ثم بين القرآن بعد ذلك بعض ما كان عليه الجاهليون من جهالات ، وناقشهم فيما أحلوه وحرموه مناقشة منطقية حكيمة فقال :
{ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ الضأن اثنين وَمِنَ المعز اثنين } أى . من الضأن زوجين اثنين هما الكبش والنعجة ، { وَمِنَ المعز اثنين } أى . ومن المعز زوجين اثنين هما التيس والعنز .
ثم أمر الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبكتهم على جهلهم فقال { قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنثيين أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنثيين } .
أى : قل لهم يا محمد على سبيل التوبيخ وإلزامهم الحجة : أحرم الله الذكرين وحدهما من الضأن والمعز أم الأنثيين وحدهما ، أم الأجنة التى اشتملت عليها أرحام إناث الزوجين كليهما سواء أكانت تلك الأجنة ذكوراً أم إناثا ؟
وقوله : { نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } أى : أخبرونى بأمر معلوم من جهته - تعالى - جاءت به الأنبياء ، يدل على أنه - سبحانه - قد حرم شيئاً مما حرمتموه إن كنتم صادقين فى دعوى التحريم .
والأمر هنا للتعجيز لأنهم لا دليل عندهم من العقل أو النقل على صحة تحريمهم لبعض الأنعام دون بعض .
وهذا بيان لجهل العرب قبل الإسلام فيما كانوا حَرّموا من الأنعام ، وجعلوها أجزاءً وأنواعًا : بحيرة ، وسائبة ، ووصيلة وحامًا ، وغير ذلك من الأنواع التي ابتدعوها في الأنعام والزروع والثمار ، فبين{[11281]} أنه تعالى أنشأ جنات معروشات وغير معروشات ، وأنه أنشأ من الأنعام حمولة وفرشا . ثم بين أصناف الأنعام إلى غنم وهو بياض وهو الضأن ، وسواد وهو المعز ، ذكره وأنثاه ، وإلى إبل ذكورها وإناثها ، وبقر كذلك . وأنه تعالى لم يحرم شيئًا من ذلك ولا شيئًا من أولاده . بل كلها مخلوقة لبني آدم ، أكلا وركوبًا ، وحمولة ، وحلبا ، وغير ذلك من وجوه المنافع ، كما قال [ تعالى ]{[11282]} { وَأَنزلَ لَكُمْ مِنَ الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } الآية [ الزمر : 6 ] .
وقوله : { أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنْثَيَيْنِ } رَدٌ عليهم في قولهم : { مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا }
وقوله : { نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أي : أخبروني عن يقين : كيف حرم الله عليكم{[11283]} ما زعمتم تحريمه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ونحو ذلك ؟
وقال العَوْفي عن ابن عباس قوله : { ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ } فهذه أربعة أزواج ، { وَمِنَ الإبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنْثَيَيْنِ } يقول : لم أحرم شيئًا من ذلك { [ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنْثَيَيْنِ ] }
يعني : هل يشمل الرحم إلا على ذكر أو أنثى فلم تحرمون بعضا وتحلون بعضا ؟ ]{[11284]} { نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } يقول : كله حلال .
وقوله : { أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا } تهكم بهم فيما ابتدعوه وافتروه على الله ، من تحريم ما حرموه من ذلك ، { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ } أي : لا أحد أظلم منه ، { إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }
وأول من دخل في هذه الآية : عمرو بن لُحَيّ بن قَمَعَة ، فإنه أول من غير دين الأنبياء ، وأول من سيب السوائب ، ووصل الوصيلة ، وحمى الحامي ، كما ثبت ذلك في الصحيح{[11285]} .
