وبعد أن بين - سبحانه - فريضة الحج وما اشتملت عليه من أحكام وآداب ، وبين أصناف الناس في أدعيتهم التي تكشف عن خبايا قلوبهم ، ومعادن نفوسهم ، بعد أن بين ذلك أعقبه بالحديث عن صنفين من الناس فقال :
{ وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي . . . }
فأنت ترى أن هذه الآيات الكريمة قد بينت صنفين من الناس .
أما الصنف الأول فقد وصفه الله - تعالى - بخمس صفات ، الصفة الأولى حكاها في قوله : { وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحياة الدنيا } .
يعجبك : من الإِعجاب بمعنى الاستحسان ، تقول . أعجبني هذا الشيء ، أي : استحسنته وعظم في نفسي . و " من " للتبعيض .
والمعنى : ومن الناس فريق يروقك منطقهم ، ويعجبك بيانهم ، ويحسن عندك مقالهم . فأنت معجب بكلامهم الحلو الظاهر ، المر الباطن ، وأنت في هذه الدنيا لأنك تأخذ الناس بظواهرهم ، أما في الآخرة فلن يعجبك أمرهم لأنهم ستنكشف حقائقهم أمام الله الذي لا تخفى عليه خافية ، وسيعاقبهم عقاباً أليماً لإظهارهم القول الجميل وإخفائهم الفعل القبيح .
وعلى هذا التفسير يكون قوله : { فِي الحياة الدنيا } متعلقاً بيعجبك .
وبعضهم يجعل قوله { فِي الحياة الدنيا } متعلقاً بالقثول فيكون المعنى عليه ومن الناس فريق يعجبك قولهم إذا ما تكلموا في شئون الدنيا ومتعها لأنها منتهى آمالهم ، ومبلغ علمهم ، وأصل حبهم ، ومن أحب شيئاً أجاد التعبير عنه ، أما الآخرة فهم لا يحسنون القول فيها ، لأنهم لا يهتمون بها ، بل هم غافلون عنها ، ومن شأن الغافل عن شيء ألا يحسن القول فيه .
ويبدو لنا أن تعلق الجار والمجرور بيعجبك أرجح ، لأنه يتفق مع السياق إذ سياق الحديث في شأن الذين يقولون بأفواههم لما ليس في قلوبهم ، ويخدعون الناس بمعسول بيانهم ع أن نفوسهم مريضة ، وليس في شأن الذين يحسنون الحديث عن شئونها المختلفة ، بل إن بعض الذين يحسنون الحديث في شئون الدنيا لم يضيعوا أخراهم وإنما عمروها بالعمل الصالح ، فهم جامعون بين حسنتي الدنيا والآخرة .
والصفة الثانية من صفات هذا النوع المنافق من الناس بينه القرآن بقوله : { وَيُشْهِدُ الله على مَا فِي قَلْبِهِ } أي : يقرن معسول قوله ، وظاهر تودده ، بإشهاد الله على أن ما في قلبه مطابق لما يجرى على لسانه .
وكأن هذا النوع المنافق قد رأى من الناس تشككاً في قوله ، لأن من عادة المنافقين أن يبدوا من فلتات لسانهم ما يدل على ما هو مخبوء في نفوسهم فأخذ يوثق قوله بالإيمان الباطلة بأن يقول لمن ارتاب فيه : الله يشهد أني صاطق فيما أقول . . إلى غير ذلك من الأٌوال التي يقصد بها تأكيد قوله وصدقه فيما يدعيه ، فالمراد بإشهاد الله : الحلف به أن ما في قلبه موافق لقوله .
وجملة { وَيُشْهِدُ الله } حالية أو مستأنفة أو معطوفة على قوله { يُعْجِبُكَ } .
وقوله - تعالى - { وَهُوَ أَلَدُّ الخصام } صفة ثالثة من صفات هذا النوع من الناس .
