ثم بين - سبحانه - بعد ذلك ، أن رسالة موسى - عليه السلام - كانت أيضا لإِخراج قومه من الظلمات إلى النور ، ولتذكيرهم بنعم خالقهم عليهم ، وبغناه عنهم ، فقال تعالى :
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَآ أَنْ أَخْرِجْ . . . . } .
قال الإِمام الرازى : " اعلم أنه - تعالى - لما بين أنه أرسل محمدا - صلى الله عليه وسلم - إلى الناس ليخرجهم من الظلمات إلى النور وذكر كمال إنعامه عليه وعلى قومه فى ذلك الإِرسال وفى تلك البعثة ، أتبع ذلك بشرح بعثه سائر الأنبياء إلى أقوامهم ، وكيفية معاملة أقوامهم معهم . تصبيرا له - صلى الله عليه وسلم - على أذى قومه ، وبدأ - سبحانه - بقصة موسى فقال : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَآ أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظلمات إِلَى النور . . . } .
وموسى - عليه السلام - هو ابن عمران ، ابن يصهر ، ابن ماهيث . . . وينتهى نسبه إلى لاوى بن يعقوب عليه السلام .
وكانت ولادة موسى - عليه السلام - فى حوالى القرن الرابع عشر قبل الميلاد .
والمراد بالآيات فى قوله : { بِآيَاتِنَآ } الآيات التسع التى أيده الله تعالى بها قال تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ . . . } وهى : العصا ، واليد ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، والجدب - أى فى بواديهم ، والنقص من الثمرات - أى فى مزارعهم .
قال - تعالى - { فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ . وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ } وقال - تعالى - : { وَلَقَدْ أَخَذْنَآ آلَ فِرْعَونَ بالسنين وَنَقْصٍ مِّن الثمرات } وقال - تعالى - : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيَاتٍ مّفَصَّلاَتٍ فاستكبروا وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ } ومنهم من يرى أنه يصح أن يراد بالآيات هنا آيات التوراة التى أعطاها الله - تعالى - لموسى - عليه السلام - .
قال الآلوسى ما ملخصه : " قوله : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَآ } أى : ملتبسا بها . وهى كما أخرج ابن جرير وغيره ، عن مجاهد وعطاء وعبيد بن عمير ، الآيات التسع التى أجراها الله على يده - عليه السلام - وقيل : يجوز أن يراد بها آيات التوراة " .
ويبدو لنا أنه لا مانع من حمل الآيات هنا على ما يشمل الآيات التسع ، وآيات التوراة ، فالكل كان لتأييد موسى - عليه السلام - فى دعوته .
و " أن " فى قوله { أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ } تفسير بمعنى أى : لأن فى الإِرسال معنى القول دون حروفه .
والمراد بقومه : من أرسل لهدايتهم وإخراجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإِيمان ، وهم : بنو إسرائيل وفرعون وأتباعه .
وقيل : المراد بقومه : بنو إسرائيل خاصة ، ولا نرى وجها لهذا التخصيص ، لأن رسالة موسى - عليه السلام - كانت لهم ولفرعون وقومه .
والمعنى : وكما أرسلناك يا محمد لتخرج الناس من الظلمات إلى النور ، أرسلنا من قبلك أخاك موسى إلى قومه لكى يخرجهم - أيضا - من ظلمات الكفر إلى نور الإِيمان . فالغاية التى من أجلها أرسلت - أيها الرسول الكريم - هى الغاية التى من أجلها أرسل كل نبى قبلك ، وهى دعوة الناس إلى إخلاص العبادة لله - تعالى - وخص - سبحانه - موسى بالذكر من بين سائر الرسل .
لأن أمته أكثر الأمم المتقدمة على هذه الأمة الإسلامية .
وأكد - سبحانه - الإخبار عن إرسال موسى بلام القسم وحرف التحقيق قد ، لتنزيل المنكرين لرسالة النبى - صلى الله عليه وسلم - منزلة من ينكر رسالة موسى - عليه السلام - وقوله - تعالى - : { وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله } معطوف على قوله { أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ } .
