التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱتَّبَعَتۡهُمۡ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَٰنٍ أَلۡحَقۡنَا بِهِمۡ ذُرِّيَّتَهُمۡ وَمَآ أَلَتۡنَٰهُم مِّنۡ عَمَلِهِم مِّن شَيۡءٖۚ كُلُّ ٱمۡرِيِٕۭ بِمَا كَسَبَ رَهِينٞ} (21)

ثم بين - سبحانه - أنواعا أخرى من تكريمه - تعالى - لهم ، فقال : { والذين آمَنُواْ واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ } .

والأية الكريمة بيان لحال طائفة من أهل الجنة - وهم الذين شاركتهم ذريتهم الأقل عملا منهم فى الإيمان - إثر بيان حال المتقين بصفة عامة .

والاسم الموصول مبتدأ ، وخبره جملة { أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } . والمراد بالذرية هنا : ما يشمل الآباء والأبناء وقوله : { واتبعتهم } معطوف على { آمَنُواْ } . وقوله { بِإِيمَانٍ } متعلق بالاتباع ، والباء للسببية أو بمعنى فى .

ومعنى : { أَلَتْنَاهُمْ } أنقصناهم . يقال : فلان أَلَتَ فلانا حقه يألِتُه - من باب ضرب - إذا بخسه حقه .

والمعنى : والذين آمنوا بنا حق الإيمان واتبعتهم ذريتهم فى هذا الإيمان ، ألحقنا بهم ذريتهم ، بأن جمعناهم معهم فى الجنة ، وما نقصنا هؤلاء المتبوعين شيئا من ثواب أعمالهم ، بسبب إلحاق ذريتهم بهم فى الدرجة ، بل جمعنا بينهم فى الجنة . وساوينا بينهم فى العطاء - حتى ولو كان بعضهم أقل من بعض فى الأعمال - فضلا منا وكرما .

قال الإمام ابن كثير : يخبر - تعالى - عن فضله وكرمه ، وامتنانه ولطفه بخلقه وإحسانه : أن المؤمنين إذا اتبعتهم ذرياتهم فى الإيمان ، يلحقهم بآبائهم فى المنزلة وإن لم يبلغوا عملهم ، لتقر أعين الآباء بالأبناء عندهم فى منازلهم ، فيجمع بينهم على أحسن الوجوه ، بأ ، يرفع الناقص العمل بكامل العمل ، ولا ينقص ذاك من عمله ومنزلته .

للتساوى بينه وبين ذاك . ولهذا قال : { أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ } .

عن ابن عباس قال : إن الله ليرفع ذرية المؤمن فى درجته ، وإن كانوا دونه فى العمل ، لتقر بهم عينه ، ثم قرأ هذه الآية .

وفى رواية أخرى عنه قال - عندما سئل عن هذه الآية - : هم ذرية المؤمنين يموتون على الإيمان ، فإن كانت منازل آبائهم أرفع من منازلهم ألحقوا بآبائهم ، ولم ينقصوا من أعمالهم التى عملوها شيئا .

وقال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما معنى تنكير الإيمان ؟ قلت : معناه الدلالة على أنه إيمان خاص عظيم المنزلة ، ويجوز أن يراد : إيمان الذرية الدانى المحل ، كأنه قال : بشىء من الإيمان ، لا يؤهلهم لدرجة الآباء الحقناهم بهم .

قال الجمل : والذرية هنا تصدق على الآباء والأبناء ، فإن المؤمن إذا كان عمله الصالح أكثر ألحق به من هو دونه فى العمل أبا كان أو ابنا ، وهذا منقول عن ابن عباس وغيره .

وعن ابن عباس - أيضا - يرفعه إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا دخل أهلُ الجنةِ الجنةَ ، سأل أحدهم عن أبويه وعن زوجته وولده ، فيقال : إنهم لم يدركوا ما أدركت ، فيقول : يارب إنى عملت لى ولهم ، فيؤمر بإلحاقهم به " .

وقوله : { كُلُّ امرىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ } أى : كل إنسان مرهون بعمله عند الله - تعالى - فإن كان عمله صالحا سعد وفاز ، وأطلق نفسه من كل ما يسوؤها ويحزنها ، وإن كان غير ذلك جوزى على حسب عمله وسعيه .

