ثم أخذت السورة الكريمة فى تفصيل حكم الظهار ، بعد بيان كونه منكرا من القول وزورا ، فقال - تعالى - : { والذين يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا } .
وقد اختلف العلماء فى معنى قوله - تعالى - : { ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ } .
فمنهم من يرى أن المراد منه ، ثم يرجعون عما قالوا ، قاصدين معاشرة زوجاتهم . . أو قاصدين تحليل ما حرموه على أنفسهم بالنسبة لزوجاتهم بسبب الظهار .
ومنهم من يرى أن المراد بهذه الجملة : العودة إلى ما كانوا يقولونه فى الجاهلية ، بعد أن هداهم الله - تعالى - إلى الإسلام ، فيكون المعنى : ثم يعودون إلى ما كانوا يقولونه فى الجاهلية من ألفاظ الظهار ، التى يبغضها الله - تعالى - .
وهذا القول يبدو عليه الضعف من جهة : جعله الفعل المضارع الدال على الحال والاستقبال وهو { يُظَاهِرُونَ } ، بمعنى الماضى المنقطع ، ومن جهة جعلهم أن المظاهر بعد الإسلام ، كان قد ظاهر فى الجاهلية ، مع أن هذا ليس بلازم . إذ لم يثبت أن " أوس بن الصامت " كان قد ظاهر من زوجته فى الجاهلية ، وهذا الحكم إنما هو حق المظاهر فى الإسلام .
ومنهم من يرى أن المراد بهذه الجملة : تكرار لفظ الظهار ، فمعنى ثم يعودون لما قالوا : ثم يعودون إلى تكرار لفظ الظهار مرة أخرى .
وكان أصحاب هذا القول يرون ، أن الكفارة لا تكون إلا بتكرار ألفاظ الظهار ، وهو قول لا يؤيده دليل ، لأنه لم يثبت أن خولة - أو غيرها - كرر عليها زوجها لفظ الظهار أكثر من مرة ، بل الثابت أنه عندما قال لها : أنت على كظهر أمي ، ذهبت إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقصت عليه ما جرى بينها وبين زوجها .
وقد رجح الإمام ابن جرير الرأى الأول فقال : والصواب من القول فى ذلك عندي أن يقال : معنى اللام فى قوله : { لِمَا قَالُواْ } بمعنى إلى أو في ، لأن معنى الكلام : ثم يعودون لنقض ما قالوا من التحريم فيحللونه ، وإن قيل : ثم يعودون إلى تحليل ما حرموا ، أو فى تحليل ما حرموا فصواب ، لأن كل ذلك عود له ، فتأويل الكلام : ثم يعودون لتحليل ما حرموا على أنفسهم مما أحله الله لهم .
والمعنى : والذين يظاهرون منكم - أيها المؤمنون - من نسائهم ، ثم يندمون على ما فعلوا ، ويريدون أن يعودوا عما قالوه ، وأن يرجعوا إلى معاشرة زوجاتهم .
فعليهم فى هذه الحالة إعتاق رقبة { مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا } أى : من قبل أن يستمتع أحدهما بالآخر ، أى يحرم عليهما الجماع ودواعيه قبل التكفير .
والمراد بالرقبة : المملوك ، من تسمية الكل باسم الجزء . واسم الإشارة فى قوله - سبحانه - { ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } يعود إلى الحكم بالكفارة .
أى : ذلكم الذى شرعنا لكم - أيها المؤمنون - وهو الحكم بالكفارة إنما شرعناه من أجل أن تتعظوا به ، وتنزجروا عن النطق بالألفاظ التى تؤدي إلى الظهار ، والله - تعالى - خبير ومطلع على كل ما تقولونه من أقوال ، وما تفعلونه من أفعال - وسيحاسبكم على ذلك حسابا دقيقا . وما دام الأمر كذلك ، فافعلوا ما أمركم به ، واجتنبوا ما نهاكم عنه .