{ ثمانية أزواج } بدل من حمولة وفرشا ، أو مفعول كلوا ، ولا تتبعوا معترض بينهما أو فعل دل عليه أو حال من ما بمعنى مختلفة أو متعددة والزوج ما معه آخر من جنسه يزاوجه وقد يقال لمجموعهما والمراد الأول . { من الضأن اثنين } زوجين اثنين الكبش والنعجة ، وهو بدل من ثمانية وقرئ " اثنان " على الابتداء . و{ الضأن } اسم جنس كالإبل وجمعه ضئين أو جمع ضائن كتاجر وتجر . وقرئ بفتح الهمزة وهو لغة فيه . { ومن المعز اثنين } التيس والعنز ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر ويعقوب بالفتح وهو جمع ماعز كصاحب وصحب وحارس وحرس ، وقرئ " المعزى " . { قل آلذكرين } ذكر الضأن وذكر المعز . { حرم أم الأنثيين } أم أنثييهما ونصب الذكران والاثنين بحرم { أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين } أو ما حملت إناث الجنسين ذكرا كان أو أنثى { نبئوني بعلم } بأمر معلوم يدل على أن الله تعالى حرم شيئا من ذلك { إن كنتم صادقين } دعوى التحريم عليه .
والزوج الذكر والزوج الأنثى كل واحد منهما زوج صاحبه ، وهي أربعة أنواع ؛ فتجيء ثمانية أزواج ، و{ الضأن } جمع ضائنة وضائن ، وقرأ طلحة بن مصرف وعيسى بن عمر والحسن من «الضأن » بفتح الهمزة ، وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي «ومن المعْز » بسكون العين وهو جمع ماعز وماعزة ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر «ومن المعَز » بفتح العين فضأن ومعز كراكب وركب وتاجر وتجر ، وضان ومعز كخادم وخدم ونحوه ، وقرأ أبان بن عثمان «من الضأن اثنان » على الابتداء والخبر المقدم ، ويقال في جمع ماعز معز ومعز ومعيز وأمعوز{[5128]} وقوله تعالى : { قل الذكرين } هذا تقسيم على الكفار حتى يتبين كذبهم على الله أي لا بد أن يكون حرم الذكرين فيلزمكم تحريم الذكور أو الأنثيين فيلزمكم تحريم جميع الإناث ، أم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين فيلزمكم تحريم الجميع وأنتم لم تلتزموا شيئاً مما يوجبه هذا التقسيم ، وفي هذه السؤالات تقرير وتوبيخ ، ثم اتبع تقريرهم وتوبيخهم بقوله { نبئوني } أخبروني { بعلم } أي من جهة نبوءة أو كتاب من كتب الله { إن كنتم صادقين } و { إن } شرط وجوابه في { نبئوني } ، وجاز تقديم جواب هذا الشرط لما كانت { إن } لا يظهر لها عمل في الماضي ، ولو كانت ظاهرة العمل لما جاز تقدم الجواب .
جملة : { ثمانية أزواج } حال من { من الأنعام } [ الأنعام : 142 ] . ذكر توطئة لتقسيم الأنعام إلى أربعة أصناف الّذي هو توطئة للردّ على المشركين لقوله : { قل ءآلذكرين حرم أم الأنثيين } إلى قوله { أم كنتم شهداء } أي أنشأ من الأنعام حمولة إلى آخره حالة كونها ثمانية أزواج .
والأزواج جمع زوج ، والزوج اسم لذات منضمَّة إلى غيرها على وجه الملازمة ، فالزّوج ثان لواحد ، وكلّ من ذيْنِك الاثنين يقال له : زوج ، باعتبار أنّه مضموم ، وقد تقدّم ذلك عند قوله تعالى : { وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجَنَّة } في سورة البقرة ( 35 ) ، ويطلق الزوج غالباً على الذّكر والأنثى من بني آدم المتلازمين بعقدة نكاح ، وتوسّع في هذا الإطلاق فأطلق بالاستعارة على الذّكر والأنثى من الحيوان الّذي يتقارن ذكره وأنثاه مثل حمار الوحش وأتانه ، وذكر الحمام وأنثاه ، لشبهها بالزوجين من الإنسان . ويطلق الزّوج على الصنف من نوع كقوله تعالى : { ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين } في سورة الرّعد ( 3 ) . وكلا الإطلاقين الأخيرين صالح للإرادة هنا لأنّ الإبل والبقر والضأن والمعز أصناف للأنعام ، ولأنّ كلّ ذلك منه ذكر وأنثى . إذ المعنى أنّ الله خلق من الأنعام ذكرها وأنثاها ، فالأزواج هنا أزواج الأصناف ، وليس المراد زوْجاً بعينه ، إذ لا تعرف بأعيانها ، فثمانية أزواج هي أربعة ذكور من أربعة أصناف وأربعُ إناث كذلك .
وقوله : { من الضأن اثنين ومن المعز اثنين } أُبدل { اثنين } من قوله : { ثمانية أزواج } قوله : { اثنين } : بدلَ تفصيل ، والمراد : اثنين منها أي من الأزواج ، أي ذَكَرٌ وأنثى كلّ واحد منهما زوج للآخر ، وفائدة هذا التّفصيل التوصّل لذكر أقسام الذّكور والإناث توطئة للاستدلال الآتي في قوله : { قل ءآلذكرين حرم أم الأنثيين } الآية .
وسُلك في التّفصيل طريق التّوزيع تمييزاً للأنواع المتقاربة ، فإنّ الضأن والمعز متقاربان ، وكلاهما يذبح ، والإبلَ والبقرَ متقاربة ، والإبلُ تنحر ، والبقر تذبح وتُنحر أيضاً . ومن البقر صنف له سنام فهو أشبه بالإبل ويوجد في بلاد فارس ودخل بلاد العرب وهو الجاموس ، والبقرُ العربي لا سنام له وثَورها يسمّى الفريش .
ولمّا كانوا قد حرّموا في الجاهليّة بعض الغنم ، ومنها ما يسمّى بالوصيلة كما تقدّم ، وبعض الإبل كالبَحيرة والوصيلة أيضاً ، ولم يحرّموا بعض المعز ولا شيئاً من البقر ، ناسب أن يؤتى بهذا التّقسيم قبل الاستدلال تمهيداً لتحكّمهم إذْ حرّموا بعض أفراد من أنواع ، ولم يحرّموا بعضاً من أنواع أخرى ، وأسباب التّحريم المزعومة تتأتى في كلّ نوع فهذا إبطال إجمالي لما شرعوه وأنَّه ليس من دين الله ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً .
وهذا الاستدلال يسمى في علم المناظرة والبحث بالتحكّم .
والضأن بالهمز اسم جمع للغَنم لا واحد له من لفظه ، ومفرد الضأن شاة وجمعها شاءٌ .
وقيل هو جمع ضَائن . والضأن نوع من الأنعام ذواتتِ الظلف له صوف . والمعز اسم جمع مفرده ماعِز ، وهو نوع من الأنعام شبيه بالضأن من ذوات الظلف له شعر مستطيل ، ويقال : مَعْز بسكون العين ومَعز بفتح العين وبالأول قرأ نافع . وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو جعفر ، وخلف . وقرأ بالثّاني الباقون .
وبعد أن تمّ ذكر المنّة والتّمهيد للحجّة ، غيرّ أسلوب الكلام ، فابتدىء بخطاب الرّسول عليه الصّلاة والسلام بأن يجادل المشركين ويظهر افتراءهم على الله فيما زعموه من تحريم ما ابتدعوا تحريمه من أنواع وأصناف الأنعام على من عيّنوه من النّاس بقوله : { قل ءآلذكرين حرم } الآيات . فهذا الكلام ردّ على المشركين ، لإبطال ما شرعوه بقرينة قوله : { نبئوني بعلم إن كنتم صادقين } وقوله : { أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا } الآية . فقوله : قل ءآلذكرين حرم أم الأنثيين إلى آخرها في الموضعين ، اعتراض بعد قوله : { ومن المعز اثنين } وقوله : { ومن البقر اثنين } . وضمير : { حرّم } عائد إلى اسم الله في قوله : { كلوا مما رزقكم الله } [ الأنعام : 142 ] ، أو في قوله : { وحرموا ما رزقهم الله } [ الأنعام : 140 ] الآية . وفي تكرير الاستفهام مرّتين تعريض بالتّخطئة ، فالتّوبيخ والتّقريع الّذي يعقبه التّصريح به في قوله : { إن كنتم صادقين } وقوله : { أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا فمن أظلم ممن أفترى على الله كذباً } الآية . فلا تردّد في أنّ المقصود من قوله : { قل ءآلذكرين حرم } في الموضعين إبطال تحريم ما حرّم المشركون أكله ، ونفي نسبة ذلك التّحريم إلى الله تعالى . وإنَّما النظر في طريق استفادة هذا المقصود من نظم الكلام . وهو من المعضلات .