والتعبير بقوله { رَهَينٌ } للإشعار بأن كل إنسان مرتهن بعمله ، حتى لكأن العمل بمنزلة الدَّيْن ، وأن الإنسان لا يستطيع الفكاك منه إلا بعد أدائه .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱتَّبَعَتۡهُمۡ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَٰنٍ أَلۡحَقۡنَا بِهِمۡ ذُرِّيَّتَهُمۡ وَمَآ أَلَتۡنَٰهُم مِّنۡ عَمَلِهِم مِّن شَيۡءٖۚ كُلُّ ٱمۡرِيِٕۭ بِمَا كَسَبَ رَهِينٞ} (21)

يخبر تعالى عن فضله وكرمه ، وامتنانه ولطفه بخلقه وإحسانه : أن المؤمنين إذا اتبعتهم ذرياتهم في الإيمان يُلحقهم بآبائهم في المنزلة وإن لم يبلغوا عملهم ، لتقر أعين الآباء بالأبناء عندهم في منازلهم ، فيجمع بينهم على أحسن الوجوه ، بأن يرفع الناقص العمل ، بكامل العمل ، ولا ينقص ذلك من عمله ومنزلته ، للتساوي بينه وبين ذاك ؛ ولهذا قال : { أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ }

قال الثوري ، عن عمرو بن مُرَّة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : إن الله ليرفع ذرية المؤمن في درجته ، وإن كانوا دونه في العمل ، لتقر بهم عينه ثم قرأ : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ }

رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث سفيان الثوري ، به . وكذا رواه ابن جرير من حديث شعبة عن عمرو بن مُرَّة به {[27499]} . ورواه البزار ، عن سهل بن بحر{[27500]} ، عن الحسن بن حماد الوراق ، عن قيس بن الربيع ، عن عمرو بن مُرّة ، عن سعيد ، عن ابن عباس مرفوعا ، فذكره ، ثم قال : وقد رواه الثوري ، عن عمرو بن مرة ، عن سعيد عن ابن عباس موقوفا {[27501]} .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا العباس بن الوليد بن مزيد {[27502]} البيروتي ، أخبرني محمد بن شعيب {[27503]} أخبرني شيبان ، أخبرني ليث ، عن حبيب بن أبي ثابت الأسدي ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قول الله ، عز وجل : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } قال : هم ذرية المؤمن ، يموتون على الإيمان : فإن كانت منازل آبائهم ، أرفع من منازلهم ألحقوا بآبائهم ، ولم ينقصوا من أعمالهم التي عملوا شيئا .

وقال الحافظ الطبراني : حدثنا الحسين بن إسحاق التُّسْتَرِي ، حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن غَزْوان ، حدثنا شريك ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس - أظنه عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده ، فيقال : إنهم لم يبلغوا درجتك . فيقول : يا رب ، قد عملت لي ولهم . فيؤمر بإلحاقهم به ، وقرأ ابن عباس { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ } الآية {[27504]} .

وقال العَوْفي ، عن ابن عباس في هذه الآية : يقول : والذين أدرك ذريتهم الإيمان فعملوا بطاعتي ، ألحقتهم بإيمانهم إلى الجنة ، وأولادهم الصغار تلحق بهم .

وهذا راجع إلى التفسير الأول ، فإن ذاك مفسر أصرح من هذا . وهكذا يقول الشعبي ، وسعيد بن جبير ، وإبراهيم ، وقتادة ، وأبو صالح ، والربيع بن أنس ، والضحاك ، وابن زيد . وهو اختيار ابن جرير . وقد قال عبد الله بن الإمام أحمد :

حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا حمد بن فُضَيْل ، عن محمد بن عثمان ، عن زاذان ، عن علي قال : سألتْ خديجة النبي صلى الله عليه وسلم ، عن ولدين ماتا لها في الجاهلية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هما في النار " . فلما رأى الكراهة في وجهها قال : " لو رأيت مكانهما لأبغضتهما " . قالت : يا رسول الله ، فولدي منك . قال : " في الجنة " . قال : ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن المؤمنين وأولادهم في الجنة ، وإن المشركين وأولادهم في النار " . ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } [ الآية ] {[27505]} {[27506]} .

هذا فضله تعالى على الأبناء ببركة عمل الآباء ، وأما فضله على الآباء ببركة دعاء الأبناء ، فقد قال الإمام أحمد :

حدثنا يزيد ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن عاصم بن أبي النَّجُود ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة فيقول : يا رب ، أنى لي هذه ؟ فيقول : باستغفار ولدك لك " {[27507]} .