قال القرطبي : الألد : الشديد الصخومة والعداوة . . ولددته - بفتح الدال - الده - بضمها - إذا جادلته فغلبته .
والألد مشتق من اللديدين وهما صفحتا العنق ، أي : في أي جانب أخذ من الخصومة غلب . والخصام في الآية مصدر خاصم . وقيل جمع خصم كصعب وصعاب . والمعنى ، أشد المخاصمين خصومة ، وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم " .
أي : إن هذا النوع من الناس يثير الإِعجاب بحسن بيانه ، ويضللهم بحلاوة لسانه ، ويحلف بالأيمان المغلظة أنه لا يقول إلا الصدق ، ويجادل عما يقوله بالباطل بقوة وعنف ومغالبة ، فهو بعيد عن طباع المؤمنين الذين إذا قالوا صدقوا ، وإذا جادلوا اتبعوا أحسن الطرق وأهداها .
وقال ابن جرير : حدثني يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني الليث بن سعد ، عن خالد بن يزيد ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن القرظي ، عن نَوْف - وهو البكالي ، وكان ممن يقرأ الكتب - قال : إني لأجد صفة ناس من هذه الأمة في كتاب الله المنزل : قَوم يحتالون على الدنيا بالدين ، ألسنتهم أحلى من العسل ، وقلوبهم أمَرّ من الصّبرِ ، يلبسون للناس{[3705]} مُسوك الضأن ، وقلوبهم قلوب الذئاب . يقول الله تعالى : فعليّ يجترئون ! وبي يغتَرون ! حلفت بنفسي لأبعثن عليهم فتنة تترك الحليم فيها{[3706]} حيران . قال القرظي : تدبرتها في القرآن ، فإذا هم المنافقون ، فوجدتها : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ } الآية .
وحدثني محمد بن أبي معشر ، أخبرني أبي أبو معشر نَجِيح قال : سمعت سعيدًا المقبري يذاكر محمد بن كعب القرظي ، فقال سعيد : إن في بعض الكتب : إنّ [ لله ]{[3707]} عبادًا ألسنتهم أحلى من
العسل ، وقلوبهم أمَرّ من الصّبر ، لبسوا للناس مُسُوك الضأن من اللين ، يَجْترّون الدنيا بالدين . قال الله تعالى : عليّ{[3708]} تجترئون ! وبي تغترون ! . وعزتي لأبعثنّ عليهم فتنة تترك الحليم منهم حيران . فقال محمد بن كعب : هذا في كتاب الله . فقال سعيد : وأين هو من كتاب الله ؟ قال : قول الله : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } الآية . فقال سعيد : قد عرفتُ فيمن أنزلت هذه الآية . فقال محمد بن كعب : إن الآية تنزل في الرجل ، ثم تكون عامة بعد . وهذا الذي قاله القرظي حسن صحيح .
وأما قوله : { وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ } فقرأه ابن محيصن : " ويَشْهَدُ اللهُ " بفتح الياء ، وضم الجلالة { عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ } ومعناها : أن هذا وإن أظهر لكم الحيل{[3709]} لكن الله يعلم من قلبه القبيح ، كقوله تعالى : { إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } [ المنافقون : 1 ] .
وقراءة الجمهور بضم الياء ، ونصب الجلالة { وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ } ومعناه : أنه يُظْهرُ للناس الإسلام ويبارزُ الله بما في قلبه من الكفر والنفاق ، كقوله تعالى : { يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ } الآية [ النساء : 108 ] هذا معنى ما رواه ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن{[3710]} عكرمة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس .
وقيل : معناه أنه إذا أظهر للناس الإسلام حَلَف وأشهد الله لهم : أن الذي في قلبه موافق للسانه . وهذا المعنى صحيح ، وقاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، واختاره ابن جرير ، وعزاه إلى ابن عباس ، وحكاه عن مجاهد ، والله أعلم .