وقوله :{ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا } اختلف السلف والأئمة في المراد بقوله :{ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا } فقال بعض الناس : العود هو أن يعود إلى لفظ الظهار فيكرره ، وهذا القول باطل ، وهو اختيار بن حزم{[28379]} وقول داود ، وحكاه أبو عمر بن عبد البر عن بُكَيْر ابن الأشج والفراء ، وفرقة من أهل الكلام .
وقال الشافعي : هو أن يمسكها بعد الظهار زمانًا يمكنه أن يطلق فيه فلا يطلق .
وقال أحمد بن حنبل : هو أن يعود إلى الجماع أو يعزم عليه فلا تحل له حتى يكفر بهذه الكفارة . وقد حكي عن مالك : أنه العزم على الجماع أو الإمساك{[28380]} وعنه أنه الجماع .
وقال أبو حنيفة : هو أن يعود إلى الظهار بعد تحريمه ، ورفع ما كان عليه أمر الجاهلية ، فمتى تظاهر{[28381]} الرجل من امرأته فقد حرمها تحريمًا لا يرفعه إلا الكفارة . وإليه ذهب أصحابه ، والليث بن سعد .
وقال ابن لَهِيعة : حدثني عطاء ، عن سعيد بن جبير :{ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا } يعني : يريدون أن يعودوا في الجماع الذي حرموه على أنفسهم .
وقال الحسن البصري : يعني الغشيان في الفرج . وكان لا يرى بأسا أن يغشى فيما دون الفرج قبل أن يكفر .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس :{ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } والمس : النكاح . وكذا قال عطاء ، والزهري ، وقتادة ، ومقاتل ابن حيان .
وقال الزهري : ليس له أن يقبلها ولا يمسها حتى يكفر .
وقد روي أهل السنن من حديث عكرمة ، عن ابن عباس أن رجلا قال : يا رسول الله ، إني ظاهرت من امرأتي فوقعت عليها قبل أن أكفر . فقال : " ما حملك على ذلك يرحمك الله ؟ " . قال : رأيت خلخالها في ضوء القمر . قال : " فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله ، عز وجل " {[28382]}
وقال الترمذي : حسن غريب صحيح {[28383]} ورواه أبو داود والنسائي من حديث عكرمة مرسلا . قال النسائي : وهو أولى بالصواب{[28384]}
وقوله :{ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } أي : فإعتاق رقبة كاملة من قبل أن يتماسا ، فها هنا الرقبة مطلقة غير مقيدة بالإيمان ، وفي كفارة القتل مقيدة بالإيمان ، فحمل الشافعي ، رحمه الله ، ما أطلق ها هنا على ما قيد هناك لاتحاد الموجب ، وهو عتق الرقبة ، واعتضد{[28385]} في ذلك بما رواه عن مالك بسنده ، عن معاوية بن الحكم السلمي ، في قصة الجارية السوداء ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أعتقها فإنها مؤمنة " . وقد رواه أحمد في مسنده ، ومسلم في صحيحه{[28386]}
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا يوسف{[28387]} بن موسى ، حدثنا عبد الله بن نمير ، عن إسماعيل بن مسلم ، عن عمرو بن دينار ، عن طاوس ، عن ابن عباس قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل فقال : إني تظاهرت{[28388]} من امرأتي ثم وقعت عليها قبل أن أكفر . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألم يقل الله{ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } قال : أعجبتني ؟ قال : " أمسك حتى تكفر " {[28389]}
ثم قال البزار : لا يروى عن ابن عباس بأحسن من هذا ، وإسماعيل بن مسلم تكلم فيه ، وروي عنه جماعة كثيرة من أهل العلم ، وفيه من الفقه أنه لم يأمره إلا بكفارة واحدة .
وقوله :{ ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ } أي : تزجرون به{ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } أي : خبير بما يصلحكم ، عليم بأحوالكم .