إسناده {[27508]} صحيح ، ولم يخرجوه من هذا الوجه ، ولكن له شاهد في صحيح مسلم ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له " {[27509]}

وقوله : { كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } لما أخبر عن مقام الفضل ، وهو رفع درجة الذرية إلى منزلة الآباء من غير عمل يقتضي ذلك ، أخبر عن مقام العدل ، وهو أنه لا يؤاخذ أحدا بذنب أحد ، بل { كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } أي : مرتهن بعمله ، لا يحمل عليه ذنب غيره من الناس ، سواء كان أبا أو ابنا ، كما قال : { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ } [ المدثر : 38 - 41 ] .


[27499]:- (1) تفسير الطبري (27/15).
[27500]:- (2) في أ: "يحيى".
[27501]:- (1) مسند البزار برقم (2260) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع (7/114): "فيه قيس بن الربيع وثقه شعبة والثوري، وفيه ضعف".
[27502]:- (2) في م، أ: "يزيد".
[27503]:- (3) في م: "شعبة".
[27504]:- (4) رواه الطبراني في المجمع الكبير (11/440) حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن غزوان به. ورواه في المعجم الصغير برقم (640) حدثنا عبد الله بن يزيد الدقيقي حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن غزوان به. ولم أجد رواية الحسين بن إبراهيم التستري.
[27505]:- (5) زيادة من م.
[27506]:- (6) زوائد عبد الله على المسند (1/134) وقال الهيثمي في المجمع (7/217): "فيه محمد بن عثمان ولم أعرفه وبقية رجاله رجال الصحيح".
[27507]:- (1) المسند (2/509).
[27508]:- (2) في م: "إسناد".
[27509]:- (3) صحيح مسلم برقم (1631).
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱتَّبَعَتۡهُمۡ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَٰنٍ أَلۡحَقۡنَا بِهِمۡ ذُرِّيَّتَهُمۡ وَمَآ أَلَتۡنَٰهُم مِّنۡ عَمَلِهِم مِّن شَيۡءٖۚ كُلُّ ٱمۡرِيِٕۭ بِمَا كَسَبَ رَهِينٞ} (21)

وقرأ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي وابن مسعود وابن عباس ومجاهد وطلحة والحسن وقتادة وأهل مكة : «واتبعتهم ذريتهم » «بهم ذريتهم » . وقرأ نافع وأبو جعفر وابن مسعود بخلاف عنه وشيبة والجحدري وعيسى ، «وأتبعناهم ذريتهم » «بهم ذرياتهم » . وروى خارجة عنه مثل قراءة حمزة . وقرأ ابن عامر وابن عباس وعكرمة وابن جبير والضحاك : «واتبعتهم ذريتهم » «بهم ذريتهم » . وقرأ أبو عمرو والأعرج وأبو رجاء والشعبي وابن جبير والضحاك : «وأتبعناهم ذريتهم » «بهم ذريتهم » . فكون الذرية جمعاً في نفسه حسن الإفراد في هذه القراءات ، وكون المعنى يقتضي انتشار أن كثرة حسن جمع الذرية في قراءة «ذرياتهم » .

واختلف الناس في معنى الآية ، قال ابن عباس وابن جبير والجمهور : أخبر الله تعالى أن المؤمنين تتبعهم ذريتهم في الإيمان . فيكونون مؤمنين كآبائهم . وإن لم يكونوا في التقوى والأعمال كالآباء ، فإنه يلحق الأبناء بمراتب أولئك الآباء كرامة للآباء .

وقد ورد في هذا المعنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم{[10643]} فجعلوا الحديث تفسير الآية وكذلك وردت أحاديث تقتضي «أن الله تعالى يرحم الآباء رعياً للأبناء الصالحين »{[10644]} . وذهب بعض الناس إلى إخراج هذا المعنى من هذه الآية ، وذلك لا يترتب إلا بأن يجعل اسم الذرية بمثابة نوعهم على نحو قوله تعالى { أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون }{[10645]} [ يس : 41 ] وفي هذا نظر . وقال ابن عباس أيضاً والضحاك معنى هذه الآية : أن الله تعالى يلحق الأبناء الصغار بأحكام الآباء المؤمنين . يعني في الوراثة والدفن في قبور الإسلام وفي أحكام الآخرة في الجنة . وحكى أبو حاتم عن الحسن أنه قال : الآية في الكبار من الذرية وليس فيها من الصغار شيء . وقال منذر بن سعيد هي في الصغار لا في الكبار . وحكى الطبري قولاً معناه أن الضمير في قوله : { بهم } عائد على ذرية ، والضمير الذي بعده في : { ذريتهم } عائد على { الذين } أي اتبعتهم الكبار وألحقنا نحن الكبار الصغار . وهذا قول مستكره .