والتذكير : إزالة نسيان الشئ ، وعدى بالباء لتضمينه معنى الإِنذار والوعظ : أى ذكرهم تذكير عظة بأيام الله .
ومن المفسرين من يرى أن المراد بأيام الله : نعمه وآلاؤه .
قال ابن كثير : قوله : { وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله } أى : بأياديه ونعمه عليهم ، فى إخراجه إياهم من أسر فرعون وقهره وظمله وغشمه ، وإنجائه إياهم من عدوهم ، وفلقه لهم البحر ، وتظليله إياهم الغمام ، وإنزاله عليهم المن والسلوى .
ومنهم من يرى أن المراد بها ، نقمه وبأساؤه .
قال صاحب الكشاف : قوله : { وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله } أى : وأنذرهم بوقائعه التى وقعت على الأمم قبلهم ، كما وقع على قوم نوح وعاد وثمود ، ومنه أيام العرب لحروبها وملاحمها ، كيوم ذى قار ، ويوم الفجار ، وهو الظاهر "
ومنهم من يرى أن المراد بها ما يشمل أيام النعمة ، وأيام النقمة .
قال الإِمام الرازى ما ملخصه : " أما قوله { وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله } فاعلم أنه - تعالى - أمر موسى فى هذا المقام بشيئين ، أحدهما : أن يخرجهم من الظلمات إلى النور . والثانى : أن يذكرهم بأيام الله .
ويعبر عن الأيام بالوقائع العظيمة التى وقعت فيها . . { وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس } فالمعنى : عظهم بالترغيب والترهيب والوعد والوعيد ، فالترغيب والوعد ، أن يذكرهم بنعم الله عليهم وعلى من قبلهم ممن آمن بالرسل . . . والترهيب والوعيد . أن يذكرهم بأس الله وعذابه وانتقامه ، ممن كذب الرسل من الأمم السالفة . .
ثم قال : " واعلم أن أيام الله فى حق موسى - عليه السلام - منها ما كان أيام المحنة والبلاء ، وهى الأيام التى كانت بنو إسرائيل فيها تحت قهر فرعون ، ومنها ما كان أيام الراحة والنعماء مثل إنزال المن والسلوى عليهم " .
وما ذهب إليه الإِمامان الرازى والآلوسى ، هو الذى تسكن إليه النفس ، لأن الأيام كلها وإن كانت لله ، إلا أن المراد بها هنا أيام معينة ، وهى التى برزت فيها السراء أو الضراء بروزا ظاهرا ، كانت له آثاره على الناس الذين عاشوا فى تلك الأيام .
وبنو إسرائيل - على سبيل المثال - مرت عليهم فى تاريخهم الطويل ، أيام غمروا فيها بالنعم ، وأيام أصيبوا فيها بالنقم .
فالمعنى : ذكر يا موسى قومك بنعم الله لمن آمن وشكر ، وبنقمه على من جحد وكفر ، لعل هذا التذكير يجعلهم يتوبون إلى رشدهم ، ويتبعونك فيما تدعوهم إليه .
واسم الإِشارة فى قوله : { إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } يعود على التذكير بأيام الله .
والصبار : الكثير الصبر على البلاء . والصبر حبس النفس على ما يقتضيه الشرع فعلا أو تركا . يقال : صبره عن كذا يصبره إذا حبسه .
والشكور : الكثير الشكر لله - تعالى - على نعمه ، والشكر : عرفان الإِحسان ونشره والتحدث به ، وأصله من شكرت الناقة - كفرح - إذا امتلأ ضرعها باللبن ، ومنه أشكر الضرع إذا امتلأ باللبن .
أى : إن فى ذلك التذكير بنعم الله ونقمه ، لآيات واضحات ، ودلائل بينات على وحدانية الله - تعالى - وقدرته وعلمه ، وحكمته ، لكل إنسان كثير الصبر على البلاء ، وكثير الشكر على النعماء .
وتخصيص الآيات بالصبار والشكور لأنهما هما المنتفعان بها وبما تدل عليه من دلائل على وحدانية الله وقدرته ، لا لأنها خافية على غيرهما ، فإن الدلائل على ذلك واضحة لجميع الناس .
