التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} (13)

ثم ختم - سبحانه - هذه النعم بقوله : { فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } .

والفاء للتفريع على النعم المتعددة التى سبق ذكرها ، والاستفهام للتعجيب ممن يكذب بهذه النعم ، والآلاء : جمع إِلْى - بكسر الهمزة وفتحها وسكون اللام - وهى النعمة ، والخطاب للمكلفين من الجن والإنس ، وقيل لأفراد الإنس مؤمنهم وكافرهم ، أى : فبأى واحدة من هذه النعم تكذبان ربكما ، أى : تجحدان فضله ومننه - يا معشر الجن والإنس - مع أن كل نعمة من هذه النعم تستحق منكم الطاعة لى ، والخضوع لعزتى والإخلاص فى عبادتى .

قال الجمل ما ملخصه : كررت هذه الآية هنا إحدى وثلاثين مرة تقريرا للنعمة ، وتأكيدا للتذكير بها ، وذلك كقول الرجل لمن أحسن إليه ، وهو ينكر هذا الإحسان : ألم تكن فقيرا فأغنيتك ، أفتنكر هذا ؟ ألم تكن عريانا فكسوتك ، أفتنكر هذا . . . ؟

ومثل هذا الكلام شائع فى كلام العرب ، وذلك أن الله - تعالى - عدد على عباده نعمه ، ثم خاطبهم بقوله : { فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } .

وقد كرر - سبحانه - هذه الآية ثمانى مرات ، عقب آيات فيها تعداد عجائب خلقه ، ومبدأ هذا الخلق ونهايته ، ثم كررها سبع مرات عقب آيات فيها ذكر النار وشدائدها بعدد أبواب جهنم . . . ثم كررها - أيضا - ثمانى مرات فى وصف الجنتين وأهلهما ، بعدد أبواب الجنة ، وكررها كذلك ثمانى مرات فى الجنتين التين هما دون الجنتين السابقتين ، فمن اعتقد الثمانية الأولى ، وعمل بموجبها ، استحق هاتين الثمانيتين من الله - تعالى - ، ووقاه السبعة السابقة بفضله وكرمه .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} (13)

وقوله : { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } أي : فبأي الآلاء {[27852]} - يا معشر الثقلين ، من الإنس والجن - تكذبان ؟ قاله مجاهد ، وغير واحد . ويدل عليه السياق بعده ، أي : النِّعَمُ ظاهرة عليكم وأنتم مغمورون بها ، لا تستطيعون إنكارها ولا جحودها {[27853]} ، فنحن نقول كما قالت الجن المؤمنون : " اللهم ، ولا بشيء من آلائك ربنا نكذِّب ، فلك الحمد " . وكان ابن عباس يقول : " لا بأيِّها يا رب " . أي : لا نكذب بشيء منها .

قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن إسحاق ، حدثنا ابن لهيعة ، عن أبي الأسود ، عن عُرْوَة ، عن أسماء بنت أبي بكر قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ ، وهو يصلي نحو الركن قبل أن يصدع بما يؤمر ، والمشركون يستمعون {[27854]} { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } {[27855]} .


[27852]:- (3) في م: "آلاء".
[27853]:- (4) في م: "جحدها".
[27854]:- (5) في م: "يسمعون".
[27855]:- (6) المسند (6/349).
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} (13)

والآلاء : النعم ، واحدها إلى مثل معى وألى مثل قفا ، حكى هذين أبو عبيدة ، وألي مثل أمر وإلي مثل حصن ، حكى هذين الزهراوي . والضمير في قوله : { ربكما } للجن والإنس ، وساغ ذلك ولم يصرح لهما بذكر على أحد وجهين إما أنهما قد ذكرا في قوله : { للأنام } على ما تقدم من أن المراد به الثقلان ، وإما على أن أمرهما مفسر في قوله : { خلق الإنسان } [ الرحمن : 14 ] { وخلق الجان } [ الرحمن : 15 ] فساغ تقديمهما في الضمير اتساعاً . وقال الطبري : يحتمل أن يقال هذا من باب { ألقيا في جهنم }{[10813]} و " يا غلام اضربا عنقه " . وقال منذر بن سعيد خوطب من يعقل لأن المخاطبة بالقرآن كله هي للإنس والجن ، ويروى أن هذه الآية لما قرأها النبي صلى الله عليه وسلم سكت أصحابه فقال : «إن جواب الجن خير من سكوتكم ، أي لما قرأتها على الجن قالوا : لا ، بأيها نكذب يا ربنا »{[10814]} .