وقوله : { وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ } الألد في اللغة : [ هو ]{[3711]} الأعوج ، { وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا } [ مريم : 97 ] أي : عُوجًا . وهكذا المنافق في حال خصومته ، يكذب ، ويَزْوَرّ عن الحق ولا يستقيم معه ، بل يفتري ويفجر ، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر " .
وقال البخاري : حدثنا قَبيصةُ ، حدثنا سفيان ، عن ابن جُرَيج ، عن ابن أبي مُلَيْكة ، عن عائشة تَرْفَعُه قال : " أبغض الرجال إلى الله الألَدُّ الخَصم " {[3712]} .
قال : وقال عبد الله بن يزيد : حدثنا سفيان ، حدثني ابن جريج ، عن ابن أبي مُلَيكة ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم " {[3713]} .
وهكذا رواه عبد الرزاق ، عن مَعْمَر في قوله : { وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ } عن ابن جريج ، عن ابن أبي مليكة ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم " {[3714]} .
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ( 204 )
قال السدي : «نزلت في الأخنس بن شريق ، واسمه أبيّ ، والأخنس لقب ، وذلك أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأظهر الإسلام ، وقال : الله يعلم أني صادق ، ثم هرب بعد ذلك ، فمر بقوم من المسلمين ، فأحرق لهم زرعاً ، وقتل حمراً ، فنزلت فيه هذه الآيات » .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : ما ثبت قط أن الأخنس أسلم( {[1915]} ) .
وقال ابن عباس : نزلت في قوم من المنافقين تكلموا في الذين قتلوا في غزوة الرجيع عاصم بن ثابت وخبيب وابن الدثنة وغيرهم قالوا : ويح هؤلاء القوم لا هم قعدوا في بيوتهم ولا أدوا رسالة صاحبهم ، فنزلت هذه الآيات في صفات المنافقين : ثم ذكر المستشهدين في غزوة الرجيع في قوله : { ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله } الآية ، وقال قتادة ومجاهد وجماعة من العلماء : نزلت هذه الآيات في كل مبطن كفر أو نفاق أو كذب أو إضرار وهو يظهر بلسانه خلاف ذلك ، فهي عامة( {[1916]} ) ، وهي تشبه ما ورد في الترمذي أن في بعض كتب الله تعالى : «أن من عباد الله قوماً ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم أمر من الصبر ، يلبسون للناس جلود الضأن من اللين ، يجترون الدنيا بالدين ، يقول الله تعالى : أبي يغترون وعلي يجترون ؟ حلفت لأسلطن عليهم فتنة تدع الحليم منهم حيران »( {[1917]} ) . ومعنى { ويشهد الله } أي يقول : الله يعلم أني أقول حقاً ، وقرأ أبو حيوة وابن محيصن «ويشهدُ الله » بإسناد الفعل إلى اسم الجلالة( {[1918]} ) ، المعنى يعجبك قوله والله يعلم منه خلاف ما قال ، والقراءة التي للجماعة أبلغ في ذمه ، لأنه قوى على نفسه التزام الكلام الحسن ثم ظهر من باطنه خلافه ، و { ما في قلبه } مختلف بحسب القراءتين ، فعلى قراءة الجمهور هو الخير الذي يظهر ، أي هو في قلبه بزعمه ، وعلى قراءة ابن محيصن هو الشر الباطن ، وقرأ ابن عباس «والله يشهد على ما في قلبه » وقرأ أبي وابن مسعود «ويستشهد الله على ما في قبله » والألد : الشديد الخصومة الصعب الشكيمة الذي يلوي الحجج في كل جانب ، فيشبه انحرافه المشي في لديدي الوادي( {[1919]} ) ، ومنه لديد الفم ، واللدود ، ويقال منه : لدِدت بكسر العين ألد ، وهو ذم ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم »( {[1920]} ) ، ويقال : لَددته بفتح العين ألُده بضمها إذا غلبته في الخصام ، ومن اللفظة قول الشاعر : [ الخفيف ]
إنَّ تَحْتَ الأَحْجَارِ حَزْماً وَعَزْماً . . . وَخَصيماً أَلَدَّ ذا مِعْلاَقِ( {[1921]} )
و { الخصام } في الآية مصدر خاصم ، وقيل جمع خصم ككلب وكلاب ، فكان الكلام وهو أشد الخصماء والدهم .