وجمع - سبحانه - بينهما ، للإِشارة إلى ان المؤمن الصادق لا يخلو حاله عن هذين الأمرين ففى الحديث الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " إن أمر المؤمن كله عجب ، لا يقضى الله له قضاء إلا كان خيرا له ، إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له . وإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له " .
وقدم - سبحانه - صفة الصبر على صفة الشكر ، لما أن الصبر مفتاح الفرج المقتضى للشكر ، أو لأن الصبر من قبيل الترك ، والتخلية مقدمة على التحلية .
يقول تعالى : وكما أرسلناك يا محمد وأنزلنا عليك الكتاب ، لتخرج الناس كلهم ، تدعوهم إلى الخروج من الظلمات إلى النور ، كذلك أرسلنا موسى في بني إسرائيل بآياتنا .
قال مجاهد : وهي التسع الآيات .
{ أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ } أي : أمرناه قائلين له : { أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } أي : ادعهم إلى الخير ، ليخرجوا من ظلمات ما كانوا فيه من الجهل والضلال إلى نور الهدى وبصيرة الإيمان .
{ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ } أي : بأياديه ونعَمه عليهم ، في إخراجه إياهم من أسر فرعون .
وقهره وظلمه وغشمه ، وإنجائه إياهم من عدوهم ، وفلقه لهم البحر ، وتظليله إياهم بالغمام ، وإنزاله عليهم المن والسلوى ، إلى غير ذلك من النعم . قال ذلك مجاهد ، وقتادة ، وغير واحد .
وقد ورد فيه الحديث المرفوع الذي رواه عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل في مسند أبيه حيث{[15743]} قال : حدثني يحيى بن عبد الله مولى بني هاشم ، حدثنا محمد بن أبان الجعفي ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن جبير [ عن ابن عباس ، عن أبي بن كعب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تبارك وتعالى : { وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ } قال : " بنعم الله تبارك وتعالى ] " {[15744]} [ ورواه ابن جرير ]{[15745]} وابن أبي حاتم ، من حديث محمد بن أبان ، به{[15746]} ورواه عبد الله ابنه{[15747]} أيضا موقوفا{[15748]} وهو أشبه .
وقوله : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } أي : إن فيما صنعنا بأوليائنا بني إسرائيل حين أنقذناهم من يد فرعون ، وأنجيناهم مما كانوا فيه من العذاب المهين ، لعبرة لكل صَبَّار ، أي : في الضراء ، شكور ، أي : في السراء ، كما قال قتادة : نعم العبد ، عبد إذا ابتُلِي صَبَر ، وإذا أعطي شكر .
وكذا جاء في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن أمر المؤمن كُلَّه عَجَب ، لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرًا له ، إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ، وإن أصابته سراء شَكر فكان خيرا له " {[15749]} .
وقوله : { ولقد أرسلنا موسى } الآية ، آيات الله هي العصا واليد وسائر التسع{[7004]} . وقوله : { أن أخرج } تقديره : بأن أخرج ، ويجوز أن تكون { أن } مفسرة لا موضع لها من الإعراب{[7005]} ، وأما { الظلمات } و { النور } فيحتمل أن يراد بها من الكفر إلى الإيمان . وهذا على ظاهر أمر بني إسرائيل في أنهم كانوا قبل بعث موسى أشياعاً متفرقين في الدين ، قوم مع القبط في عبادة فرعون ، وكلهم على غير شيء ، وهذا مذهب الطبري - وحكاه عن ابن عباس - وإن صح أنهم كانوا على دين إبراهيم وإسرائيل ونحو هذا ف { الظلمات } الذل والعبودية ،
و { النور } العزة والدين والظهور بأمر الله تعالى .
قال القاضي أبو محمد : وظاهر هذه الآية وأكثر الآيات في رسالة موسى عليه السلام أنها إنما كانت إلى بني إسرائيل خاصة ، في معنى الشرع لهم وأمرهم ونهيهم بفروع الديانة ، وإلى فرعون وأشراف قومه في أن ينظروا ويعتبروا في آيات موسى فيقروا بالله ويؤمنوا به تعالى وبموسى ومعجزته ويتحققوا نبوته ويرسلوا معه بني إسرائيل .