والذين يظهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا أي إلى قولهم بالتدارك ، ومنه المثل عاد الغيث على ما أفسد وهو بنقض ما يقتضيه وذلك عند الشافعي بإمساك المظاهر عنها في النكاح زمانا يمكنه مفارقتها فيه إذ التشبيه يتناول حرمته لصحة استثنائها عنه ، وهو أقل ما ينتقض به وعند أبي حنيفة باستباحة استمتاعها ولو بنظرة شهوة وعند مالك بالعزم على الجماع ، وعند الحسن بالجماع أو بالظهار في الإسلام ، على أن قوله يظاهرون بمعنى يعتادون الظهار إذ كانوا يظاهرون في الجاهلية ، وهو قول الثوري أو بتكراره لفظا وهو قول الظاهرية ، أو معنى بأن يحلف على ما قال وهو قول أبي مسلم أو إلى المقول فيها بإمساكها أو استباحة استمتاعها أو وطئها ، فتحرير رقبة أي فعليهم أو فالواجب اعتقاق رقبة ، والفاء للسببية ومن فوائدها الدلالة على تكرر وجوب التحرير بتكرر الظهار ، والرقبة مقيدة بالإيمان عندنا قياسا على كفارة القتل من قبل أن يتماسا أن يستمتع كل من المظاهر عنها بالآخر لعموم اللفظ ومقتضى التشبيه أو أن يجامعها ، وفيه دليل على حرمة ذلك قبل التكفير ذلكم أي ذلكم الحكم بالكفارة توعظون به ، لأنه يدل على ارتكاب الجناية الموجبة للغرامة ويردع عنه والله بما تعملون خبير لا تخفى عليه خافية .
عطف على جملة { الذين يظّهّرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم } [ المجادلة : 2 ] أعيد المبتدأ فيها للاهتمام بالحكم والتصريح بأصحابه وكان مقتضى الكلام أن يقال : فإن يعودوا لما قالوا فتحرير رقبة ، فيكون عطفاً على جملة الخبر من قوله : { ما هن أمهاتهم } [ المجادلة : 2 . ]
و { ثمّ } عاطفة جملةَ { يعودون } على جملة { يظّهّرون } ، وهي للتراخي الرتبي تعريضاً بالتخطئة لهم بأنهم عادوا إلى ما كانوا يفعلونه في الجاهلية بعدَ أن انقطع ذلك بالإِسلام . ولذلك علق بفعل { يعودون } ما يدل على قولهم لفظ الظهار .
والعود : الرجوع إلى شيء تركه وفارقه صاحبه . وأصله : الرجوع إلى المكان الذي غادره ، وهو هنا عوْد مجازي .
ومعنى { يعودون لما قالوا } يحتمل أنهم يعودون لما نطقوا به من الظهار . وهذا يقتضي أن المظاهِر لا يَكون مظاهراً إلا إذا صدر منه لفظ الظهار مرة ثانية بعد أُولى . وبهذا فسر الفراء . وروي عن علي بن طلحة عن ابن عباس : بحيث يكون ما يصدر منه مرة أولى معفواً عنه . غير أن الحديث الصحيح في قضية المجادِلة يدفع هذا الظاهر لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأوس بن الصامت : « أعتق رقبة » كما سيأتي من حديث أبي داود فتعين أن التكفير واجب على المظاهر من أول مرة ينطلق فيها بلفظ الظهار .
ويحتمل أن يراد أنهم يريدون العود إلى أزواجهم ، أي لا يحبون الفراق ويرومون العود إلى المعاشرة . وهذا تأويل اتفق عليه الفقهاء عدا داود الظاهري وبُكير بن الأشج وأبا العالية . وفي « الموطأ » قال مالك في قول الله عز وجل : { والذين يظّهّرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا } قال سمعت : أن تفسير ذلك أن يُظاهر الرجل من امرأته ثم يُجمع على إصابتها وإمساكها فإن أجمع على ذلك فقد وجبت عليه الكفارة وإن طلقها ولم يجمع بعد تظاهره منها على إمساكها فلا كفارة عليه .