وقوله : { بإيمان } هو في موضع الحال . فمن رأى أن الآية في الأبناء الصغار . فالحال من الضمير في قوله : { اتبعتهم } فهو من المفعولين ، ومن رأى أن الآية في الأبناء الكبار فيحتمل أن تكون الحال من المفعولين ، ويحتمل أن تكون من المتبعين الفاعلين ، وأرجح الأقوال في هذه الآية القول الأول . لأن الآيات كلها في صفة إحسان الله تعالى إلى أهل الجنة فذكر من جملة إحسانه أنه يرعى المحسن في المسيء . ولفظة { ألحقنا } تقتضي أن للملحق بعض التقصير في الأعمال .

وقرأ جمهور القراء : «أَلتناهم » بفتح الألف من ألَت .

وقرأ ابن كثير وأبو يحيى وشبل : «ألِتناهم » من ألِت بكسر اللام . وقرأ الأعرج : «ألتناهم » على وزن أفعلناهم . وقرأ أبيّ بن كعب وابن مسعود : «لتناهم » من لات ، وهي قراءة ابن مصرف . ورواها القواس عن ابن كثير ، وتحتمل قراءة من قرأ : «أَلَتناهم » بالفتح أن تكون من ألات ، فإنه قال : ألات يليت إلاتة . ولات يليت ليتاً . وآلت يولت إيلاتاً ، وألت يألت . وولت يلت ولتاً . وكلها بمعنى نقص ومعنى هذه الآية : أن الله يلحق المقصر بالمحسن ، ولا ينقص المحسن من أجره شيئاً وهذا تأويل ابن عباس وابن جبير والجمهور ، ويحتمل قوله تعالى : { وما ألتناهم من عملهم من شيء } بأن يريد من عملهم المحسن والقبيح ، ويكون الضمير في { عملهم } عائد على الأبناء ، وهذا تأويل ابن زيد ، ويحسن هذا الاحتمال قوله تعالى : { كل امرئ بما كسب رهين } ، والرهين المرتهن ، وفي هذه الألفاظ وعيد .

وحكى أبو حاتم عن الأعمش أنه قرأ : «وما لَتناهم » بغير ألف وفتح اللام . قال أبو حاتم : لا تجوز هذه القراءة على وجه من الوجوه . وأمددت الشي : إذا سربت إليه شيئاً آخر يكثره أو يكثر لديه .


[10643]:وهو حديث أخرجه سعيد بن منصور، وهناد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم، والبيهقي في سننه، عن ابن عباس رضي الله عنهما انه قال:(إن الله ليرفع ذرية المؤمن معه في الجنة وإن كانوا دونه في العمل لِتقر بهم عينه)، ثم قرأ:{والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان}الآية، وأخرج البزار، وابن مردويه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، كذلك رواه مرفوعا النحاس في "الناسخ والمنسوخ" له عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهم، قال أبو جعفر:"فصار الحديث مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا يجب أن يكون؛ لأن ابن عباس لا يقول هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه إخبار عن الله عز وجل بما يفعله، وبمعنى انه أنزلها جل ثناؤه".
[10644]:منها ما أخرجه الطبراني، وابن مردويه، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وذريته وولده، فيقال: إنهم لم يبلغوا درجتك وعملك، فيقول: يا رب قد عملت لي ولهم، فيؤمر بإلحاقهم به)، وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما:{والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم}الآية.
[10645]:من الآية(41) من سورة (يسن).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱتَّبَعَتۡهُمۡ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَٰنٍ أَلۡحَقۡنَا بِهِمۡ ذُرِّيَّتَهُمۡ وَمَآ أَلَتۡنَٰهُم مِّنۡ عَمَلِهِم مِّن شَيۡءٖۚ كُلُّ ٱمۡرِيِٕۭ بِمَا كَسَبَ رَهِينٞ} (21)

{ والذين ءَامَنُواْ واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بإيمان أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذرياتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء } .

اعتراض بين ذِكر كرامات المؤمنين ، والواو اعتراضية .

والتعبير بالموصول إظهار في مقام الإِضمار لتكون الصلة إيماء إلى أن وجه بناء الخبر الوارد بعدها ، أي أن سبب إلحاق ذرياتهم بهم في نعيم الجنة هو إيمانهم وكونُ الذريات آمنوا بسبب إيمان آبائهم لأن الآباء المؤمنين يلقِّنون أبناءهم الإِيمان .

والمعنى : والمؤمنون الذين لهم ذرياتٌ مؤمنون ألحقنا بهم ذرياتهم .

وقد قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً } [ التحريم : 6 ] ، وهل يستطيع أحد أن يقي النار غيره إلا بالإِرشاد . ولعل ما في الآية من إلحاق ذرياتهم من شفاعة المؤمن الصالح لأهله وذريته .

والتنكير في قوله : { بإيمان } يحتمل أن يكون للتعظيم ، أي بإيمان عظيم ، وعظمتُه بكثرة الأعمال الصالحة ، فيكون ذلك شرطاً في إلحاقهم بآبائهم وتكون النعمة في جعلهم في مكان واحد .

ويحتمل أن يكون للنوعية ، أي بما يصدق عليه حقيقة الإِيمان .

وقرأ الجمهور { واتبعتهم } بهمزة وصل وبتشديد التاء الأولى وبتاء بعد العين هي تاء تأنيث ضمير الفعل . وقرأه أبو عمرو وحده { وأتبعناهم } بهمزة قطع وسكون التاء .

وقوله : { ذريتهم } الأول قرأه الجمهور بصيغة الإِفراد . وقرأه أبو عمرو { ذرياتهم } بصيغة جمع ذرية فهو مفعول { أتبعناهم } . وقرأه ابن عامر ويعقوب بصيغة الجمع أيضاً لكن مرفوعاً على أنه فاعل { أتبعتهم } ، فيكون الإِنعام على آبائهم بإلحاق ذرياتهم بهم وإن لم يعملوا مثل عملهم .

وقد روى جماعة منهم الطبري والبزار وابن عديّ وأبو نعيم وابن مردويه حديثاً مسنداً إلى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله يرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه ( أي في العمل كما صرح به في رواية القرطبي ) لتقرّ بهم عينُه ثم قرأ : { والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان } إلى قوله : { من شيء } " . وعلى الاحتمالين هو نعمة جمع الله بها للمؤمنين أنواع المسرّة بسعادتهم بمزاوجة الحور وبمؤانسة الإِخوان المؤمنين وباجتماع أولادهم ونسلهم بهم ، وذلك أن في طبع الإنسان التأنس بأولاده وحبه اتصالهم به .

وقد وصف ذلك محمد بن عبد الرفيع الجعفري المُرسي الأندلسي نزيل تونس سنة 1013 ثلاث عشرة وألف في كتاب له سمّاه « الأنوار النبوية في آباء خير البرية »{[394]} قال في خاتمة الكتاب « قد أطلعني الله تعالى على دين الإِسلام بواسطة والدي وأنا ابن ستة أعوام مع أني كنت إذاك أروح إلى مكتب النصارى لأقرأ دينهم ثم أرجعُ إلى بيتي فيعلمني والدِي دينَ الإِسلام فكنت أتعلم فيهما ( كذا ) معاً وسني حين حُملت إلى مكتَبهم أربعة أعوام فأخذ والدي لوحاً من عود الجوز كأني انظر الآن إليه مملّساً من غير طَفَل ( اسم لطين يابس وهو طين لزج وليست بعربية وعربيتُه طُفَال كغراب ) ، فكتب لي فيه حروف الهجاء وهو يسألني عن حروف النصارى حرفاً حرفاً تدريباً وتقريباً فإذا سميتُ له حرفاً أعجمياً يكتب لي حرفاً عربياً حتى استوفى جميع حروف الهجاء وأوصاني أن أكتم ذلك حتى عن والدتي وعَمِّي وأخي مع أنه رحمه الله قد ألقى نفسه للهلاك لإِمكان أن أخبر بذلك عنه فيُحْرَق لا محالة وقد كان يُلقِّنني ما أقوله عند رؤيتي الأصنام ، فلما تحقق والدي أني أكتم أمور دين الإِسلام أمرني أن أتكلم بإفشائه لوالدتي وبعض الأصدقاء من أصحابه وسافرت الأسفار من جِيَّان لأجتمع بالمسلمين الأخيار إلى غرناطة وإشبيلية وطليطلة وغيرها من مدن الجزيرة الخضراء ، فتخلص لي من معرفتهم أني ميزت منهم سبعة رجال كانوا يحدثونني بأحوال غرناطة وما كان بها في الإِسلام وقد مروا كلهم على شيخ من مشائخ غرناطة يقال له الفقيه الأوطوري . . . » الخ .