عطف على جملة { فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا } [ البقرة : 200 ] الخ ، لأنه ذكر هنالك حال المشركين الصرحاء الذين لاحظ لهم في الآخرة ، وقابل ذكرهم بذكر المؤمنين الذين لهم رغبة في الحسنة في الدنيا والآخرة ، فانتقل هنا إلى حال فريق آخرين ممن لاحظ لهم في الآخرة وهم متظاهرون بأنهم راغبون فيها ، مع مقابلة حالهم بحال المؤمنين الخالصين الذين يؤثرون الآخرة والحياة الأبدية على الحياة في الدنيا ، وهم المذكورون في قوله : { ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله } [ البقرة : 207 ] .
و ( من ) بمعنى بعض كما في قوله تعالى : { ومن الناس من يقول آمنا بالله } [ البقرة : 8 ] فهي صالحة للصدق على فريق أو على شخص معين ( ومن ) الموصولة كذلك صالحة لفريق وشخص .
والإعجاب إيجاد العجب في النفس والعجب : انفعال يعرض للنفس عند مشاهدة أمر غير مألوف خفي سببه . ولما كان شأن ما يخفى سببه أن ترغب فيه النفس ، صار العجب مستلزماً للاستحسان فيقال أعجبني الشيء بمعنى أوجب لى استحسانه ، قال الكواشي يقال في الاستحسان : أعجبني كذا ، وفي الإنكار : عجبت من كذا ، فقوله : { يعجبك } أي يحسن عندك قوله .
والمراد من القول هنا ما فيه من دلالته على حاله في الإيمان والنصح للمسلمين ، لأن ذلك هو الذي يهم الرسول ويعجبه ، وليس المراد صفة قوله في فصاحة وبلاغة ؛ إذ لا غرض في ذلك هنا لأن المقصود ما يضاد قوله : وهو ألد الخصام إلى آخره .
والخطاب إما للنبيء صلى الله عليه وسلم أي ومن الناس من يظهر لك ما يعجبك من القول وهو الإيمان وحب الخير والإعراض عن الكفار ، فيكون المراد بِ« مَن » المنافقين ومعظمهم من اليهود ، وفيهم من المشركين أهل يثرب وهذا هو الأظهر عندي ، أو طائفة معينة من المنافقين ، وقيل : أريد به الأخنس بن شريق الثقفي واسمه أبي وكان مولى لبني زهرة من قريش وهم أخوال النبي صلى الله عليه وسلم وكان يظهر المودة للنبيء صلى الله عليه وسلم ولم ينضم إلى المشركين في واقعة بدر بل خنس أي تأخر عن الخروج معهم إلى بدر وكان له ثلاثمائة من بني زهرة أحلافه فصدهم عن الانضمام إلى المشركين فقيل : إنه كان يظهر الإسلام وهو منافق ، وقال ابن عطية : لم يثبت أنه أسلم قط ، ولكن كان يظهر الود للرسول فلما انقضت وقعة بدر قيل : إنه حرق زرعاً للمسلمين وقتل حميراً لهم فنزلت فيه هاته الآية ونزلت فيه أيضاً { ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم } [ القلم : 10 ، 11 ] ونزلت فيه { ويل لكل همزة لمزة } [ الهمزة : 1 ] ، وقيل بل كانت بينه وبين قومه ثقيف عداوة فبيتهم ليلاً فأحرق زرعهم وقتل مواشيهم فنزلت فيه الآية وعلى هذا فتقريعه لأنه غدرهم وأفسد .