قال القاضي أبو محمد : ولا يترتب هذا إلا بإيمان به ، وأما أن تكون رسالته إليهم لمعنى اتباعه والدخول في شرعه فليس هذا بظاهر القصة ولا كشف الغيب ذلك ، ألا ترى أن موسى خرج عنهم ببني إسرائيل ؟ فلو لم يتبع لمضى بأمته ، وألا ترة أنه لم يدع القبط بجملتهم وإنما كان يحاور أولي الأمر ؟ وأيضاً فليس دعاؤه لهم على حد دعاء نوح وهود وصالح أممهم في معنى كفرهم ومعاصيهم ، بل في الاهتداء والتزكي وإرسال بني إسرائيل .
ومما يؤيد هذا أنه لو كانت دعوته لفرعون والقبط على حدود دعوته لبني إسرائيل فلم كان يطلب بأمر الله أن يرسل معه بني إسرائيل ؟ بل كان يطلب أن يؤمن الجميع ويتشرعوا بشرعه ويستقر الأمر . وأيضاً فلو كان مبعوثاً إلى القبط لرده الله إليهم حين غرق فرعون وجنوده ، ولكن لم يكونوا أمة له فلم يرد إليهم .
قال القاضي أبو محمد : واحتج من ذهب إلى أن موسى بعث إلى جميعهم بقوله تعالى في غير آية { إلى فرعون وملئه }{[7006]} [ الأعراف : 103 ] ، و { إلى فرعون وقومه }{[7007]} [ النمل : 12 ] والله أعلم .
وقوله : { وذكرهم } الآية . أمر الله عز وجل موسى أن يعظ قومه بالتهديد بنقم الله التي أحلها بالأمم الكافرة قبلهم وبالتعديد لنعمه عليهم في المواطن المتقدمة ، وعلى غيرهم من أهل طاعته ليكون جريهم على منهاج الذين أنعم عليهم وهربهم من طريق الذين حلت بهم النقمات ، وعبر عن النعم والنقم ب «الأيام » إذ هي في أيام{[7008]} ، وفي هذه العبارة تعظيم هذه الكوائن المذكور بها ، ومن هذا المعنى قولهم : يوم عصيب ، ويوم عبوس ، ويوم بسام ، وإنما الحقيقة وصف ما وقع فيه من شدة أو سرور ، وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت : { أيام الله } : نعمه : وعن فرقة أنها قالت : { أيام الله } : نقمه .
قال القاضي أبو محمد : ولفظة «الأيام » تعم المعنيين ، لأن التذكير يقع بالوجهين جميعاً .
وقوله : { لكل صبار شكور } إنما أراد لكل مؤمن ناظر لنفسه ، فأخذ من صفات المؤمن صفتين تجمع أكثر الخصال وتعم أجمل الأفعال{[7009]} .
لما كانت الآيات السابقة مسوقة للرد على من أنكروا أن القرآن منزل من الله أعقب الرد بالتمثيل بالنظير وهو إرسال موسى عليه السلام إلى قومه بمثل ما أرسل به محمد صلى الله عليه وسلم وبمثل الغاية التي أرسل لها محمد صلى الله عليه وسلم ليخرج قومه من الظلمات إلى النور .
وتأكيد الإخبار عن إرسال موسى عليه السلام بلام القسم وحرف التحقيق لتنزيل المنكرين رسالة محمد صلى الله عليه وسلم منزلة من ينكر رسالة موسى عليه السلام لأن حالهم في التكذيب برسالة محمد صلى الله عليه وسلم يقتضي ذلك التنزيل ، لأن ما جاز على المِثل يجوز على المماثل ، على أن منهم من قال : { ما أنزلَ الله على بشر من شيء .
والباء في { بآياتنا } للمصاحبة ، أي إرسالاً مصاحباً للآيات الدالة على صدقه في رسالته ، كما أرسل محمد صلى الله عليه وسلم مصاحباً لآية القرآن الدال على أنه من عند الله ، فقد تمّ التنظير وانتهض الدليل على المنكرين .