وأقوال أبي حنيفة والشافعي والليثِ تحوم حول هذا المعنى على اختلاف في التعبير لا نطيل به .
وعليه فقد استعمل فعل { يعودون } في إرادة العودة كما استعمل فعل مستعمل في معنى إرادة العود والعزم عليه لا على العود بالفعل لأنه لو كان عوداً بالفعل لم يكن لاشتراط التفكير قبل المسِيس معنى ، فانتظم من هذا معنى : ثم يريدون العود إلى ما حرموه على أنفسهم فعليهم كفارة قبل أن يعودوا إليه على نحو قوله تعالى : { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } [ المائدة : 6 ] أي إذا أردتم القيام ، وقوله : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } [ النحل : 98 ] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا سَألت فاسأل الله وإذا استعَنْت فاستعنْ بالله " .
وتلك هي قضية سبب النزول لأن المرأة ما جاءت مجادلة إلا لأنها علمت أن زوجها المظاهر منها لم يرد فراقها كما يدل عليه الحديث المروي في ذلك في كتاب أبي داود عن خويلة بنت مالك بن ثعلبة قالت : ظاهر منّي زوجي أوس بن الصامت فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم أشكو إليه ورسول الله يجادلني ويقول : اتقي الله .
فإنه ابن عمك ؟ فما برحتُ حتّى نزل القرآن . فقال : « يعتق رقبة » . قالت : لا يجد . قال : « فيصوم شهرين متتابعين » . قالت : إنه شيخ كبير ما بِه من صيام . قال : « فليطعم ستين مسكيناً » . قالت : ما عنده شيء يتصدق به . فأُتي ساعتئذٍ بعَرَق من تمر قلت : يا رسول الله فإني أعينه بعرَق آخر . قال : « قد أحسنتِ اذهبي فأَطعمي بهما عنه ستّين مسكيناً وارجعي إلى ابنِ عمّك » . قال أبو داود في هذا : إنها كفرت عنه من غير أن تستأمره .
والمراد « بما قالوا » ما قالوا بلفظ الظهار وهو ما حَرموه على أنفسهم من الاستمتاع المفاد من لفظ : أنت عليّ كظهر أمي ، لأن : أنت عليّ . في معنى : قربانك ونحوه عليّ كمِثله من ظهر أمي . ومنه قوله تعالى : { ونرثه ما يقول } [ مريم : 80 ] ، أي مالاً وولداً في قوله تعالى : { وقال لأوتين مالاً وولداً } [ مريم : 77 ] ، وقوله : { قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم } [ آل عمران : 183 ] أي قولكم حتى يأتينا بقربان تأكله النار . ففعل القول في هذا وأمثاله ناصبُ لمفرد لوقوعه في خلاف جملة مقولة ، وإيثار التعبير عن المعنى الذي وقع التحْريم له . فلفظ الظهار بالموصول وصلته هذه إيجاز وتنزيه للكلام عن التصريح به . فالمعنى : ثم يرومون أن يرجعوا للاستمتاع بأزواجهم بعد أن حرموه على أنفسهم .
وفهم من قوله : { ثم يعودون لما قالوا } أن من لم يُرِد العود إلى امرأته لا يخلو حالهُ : فإما أن يريد طلاقها فله أن يوقع علَيها طلاقاً آخر لأن الله أبطل أن يكون الظهار طلاقاً ، وإما أن لا يريد طلاقاً ولا عوداً . فهذا قد صار ممتنعاً من معاشرة زوجه مضِرًّا بها فله حكم الإِيلاء الذي في قوله تعالى : { للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر } [ البقرة : 226 ] الآية . وقد كانوا يجعلون الظهار إيلاء كما في قصة سلمة بن صخر البياضي . ثم الزرقي في كتاب أبي داود قال : « كنت امرأ أُصِيب من النساء ما لا يصيب غيري فلما دخل شهر رمضان خفت أن أصيب من امرأتي شيئاً يُتايع بي ( بتحتية في أوله مضمومة ثم مثناة فوقية ثم ألف ثم تحتية ، والظاهر أنها مكسورة . والتتايع الوقوع في الشر فالباء في قوله : ( بي ) زائدة للتأكيد ) حتى أُصبح ، فظاهرتُ منها حتى ينسلخ شهر رمضان » . الحديث .
