا للأصنام . { والأزلام } أي : السهام التي عن طريقها يطلب الشخص معرفة ما قسم له من خير أو شر . هذه الأنواع الأربعة { رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان } أي : مستقذرة تعافها النفوس الكريمة ، وتأباها العقول السليمة ، لأنها من تزيين الشيطان الذي هو عدو للإِنسان ، ولا يريد له إلا ما كان شيئا قبيحاً .
قال - تعالى - : { الشيطان يَعِدُكُمُ الفقر وَيَأْمُرُكُم بالفحشآء } والفاء في قوله { فاجتنبوه } للإِفصاح ، والضمير فيه يعود على الرجس الذي هو خبر عن تلك الأمور الأربعة وهي الخمر والميسر والأنصاب والأزلام .
أي : إذا كان تعاطي هذه الأشياء الأربعة رجسا وقذر ينأى عنه العقلاء فاجتنبوه لعلكم بسبب هذا الاجتناب والترك لذلك الرجس تنالون الفلاح والظفر في دنياكم وآخرتكم .
والنداء بقوله : { ياأيها الذين آمَنُواْ } عام لجميع المؤمنين ، وقد ناداهم - سبحانه - بهذه الصيغة لتحريك حرارة العقيدة في قلوبهم حتى يستجيبوا لما نودوا من أجله ، وهو اجتناب تلك الرذائل وتركها تركا تاماً .
وقوله : { رجس } خبر عن هذه الرذائل الأربعة . وصح الإِخبار به - مع أنه مفرد - عن متعدد هو هذه الأربعة ، لأنه مصدر يستوي فيه القليل والكثير وشبيه بذلك قوله - تعالى - { إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ } وقيل : لأنه خبر عن الخمر ، وخبر المعطوفات عليها محذوف ثقة بالمذكور .
وقيل : لأن الكلام مضافا إلى تلك الأشياء ، وهو خبر عنه . أي : إنما شأن هذه الأشياء أو تعاطيها رجس .
وقوله : { مِّنْ عَمَلِ الشيطان } في محل رفع على أنه صفة لقوله : { رِجْسٌ } أي : رجس كائن من عمل الشيطان ، لأنه ناجم عن تزيينه وتسويله ، إذ هو خبيث والخبيث لا يدعو إلا إلى الخبيث فالمراد من إضافة العمل إلى الشيطان المبالغة في كمال قبح ذلك العمل .
وعبر بقوله : { فاجتنبوه } للمبالغة في الأمر بترك هذه الرذائل ، فكأنه سبحانه يقول لا آمركم فقط بترك الرذائل ، بل آمركم أيضاً بأن تكونوا أنتم في جانب وهذه المنكرات في جانب آخر . فالأمر هنا نمصب على الترك وعلى كل ما يؤدي إلى اقتراف هذه المنكرات كمخالطة المرتكبين لها . وغشيان مجالسها . إلخ
{ يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب } أي الأصنام التي نصبت للعبادة . { والأزلام } سبق تفسيرها في أول السورة . { رجس } قذر تعاف عنه العقول ، وأفرده لأنه خبر للخمر ، وخبر المعطوفات محذوف أو لمضاف محذوف كأنه قال : إنما تعاطي الخمر والميسر . { من عمل الشيطان } لأنه مسبب عن تسويله وتزيينه . { فاجتنبوه } الضمير للرجس أو لما ذكر أو للتعاطي . { لعلكم تفلحون } لكي تفلحوا بالاجتناب عنه .
واعلم أنه سبحانه وتعالى أكد تحريم الخمر والميسر في هذه الآية ، بأن صدر الجملة ب{ إنما } وقرنهما بالأنصاب والأزلام ، وسماهما رجسا ، وجعلهما من عمل الشيطان تنبيها على أن الاشتغال بهما شر بحت أو غالب ، وأمر بالاجتناب عن عينهما وجعله سببا يرجى منه الفلاح .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.