وإيثار فعل { ألحقنا } دون أن يقال : أدخلنا معهم ، أو جعلنا معهم لعله لما في معنى الإِلحاق من الصلاحية للفَور والتأخير ، فقد يكون ذلك الإِلحاق بعد إجراء عقاب على بعض الذرية استحقوه بسيئاتهم على ما في الأعمال من تفاوت في استحقاق العقاب والله أعلم بمراده من عباده . وفعل الإِلحاق يقتضي أن الذريات صاروا في درجات آبائهم . وفي المخالفة بين الصيغتين تفنن لدفع إعادة اللفظ .

و { ألتناهم } نقصناهم ، يقال : آلته حقه ، إذا نقصه إياه ، وهو من باب ضرب ومن باب علم .

فقرأه الجمهور بفتح لام { ألتناهم } . وقرأه ابن كثير بكسر لام { ألِتناهم } ، وتقدم عند قوله تعالى : { لا يلتكم من أعمالكم شيئاً } في سورة الحجرات ( 14 ) . والواو للحال وضمير الغيبة عائد إلى { الذين آمنوا } .

والمعنى : أن الله ألحق بهم ذرياتهم في الدرجة في الجنة فضلاً منه على الذين آمنوا دون عوض احتراساً من أن يحسبوا أن إلحاق ذرياتهم بهم بعد عطاء نصيب من حسناتهم لذرياتهم ليدخلوا به الجنة على ما هو متعارف عندهم في فك الأسير ، وحَمالة الديات ، وخلاص الغارمين ، وعلى ما هو معروف في الانتصاف من المظلوم للظالم بالأخذ من حسناته وإعطائها للمظلوم ، وهو كناية عن عدم انتقاص حظوظهم من الجزاء على الأعمال الصالحة .

و { من عملهم } متعلق ب { ما ألتناهم } و ( من ) للتبعيض ، و ( من ) التي في قوله : { من شيء } لتوكيد النفي وإفادة الإِحاطة والشمول للنكرة .

{ كُلُّ امرىء بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } .

جملة معترضة بين جملة { وما ألتناهم من عملهم } وبين جملة { وأمددناهم بفاكهة } [ الطور : 22 ] ، قصد منها تعليل الجملة التي قبلها وهي بما فيها من العموم صالحة للتذييل مع التعليل ، و { كل امرىء } يعمّ أهل الآخرة كلهم . وليس المراد كل امرىء من المتقين خاصة .

والمعنى : انتفى إنقاصُنا إياهم شيئاً من عملهم لأن كل أحد مقرون بما كسب ومرتهَن عنده والمتقون لمّا كَسَبوا العمل الصالح كان لازماً لهم مقترناً بهم لا يُسلبون منه شيئاً ، والمراد بما كسبوا : جزاء ما كسبوا لأنه الذي يقترن بصاحب العمل وأما نفس العمل نفسه فقد انقضى في إبانه .

وفي هذا التعليل كنايتان : إحداهما : أن أهل الكفر مقرونون بجزاء أعمالهم ، وثانيتهما : أن ذريات المؤمنين الذين ألحقوا بآبائهم في النعيم ألحقوا بالجنة كرامة لآبائهم ولولا تلك الكرامة لكانت معاملتهم على حسب أعمالهم . وبهذا كان لهذه الجملة هنا وقع أشد حسناً مما سواه مع أنها صارت من حسن التتميم .

والكسب : يطلق على ما يحصله المرء بعمله لإِرادة نفع نفسه .

ورهين : فعيل بمعنى مفعول من الرهن وهو الحبس .


[394]:- مخطوط عندي.