واللام في قوله : { لما قالوا } بمعنى ( إلى ) كقوله تعالى : { بأن ربك أوحى لها } [ الزلزلة : 5 ] ونظيره قوله : { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه } [ الأنعام : 28 ] . وأحسب أن أصل اللام هو التعليل ، وهو أنها في مثل هذه المواضع إن كان الفعل الذي تعلقت به ليس فيه معنى المجيء حملت اللام فيه على معنى التعليل وهو الأصل نحو : { بأن ربك أوحى لها } [ الزلزلة : 5 ] ، وما يقع فيه حرف ( إلى ) من ذلك مجاز بتنزيل من يُفعل الفعل لأجله منزلةَ من يجيء الجائي إليه ، وإن كان الفعل الذي تعلقت به اللام فيه معنى المجيء مثل فعل العَوْد فإن تعلق اللام به يشير إلى إرادة معنى في ذلك الفعل بتمجّز أو تضميننٍ يناسبه حرف التعليل نحو قوله تعالى : { كل يجري لأجل مسمى } [ الرعد : 2 ] ، أي جَرْيُه المستمر لقصده أجلاً يبلغه . ومنه قوله تعالى : { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه } [ الأنعام : 28 ] أي عاودوا فعله ومنه ما في هذه الآية .
وفي « الكشاف » في قوله تعالى : { كل يجري لأجل مسمى } في سورة [ الزمر : 5 ] أنه ليس مثل قوله تعالى : { كل يجري إلى أجل مسمى } في سورة [ لقمان : 29 ] أي أنه ليس من تعاقب الحرفين ولا يَسلك هذه الطريقة إلا ضيّق العطن ، ولكن المعنيين أعني الاستعلاء والتخصيص كلاهما ملائم لصحة الغرض لأن قوله : إلى أجل } معناه يبلغه ، وقوله : { لأجل } يريد لإِدراك أجل تجعل الجري مختصاً بالإِدراك ا ه .
فيكون التقدير على هذا الوجه ثم يريدون العود لأجل ما قالوا ، أي لأجل رغبتهم في أزواجهم ، فيصير متعلَّق فعل { يعودون } مقدّراً يدل عليه الكلام ، أي يعودون لما تركوه من العصمة ، ويصير الفعل في معنى : يندَمون على الفراق .
وتحصل من هذا أن كفارة الظهار شرعت إذا قصد المظاهر الاستمرار على معاشرة زوجه ، تحلةً لما قصده من التحريم ، وتأديباً له على هذا القصد الفاسد والقول الشنيع .
وبهذا يكون محمل قوله : { من قبل أن يتماسا } على أنه من قبل أن يمسّ زوجه مسّ استمتاع قبل أن يكفر وهو كناية عن الجماع في اصطلاح القرآن ، كما قال : { وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن } [ البقرة : 237 ] .
ولذلك جعلت الكفارة عِتق رقبة لأنه يَفتدي بتلك الرقبة رقبةَ زوجه .
وقد جعلها الله تعالى موعظة بقوله : { ذلكم توعظون به } . واسم الإِشارة في قوله : { ذلكم } عائد إلى تحرير رقبة . والوعظ : التذكير بالخير والتحذير من الشر بترغيب أو ترهيب ، أي فرضُ الكفارة تنبيه لكم لتتفَادَوْا مسيس المرأة التي طلقت أو تستمروا على مفارقتها مع الرغبة في العود إلى معاشرتها لئلا تعودوا إلى الظهار . ولم يسم الله ذلك كفارة هنا وسمّاها النبي صلى الله عليه وسلم كفارة كما في حديث سلمة بن صخر البياضي في « جامع الترمذي » وإنما الكفارة من نوع العقوبة في أحد قولين عن مالك وهو قول الشافعي حكاه عنه ابن العربي في « الأحكام » .