و { أنْ } تفسيرية ، فسر الإرسال بجملة « أخْرِج قومك » الخ ، والإرسال فيه معنى القول فكان حقيقاً بموقع { أن } التفسيرية .
و { الظلمات } مستعار للشرك والمعاصي ، و { النور } مستعار للإيمان الحق والتقوى ، وذلك أن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمد في مصر بعد وفاة يوسف عليه السلام سَرَى إليهم الشرك واتّبعوا دين القبط ، فكانت رسالة موسى عليه السلام لإصلاح اعتقادهم مع دعوة فرعون وقومه للإيمان بالله الواحد ، وكانت آيلة إلى إخراج بني إسرائيل من الشرك والفساد وإدخالهم في حظيرة الإيمان والصلاح .
والتذكير : إزالة نسيان شيء . ويستعمل في تعليم مجهول كانَ شأنُه أن يُعلم . ولما ضمن التذكير معنى الإنذار والوعظ عُدّي بالباء ، أي ذكرهم تذكير عظة بأيام الله .
و { أيام الله } أيام ظهور بطشه وغلبه من عصوا أمره ، وتأييده المؤمنين على عدوّهم ، فإن ذلك كله مظهر من مظاهر عزّة الله تعالى . وشاع إطلاق اسم اليوم مضافاً إلى اسم شخص أو قبيلة على يوم انتصر فيه مسمى المضاف إليه على عدوه ، يقال : أيام تميم ، أي أيام انتصارهم ، { فأيّام الله } أيام ظهور قدرته وإهلاكه الكافرين به ونصْره أولياءه والمطيعين له .
فالمراد بِ { أيام الله } هنا الأيام التي أنجى الله فيها بني إسرائيل من أعدائهم ونصرهم وسخر لهم أسباب الفوز والنصر وأغدق عليهم النعم في زمن موسى عليه السلام ، فإن ذلك كله مما أمر موسى عليه السلام بأن يذكرهمُوه ، وكله يصح أن يكون تفسيراً لمضمون الإرسال ، لأن إرسال موسى عليه السلام ممتدّ زمنه ، وكلما أوحى الله إليه بتذكيرٍ في مدة حياته فهو من مضمون الإرسال الذي جاء به فهو مشمول لتفسير الإرسال .
فقول موسى عليه السلام { يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم } [ سورة المائدة : 20 ، 21 ] هو من التذكير المفسّر به إرسال موسى عليه السلام . وهو وإن كان واقعاً بعد ابتداء رسالته بأربعين سنة فما هو إلا تذكير صادر في زمن رسالته ، وهو من التذكير بأيام نعم الله العظيمة التي أعطاهم ، وما كانوا يحصلونها لولا نصر الله إياهم ، وعنايتِه بهم ليعلموا أنه رُبّ ضعيففٍ غلب قوياً ونجا بضعفه ما لم ينجُ مثلَه القوي في قوته .
واسم الإشارة في قوله : { إن في ذلك لآيات } عائد إلى ما ذكر من الإخراج والتذكير ، فالإخراج من الظلمات بعد توغلهم فيها وانقضاء الأزمنة الطويلة عليها آية من آيات قدرة الله تعالى .
والتذكير بأيام الله يشتمل على آيات قدرة الله وعزته وتأييد مَن أطاعه ، وكل ذلك آيات كائنة في الإخراج والتذكير على اختلاف أحواله .
وقد أحاط بمعنى هذا الشمول حرف الظرفية من قوله : { في ذلك } لأن الظرفية تجمع أشياء مختلفة يحتويها الظرف ، ولذلك كان لحرف الظرفية هنا موقع بليغ .
ولكون الآيات مختلفة ، بعضها آيات موعظة وزجر وبعضها آيات منة وترغيب ، جُعلت متعلقة ب { كل صبار شكور } إذ الصبر مناسب للزجر لأن التخويف يبعث النفس على تحمل معاكسة هواها خيفة الوقوع في سوء العاقبة ، والإنعام يبعث النفس على الشكر ، فكان ذكر الصفتين توزيعاً لما أجمله ذكر أيام الله من أيام بؤس وأيام نعيم .