ويجوز أن الخطاب لغير معين ليعم كل مخاطب تحذيراً للمسلمين من أن تروج عليهم حيل المنافقين وتنبيه لهم إلى استطلاع أحوال الناس وذلك لا بد منه والظرف من قوله { في الحياة الدنيا } يجوز أن يتعلق بيعجبك فيراد بهذا الفريق من الناس المنافقون الذين يظهرون كلمة الإسلام والرغبة فيه على حد قوله تعالى : { وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا } [ البقرة : 14 ] أي إعجابك بقولهم لا يتجاوز الحصول في الحياة الدنيا فإنك في الآخرة تجدهم بحالة لا تعجبك فهو تمهيد لقوله في آخر الآية { فحسبه جهنم } والظرفية المستفادة من ( في ) ظرفيةٌ حقيقية .
ويجوز أن يتعلق بكلمة { قوله } أي كلامه عن شؤون الدنيا من محامد الوفاء في الحلف مع المسلمين والود للنبيء ولا يقول شيئاً في أمور الدين ، فهذا تنبيه على أنه لا يتظاهر بالإسلام فيراد بهذا الأخنس بن شريق .
وحرف ( في ) على هذا الوجه للظرفية المجازية بمعنى عن والتقدير قوله : عن الحياة الدنيا .
ومعنى { يشهد الله على ما في قلبه } أنه يقرن حسن قوله وظاهر تودده بإشهاد الله تعالى على أن ما في قلبه مطابق لما في لفظه ، ومعنى إشهاد الله حلفه بأن الله يعلم إنه لصادق .
وإنما أفاد ما في قلبه معنى المطابقة لقوله لأنه لما أشهد الله حين قال كلاماً حلواً تعين أن يكون مدعياً أن قلبه كلسانه قال تعالى : { يحلفون بالله لكم ليرضوكم } [ التوبة : 62 ] .
ومعنى { وهو ألد الخصام } أنه شديد الخصومة أي العداوة مشتق من لده يلده بفتح اللام لأنه من فعل ، تقول : لددت يا زيد بكسر الدال إذا خاصم ، فهو لاد ولدود فاللدد شدة الخصومة والألد الشديد الخصومة قال الحماسي ربيعة بن مقروم :
وأَلَدَّ ذِي حَنَقٍ عليَّ كَأَنَّما *** تَغْلِي حَرَارَةُ صَدْرِه في مِرْجَلِ
فألد صفة مشبهة وليس اسم تفضيل ، ألا ترى أن مؤنثه جاء على فعلاء فقالوا : لداء وجمعه جاء على فُعْل قال تعالى : { وتنذر به قوماً لداً } [ مريم : 97 ] وحينئذٍ ففي إضافته للخصام إشكال ؛ لأنه يصير معناه شديد الخصام من جهة الخصام فقال في « الكشاف » : إما أن تكون الإضافة على المبالغة فجعل الخصام أَلَد أي نُزِّل خصامه منزلة شخص له خصام فصارا شيئين فصحت الإضافة على طريقة المجاز العقلي ، كأنه قيل : خصامه شديد الخصام كما قالوا : جُنَّ جُنُونُه وقالوا : جَدَّ جَدُّه ، أو الإضافة على معنى في أي وهو شديد الخصام في الخصام أي في حال الخصام ، وقال بعضهم يقدر مبتدأ محذوف بعد { وهو } تقديره : وهو خصامه ألد الخصام وهذا التقدير لا يصح لأن الخصام لا يوصف بالألد فتعيَّن أن يُؤَوَّل بأنه جعل بمنزلة الخصم وحينئذٍ فالتأويل مع عدم التقدير أولى ، وقيل الخصام هنا جمع خَصم كصَعْب وصِعاب وليس هو مصدراً وحينئذٍ تظهر الإضافة أي وهو ألد الناس المخاصمين .