فالمظاهر ممنوع من الاستمتاع بزوجته المظاهَر منها ، أي ممنوع من علائق الزوجية ، وذلك يقتضي تعطيل العصمة ما لم يكفر لأنه ألزم نفسه ذلك فإن استمتع بها قبل الكفارة كلها فليتُب إلى الله وليستغفر وتتعين عليه الكفارة ولا تتعدد الكفارة بسبب الاستمتاع قبل التكفير لأنه سبب واحد فلا يضرّ تكرر مسببه ، وإنما جعلت الكفارة زجراً ولذلك لم يكن وطء المظاهر امرأته قبل الكفارة زناً .
وقد روى أبو داود والترمذي حديث سلمة بن صخر البياضي أنه ظاهر من امرأته ثم وقع عليها قبل أن يكفر فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بكفارة واحدة ، وهو قول جمهور العلماء . وعن مجاهد وعبد الرحمن بن مهدي أن عليه كفارتين .
وتفاصيل أحكام الظهار في صيغته وغير ذلك مفصلة في كتب الفقه .
وقوله : { والله بما تعملون خبير } تذييل لجملة { ذلكم توعظون به } ، أي والله عليم بجميع ما تعملونه من هذا التكفير وغيره .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا} يعني يعودون للجماع الذي حرموه على أنفسهم {فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا} يعني الجماع {ذلكم توعظون به} فوعظهم الله في ذلك {والله بما تعملون} من الكفارة {خبير} به...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول جلّ ثناؤه: والذين يقولون لنسائهم: أنتنّ علينا كظهور أمهاتنا.
وقوله:"ثُمّ يَعُودُونَ لمَا قالُوا "اختلف أهل العلم في معنى العود لما قال المظاهر؛ فقال بعضهم: هو الرجوع في تحريم ما حرّم على نفسه من زوجته التي كانت له حلالاً قبل تظاهره، فيحلها بعد تحريمه إياها على نفسه بعزمه على غشيانها ووطئها...
وقال آخرون نحو هذا القول، إلا أنهم قالوا: إمساكه إياها بعد تظهيره منها، وتركه فراقها عود منه لما قال، عَزَم على الوطء أو لم يعزم. وكان أبو العالية يقول: معنى قوله: "لِمَا قالُوا": فيما قالوا...
وقوله: "فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أنْ يَمَاسّا" يقول: فعليه تحرير رقبة، يعني عتق رقبة عبد أو أمة، من قبل أن يماسّ الرجل المظاهر امرأته التي ظاهر منها أو تماسه.
واختلف في المعنى بالمسيس في هذا الموضع نظير اختلافهم في قوله: "وَإنْ طَلّقْتُمُوهُنّ مِنْ قَبْلِ أنْ تَمَسّوهُنّ" وقد ذكرنا ذلك هنالك. وسنذكر بعض ما لم نذكره هنالك... عن ابن عباس، في قوله: "وَالّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمّ يَعُودُونَ لِمَا قالُوا" فهو الرجل يقول لامرأته: أنت عليّ كظهر أمي. فإذا قال ذلك، فليس يحلّ له أن يقربها بنكاح ولا غيره حتى يكفر عن يمينه بعتق رقبة، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا، والمسّ: النكاح. فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا، وإن هو قال لها: أنت عليّ كظهر أمي إن فعلت كذا وكذا، فليس يقع في ذلك ظهار حتى يحنث، فإن حنث فلا يقربها حتى يكفّر، ولا يقع في الظهار طلاق...
عن الحسن أنه كان لا يرى بأسا أن يغشى المظاهِرُ دون الفرج...
