ثم أمره - سبحانه - بأمر آخر فقال : { اسلك يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء . . } .
ولفظ { اسلك } من السلك - بتشديد السين مع الفتح - بمعنى إدخال الشىء فى الشىء .
أى : أدخل يدك يا موسى فى فتحة ثوبك ، تخرج بيضاء من غير سوء مرض أو عيب { واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرهب } والجناح : اليد ، والرهب : الخوف والفزع .
والمقصود بالجملة الكريمة { واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرهب } إرشاد موسى إلى ما يدخل الطمأنينة على قلبه ، ويزيل خوفه .
والمعنى : افعل يا موسى ما أمرناك به ، فإذا أفزعك أمر يدك وما تراه من بياضها وشعاعها ، فأدخلها فى فتحة ثوبك ، تعد إلى حالتها الأولى .
وإذا انتابك خوف عند معاينة الحية ، فاضمم يدك إلى صدرك ، يذهب عنك الخوف .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت ما معنى قوله : { واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرهب } ؟ قلت : فيه معنيان ، أحدهما : أن موسى - عليه السلام - لما قلب الله العصا حية فزع واضطرب ، فاتقاها بيده ، كما يفعل الخائف من الشىء ، فقيل له : إن اتقاءك بيدك فيه غضاضة - أى منقصة - عند الأعداء فإذا ألقيتها فعندما تنقلب حية ، فأدخل يدك تحت عضدك مكان اتقائك بها ، ثم أخرجها بيضاء ليحصل الأمران : اجتناب ما هو غضاضة عليك ، وإظهار معجزة أخرى .
والثانى : أن يراد بضم جناحة إليه ، تجلده وضبطه نفسه ، وتشدده عند انقلاب العصا حية ، حتى لا يضطرب ولا يرهب . . .
واسم الإشارة فى قوله ، فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه . . . يعود إلى العصا واليد . والتذكير لمراعاة الخبر وهو { بُرْهَانَانِ } والبرهان : الحجة الواضحة النيرة التى تلجم الخصم ، وتجعله لا يستطيع معارضتها . أى : فهاتان المعجزتان اللتان أعطيناك إياهما يا موسى ، وهما العصا واليد ، حجتان واضحتان كائنتان { مِن رَّبِّكَ } فاذهب بهما إلى { فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ } لكى تبلغهم رسالتنا ، وتأمرهم بإخلاص العبادة لنا .
{ إِنَّهُمْ } أى : فرعون وملئه { كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ } أى : خارجين من الطاعة إلى المعصية . ومن الحق إلى الباطل .
ثم قال الله له : { اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ } أي : إذا أدخلت يدك في جيب درعك ثم أخرجتها فإنها تخرج تتلألأ كأنها قطعة قمر في لمعان البرق ؛ ولهذا قال : { مِنْ غَيْرِ سُوءٍ } أي : من غير برص .
وقوله : { وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ } : قال مجاهد : من الفزع . وقال قتادة : من الرعب . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وابن جرير : مما حصل لك من خوفك من الحية .
والظاهر أن المراد أعم من هذا ، وهو أنه أمر عليه السلام ، إذا خاف من شيء أن يضم إليه جناحه من الرهب ، وهي يده ، فإذا فعل ذلك ذهب عنه ما يجده من الخوف . وربما إذا استعمل أحد ذلك على سبيل الاقتداء فوضع يديه على فؤاده ، فإنه يزول عنه ما يجد أو يَخف ، إن شاء الله ، وبه الثقة .
قال{[22310]} ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا الربيع بن ثعلب الشيخ الصالح ، أخبرنا أبو إسماعيل المؤدب ، عن عبد الله بن مسلم ، عن مجاهد ، قال{[22311]} : كان موسى عليه السلام ، قد مُلئ قلبه رعبًا من فرعون ، فكان إذا رآه قال : اللهم إني أدرأ بك في نحره ، وأعوذ بك من شره ، ففرّغ{[22312]} الله ما كان في قلب موسى عليه السلام ، وجعله في قلب فرعون ، فكان إذا رآه بال كما يبول الحمار .
وقوله : { فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ } يعني : إلقاءه العصا وجعلها حية تسعى ، وإدخاله يده في جيبه فتخرج بيضاء من غير سوء - دليلان قاطعان واضحان على قدرة الفاعل المختار ، وصحة نبوة مَنْ جرى هذا الخارق على يديه ؛ ولهذا قال : { إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ } أي : وقومه من الرؤساء والكبراء والأتباع ، { إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ } أي : خارجين عن طاعة الله ، مخالفين لدين الله ، [ والله أعلم ]{[22313]} .
{ اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب }
وقوله { واضمم إليك جناحك من الرهب } خفي فيه محصل المعنى المنتزع من تركيبه فكان مجال تردد المفسرين في تبيينه ، واعتكرت محامل كلماته فما استقام محمل إحداها إلا وناكده محمل أخرى . وهي ألفاظ : جناح ، ورهب ، وحرف { من } . فسلكوا طرائق لا توصل إلى مستقر . وقد استوعبت في كلام القرطبي والزمخشري . قال بعضهم : إن في الكلام تقديماً وتأخيراً وإن قوله { من الرهب } متعلق بقوله { ولى مدبراً } على أن { من } حرف للتعليل ، أي أدبر لسبب الخوف ، وهذا لا ينبغي الالتفات إليه إذ لا داعي لتقديم وتأخير ما زعموه على ما فيه من طول الفصل بين فعل { ولى } وبين { من الرهب } .
وقيل الجناح : اليد ، ولا يحسن أن يكون مجازاً عن اليد لأنه يفضي إما إلى تكرير مفاد قوله { اسلُك يدك في جيبك } وحرف العطف مانع من احتمال التأكيد . وادعاء أن يكون التكرير لاختلاف الغرض من الأول والثاني كما في « الكشاف » بعيد ، أو يؤول بأن وضع اليد على الصدر يذهب الخوف كما عُزي إلى الضحاك عن ابن عباس وإلى مجاهد وهو تأويل بعيد . وهذا ميل إلى أن الجناح مجاز مرسل مراد به يد الإنسان . وللجناح حقيقة ومجازات بين مرسل واستعارة وقد ورد في القرآن وغيره في تصاريف معانيه وليس وروده في بعض المواضع بمعنى بقاض بحمله على ذلك المعنى حيثما وقع في القرآن . ولذا فالوجه أن قوله { واضمم إليك جناحك } تمثيل بحال الطائر إذا سكن عن الطيران أو عن الدفاع جعل كناية عن سكون اضطراب الخوف . ويكون { من } هنا للبدلية ، أي اسكن سكون الطائر بدلاً من أن تطير خوفاً .
وهذا مأخوذ من أحد وجهين ذكرهما الزمخشري قيل : وأصله لأبي علي الفارسي . و { الرهب } معروف أنه الخوف كقوله تعالى { يدعوننا رغباً ورهباً } [ الأنبياء : 90 ] .
والمعنى : انكفف عن التخوف من أمر الرسالة . وفي الكلام إيجاز وهو ما دل عليه قوله بعده { قال رب إني قتلت منهم نفساً فأخاف أن يقتلون } [ القصص : 33 ] فقوله { واضمم إليك جناحك من الرهب } في معنى قوله تعالى { فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون } [ القصص : 35 ] .
وقرأ الجمهور { الرهب } بفتح الراء والهاء ، وقرأه حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وخلف بضم الراء وسكون الهاء . وقرأه حفص عن عاصم بفتح الراء وسكون الهاء وهي لغات فصيحة .
{ فَذَانِكَ برهانان مِن رَّبِّكَ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ قوما فاسقين } .
تفريع على قوله { واضمم إليك جناحك من الرهب } والإشارة إلى العصا وبياض اليد . والبرهان : الحجة القاطعة . و { من } للابتداء ، و { إلى } للانتهاء المجازي أي حجتان على أن أرسل بهما إليهم .
وجملة { إنهم كانوا قوماً فاسقين } تعليل لجملة { فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملائه } لتضمنها أنهم بحيث يقرعون بالبراهين فبين أن سبب ذلك تمكن الكفر من نفوسهم حتى كان كالجبلة فيهم وبه قوام قوميتهم لما يؤذن به قوله { كانوا } . وقوله { قوماً } كما تقدم في قوله تعالى { لآيات لقوم يعقلون } في سورة [ البقرة : 164 ] . والفسق : الإشراك بالله .
وقرأ الجمهور { فذانك } بتخفيف النون من ( ذانك ) على الأصل في التثنية . وقرأه ابن كثير وأبو عمرو ورويس عن يعقوب بتشديد نون { فذانك } وهي لغة تميم وقيس . وعلّلها النحويون بأن تضعيف النون تعويض على الألف من ( ذا ) و ( تا ) المحذوفة لأجل صيغة التثنية . وفي « الكشاف » : أن التشديد عوض عن لام البعد التي تلحق اسم الإشارة فلذلك قال « فالمخفف مثنى ذاك والمشدد مثنى ذلك » . وهذا أحسن .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.