[10813]:من قوله تعالى في الآية(24) من سورة (ق):{ألقيا في جهنم كل كفار عنيد}، فالله سبحانه وتعالى يخاطب في هذه الآية خازن النار مالك،فثنى والخطاب لواحد، وهذا كثير في كلام العرب، ومنه البيت المشهور في مطلع معلقة امرئ القيس: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بِسِقط اللوى بين الدخول فحومل وقوله أيضا في مطلع قصيدة أخرى: خليلي مُرا بي على أم جندب لنقضي لبانات الفؤاد المُعذب فهو يخاطب واحدا لكن اللفظ جاء للمثنى، وقال سويد بن كراع: فإن تزجراني يا بن عفان أنزجر وإن تدعاني أحم عرضا ممنعا وهو واضح جدا حيث يخاطب فردا واحدا بلفظ المثنى، قالوا: والعلة في هذا أن أقل أعوان الرجل في إبله وماله اثنان، وأن أقل الرفقة ثلاثة، فجرى كلام الرجل على ما قد ألف من خطابه. أما"يا غلام اضربا عنقه".فهو من كلام الحجاج.
[10814]:أخرج هذا الحديث الترمذي، والحاكم في المستدرك، وزاد السيوطي نسبته إلى ابن المنذر، وأبو الشيخ في العظمة، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل، وهو من حديث الوليد ابن مسلم عن زهير بن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها، فسكتوا، فقال: مالي أراكم سكوتا؟ لقد قرأتها على الجن ليلة الجن فكانوا أحسن مردودا منكم، كنت كلما أتيت على قوله:{فبأي آلاء ربكما تكذبان} قالوا: ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب، ، فلك الحمد، وقد صحح الحاكم هذا الحديث كما ذكر السيوطي في الدر، كذلك صححه الذهبي، لكن الترمذي قال: غريب لا نعرفه إلا من حديث الوليد بن مسلم عن زهير بن محمد. وزهير بن محمد هذا قال عنه البخاري:"ما روى عنه أهل الشام فإنه مناكير، وما روى عنه أهل البصرة فإنه صحيح" وهذا الحديث مما رواه الوليد بن مسلم وهو من أهل الشام، ومع هذا فقد أخرج مثله البزار، وابن جرير، وابن المنذر، والدارقطني في الإفراد، وابن مردويه، والخطيب في تاريخه بسند صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} (13)

الفاء للتفريع على ما تقدم من المنن المدمجة مع دلائل صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وحقّية وَحي القرآن ، ودلائل عظمة الله تعالى وحكمته باستفهام عن تعيين نعمة من نعم الله يتأتى لهم إنكارها ، وهو تذييل لما قبله .

و ( أيِّ ) استفهام عن تعيين واحد من الجنس الذي تضاف إليه وهي هنا مستعملة في التقرير بذكر ضِدّ ما يقربه مثل قوله : { ألم نشرح لك صدرك } [ الشرح : 1 ] . وقد بينته عند قوله تعالى : { يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم } في سورة الأنعام ( 130 ) ، أي لا يستطيع أحد منكم أن يجحد نعم الله .

والآلاء : النعم جمع : إلْي بكسر الهمزة وسكون اللام ، وأَلْي بفتح الهمزة وسكون اللام وياء في آخره ويقال أَلْوُ بواو عوض الياء وهو النعمة .

وضمير المثنى في { ربكما تكذبان } خطاب لفريقين من المخاطبين بالقرآن . والوجه عندي أنه خطاب للمؤمنين والكافرين الذين ينقسم إليهما جنس الإِنسان المذكور في قوله : { خلق الإنسان } [ الرحمن : 3 ] وهم المخاطبون بقوله : { ألا تطغوا في الميزان } [ الرحمن : 8 ] الآية والمنقسم إليهما الأنام المتقدم ذكره ، أي أن نعم الله على الناس لا يجحدها كافر بَلْهَ المؤمن ، وكل فريق يتوجه إليه الاستفهام بالمعنى الذي يناسب حاله .

والمقصود الأصلي : التعريض بالمشركين وتوبيخهم على أن أشركوا في العبادة مع المنعِم غيرَ المنعِم ، والشهادةُ عليهم بتوحيد المؤمنين ، والتكذيب مستعمل في الجحود والإِنكار .

وقيل التثنية جرت على طريقة في الكلام العربي أن يخاطبوا الواحد بصيغة المثنى كقوله تعالى : { ألقيا في جهنم كل كفار عنيد } [ ق : 24 ] ذكر ذلك الطبري والنسفي .

ويجوز أن تكون التثنية قائمة مقام تكرير اللفظ لتأكيد المعنى مثل : لَبيك وسعديك ، ومعنى هذا أن الخطاب لواحد وهو الإنسان .

وقال جمهور المفسرين : هو خطاب للإنس والجن ، وهذا بعيد لأن القرآن نزل لخطاب الناس ووعظهم ولم يأت لخطاب الجن ، فلا يتعرض القرآن لخطابهم ، وما ورد في القرآن من وقوع اهتداء نفر من الجن بالقرآن في سورة الأحقاف وفي سورة الجن يحمل على أن الله كلّف الجن باتباع ما يتبين لهم في إدراكهم ، وقد يُكلف الله أصنافاً بما هم أهل له دون غيرهم ، كما كلّف أهل العلم بالنظر في العقائد وكما كلّفهم بالاجتهاد في الفروع ولم يكلف العامة بذلك ، فما جاء في القرآن من ذكر الجن فهو في سياق الحكاية عن تصرفات الله فيهم وليس لتوجيه العمل بالشريعة .

وأما ما رواه الترمذي عن جابر بن عبد الله الأنصاري « أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرحمن وهم ساكتون فقال لهم " لقد قرأتُها على الجن ليلةَ الجن فكانوا أحسن مردوداً منكم ، كنت كلما أتيت على قوله : { فبأي ألاء ربكما تكذبان } قالوا : لا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد " . قال الترمذي : هو حديث غريب وفي سنده زهير بن محمد وقد ضعفه البخاري وأحمد بن حنبل .

وهذا الحديث لو صح فليس تفسيراً لضمير التثنية لأن الجن سمعوا ذلك بعد نزوله فلا يقتضي أنهم المخاطبون به وإنما كانوا مقتدين بالذين خاطبهم الله ، وقيل الخطاب للذكور والإِناث وهو بعيد .

والتكذيب مستعمل في معنى الجحد والإِنكار مجازاً لتشنيع هذا الجحد .

وتكذيب الآلاء كناية عن الإِشراك بالله في الإِلهية . والمعنى : فبأي نعمة من نعم الله عليكم تنكرون أنها نعمة عليكم فأشركتم فيها غيره بَلْه إنكار جميع نعمه إذ تعبدون غيره دواماً .