وقال آخرون: عني بذلك كلّ معاني المسيس، وقالوا: الآية على العموم...
وقوله: "ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ" يقول تعالى ذكره: أوجب ربكم ذلك عليكم عظة لكم تتعظون به، فتنتهون عن الظهار وقول الزور.
"واللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبُيرٌ" يقول تعالى ذكره: والله بأعمالكم التي تعلمونها أيها الناس ذو خبرة لا يخفى عليه شيء منها، وهو مجازيكم عليها، فانتهوا عن قول المنكر والزور.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
يعني: والذين كانت عادتهم أن يقولوا هذا القول المنكر فقطعوه بالإسلام، ثم يعودون لمثله، فكفارة من عاد أن يحرّر رقبة ثم يماس المظاهر منها لا تحل له مماستها إلا بعد تقديم الكفارة. ووجه آخر: ثم يعودون لما قالوا: ثم يتداركون ما قالوا؛ لأن المتدارك للأمر عائد إليه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا. ذلكم توعظون به، والله بما تعملون خبير).. وقد جعل الله العتق في كفارات متنوعة، وسيلة من وسائل التحرير للرقاب التي أوقعها نظام الحروب في الرق إلى أجل، ينتهي بوسائل شتى هذه واحدة منها. وهناك أقوال كثيرة في معنى: (ثم يعودون لما قالوا).. نختار منها أنهم يعودون إلى الوطء الذي حرموه على أنفسهم بالظهار. فهذا أقرب ما يناسب السياق...
فتحرير رقبة من قبل العودة إلى حله.. ثم التعقيب: (ذلكم توعظون به).. فالكفارة مذكر وواعظ بعدم العودة إلى الظهار الذي لا يقوم على حق ولا معروف (والله بما تعملون خبير).. خبير بحقيقته، وخبير بوقوعه، وخبير بنيتكم فيه. وهذا التعقيب يجيء قبل إتمام الحكم لإيقاظ القلوب، وتربية النفوس، وتنبيهها إلى قيام الله على الأمر بخبرته وعلمه بظاهره وخافيه...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والعود: الرجوع إلى شيء تركه وفارقه صاحبه. وأصله: الرجوع إلى المكان الذي غادره، وهو هنا عوْد مجازي. ومعنى {يعودون لما قالوا} يحتمل أنهم يعودون لما نطقوا به من الظهار. وهذا يقتضي أن المظاهِر لا يَكون مظاهراً إلا إذا صدر منه لفظ الظهار مرة ثانية بعد أُولى...
والمراد « بما قالوا» ما قالوا بلفظ الظهار وهو ما حَرموه على أنفسهم من الاستمتاع المفاد من لفظ: أنت عليّ كظهر أمي، لأن: أنت عليّ. في معنى: قربانك ونحوه عليّ كمِثله من ظهر أمي...
فالمعنى: ثم يرومون أن يرجعوا للاستمتاع بأزواجهم بعد أن حرموه على أنفسهم...
{ذلكم توعظون به}. واسم الإِشارة في قوله: {ذلكم} عائد إلى تحرير رقبة. والوعظ: التذكير بالخير والتحذير من الشر بترغيب أو ترهيب، أي فرضُ الكفارة تنبيه لكم لتتفَادَوْا مسيس المرأة التي طلقت أو تستمروا على مفارقتها مع الرغبة في العود إلى معاشرتها لئلا تعودوا إلى الظهار. ولم يسم الله ذلك كفارة هنا وسمّاها النبي صلى الله عليه وسلم كفارة...فالمظاهر ممنوع من الاستمتاع بزوجته المظاهَر منها، أي ممنوع من علائق الزوجية، وذلك يقتضي تعطيل العصمة ما لم يكفر لأنه ألزم نفسه ذلك فإن استمتع بها قبل الكفارة كلها فليتُب إلى الله وليستغفر وتتعين عليه الكفارة ولا تتعدد الكفارة بسبب الاستمتاع قبل التكفير لأنه سبب واحد فلا يضرّ تكرر مسببه، وإنما جعلت الكفارة زجراً ولذلك لم يكن وطء المظاهر امرأته قبل الكفارة زناً...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
فلا بد لهم من التكفير عن ذلك بطريقةٍ عملية، فلا يكفي الندم وحده، فليعتق الزوج رقبة، وليحررها، ليكون ذلك رمزاً للحرية الروحية التي يريد أن يؤكدها في ذاته، لتتحرر إرادته بذلك من سيطرة الخطيئة، كما يحرر إنساناً آخر من سيطرة العبودية في عبودية الإنسان للإنسان، {ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ} في ما يريده الله لكم من دفع ضريبة الخطيئة بطريقةٍ وبأخرى، حتى يكون ذلك تأكيداً للندم في خطه العملي، {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} فهو الذي يعرف عمق الفعل في خلفياتكم الروحية، ويعرف كيف يحرك التوبة في ضمائركم لترجعوا عن الخطأ من ناحيةٍ عملية...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إلاّ أنّ مثل هذا العمل القبيح (الظهار) لم يكن شيئاً يستطيع الإسلام أن يغضّ النظر عنه، لذلك فقد جعل له كفّارة ثقيلة نسبيّاً كي يمنع من تكراره، وذلك بقوله تعالى: (والذين يظاهرون من نسائهم ثمّ يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسّا). وقد ذكر المفسّرون احتمالات عديدة في تفسير جملة: (ثمّ يعودون لما قالوا)... إلاّ أنّ الظاهر خصوصاً بالنظر إلى جملة: (من قبل أن يتماسّا) أنّ هؤلاء قد ندموا لقولهم وأرادوا الرجوع إلى حياتهم العائلية،«رقبة» جاءت هنا كناية عن الإنسان، وهذا بلحاظ أنّ الرقبة أكثر أعضاء الجسم حسّاسية، كما تأتي كلمة «رأس» بهذا المعنى، لذا فإنّه يقال بدلا من خمسة أشخاص مثلا خمسة رؤوس. ثمّ يضيف تعالى: (ذلكم توعظون به) أي يجب ألاّ تتصوّروا أنّ مثل هذه الكفّارة في مقابل الظهار، كفّارة ثقيلة وغير متناسبة مع الفعل. إنّ المقصود بذلك هو الموعظة والإيقاظ لنفوسكم، والكفّارة عامل مهمّ في وضع حدّ لمثل هذه الأعمال القبيحة والمحرّمة، ومن ثمّ السيطرة على أنفسكم وأقوالكم. وأساساً فإنّ جميع الكفّارات لها جنبة روحية وتربوية، والكفّارات المالية يكون تأثيرها غالباً أكثر من التعزيرات البدنية. ولأنّ البعض يحاول أن يتهرّب من إعطاء الكفّارة بأعذار واهية في موضوع الظهار، يضيف عز وجل أنّه يعلم بذلك حيث يقول في نهاية الآية: (والله بما تعملون خبير). إنّه عالم بالظهار، وكذلك عالم بالذين يتهرّبون من الكفّارة، وكذلك بنيّاتكم! ولكن كفّارة تحرير (رقبة) قد لا تتيسّر لجميع من يرتكب هذا الذنب كما لاحظنا ذلك في موضوع سبب نزول هذه الآية المباركة، حيث أنّ «أوس بن الصامت» الذي نزلت الآيات الأولى بسببه قال لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إنّي غير قادر على دفع مثل هذه الكفّارة الثقيلة، وإذا فعلت ذلك فقدت جميع ما أملك. وقد يتعذّر وجود المملوك. ليقوم المكلّف بتحرير رقبته حتّى مع قدرته المالية، كما في عصرنا الحاضر، لهذا كلّه ولأنّ الإسلام دين عالمي خالد فقد عالج هذه المسألة بحكم آخر يعوّض عن تحرير الرقبة، حيث يقول عز وجل: (فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسّا).