التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ يَٰقَوۡمِ إِنَّكُمۡ ظَلَمۡتُمۡ أَنفُسَكُم بِٱتِّخَاذِكُمُ ٱلۡعِجۡلَ فَتُوبُوٓاْ إِلَىٰ بَارِئِكُمۡ فَٱقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ عِندَ بَارِئِكُمۡ فَتَابَ عَلَيۡكُمۡۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ} (54)

سادساً : ( نعمة إرشادهم إلى ما به يتخلصون من ذنوبهم ) :

ثم ذكرهم - سبحانه - بنعمة جليلة ، وهي إرشادهم إلى ما به يتخلصون من ذنوبهم وإخبارهم بقبول توبتهم ، فقال تعالى :

{ وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ . . . }

المعنى : واذكروا يا بني إسرائيل - لتنتفعوا وتعتبروا - وقت أن قال موسى لقومه الذين عبدوا العجل حين كان يناجي ربه بعيداً عنهم : يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم وهبطتم بها إلى الحضيض بعبادتكم غير الله - تعالى - فإذا أردتم التكفير عن خطاياكم . فتوبوا إلى ربكم توبة صادقة نصوحاً ، واقتلوا أنفسكم لتنالوا عفو ربكم ، فذلكم خير لكم عند خالقكم من الإِقامة على المعصية ، ففعلتم ذلك فقبل الله توبتكم ؛ لأنه هو الذي يقبل التوبة عن عباده على كثرة ما يصدر عنهم من ذنوب ؛ لأنه هو الواسع الرحمة لمن ينيب إليه ويستقيم على صراطه الواضح .

وفي نداء موسى - عليه السلام - لهم بقوله : " يا قوم " تلطف في الخطاب ليجذب قلوبهم إلى سماعه ، وليحملهم على تلقي أوامره بحسن الطاعة ، وليشعرهم بأنهم قومه فهو منهم وهم منه ، والشأن فيمن كان كذلك ألا يكذب عليهم أو يخدعهم ، وإنما يريد لهم الخير .

والبارئ هو الخالق للمخلوقات بدون تفاوت أو اضطراب ، فهو أخص من الخالق ، ولذا قال تعالى : { هُوَ الله الخالق البارىء المصور } وفي هذا التعبير الحكيم ، تحريض لهم على التوبة والاستجابة للبارئ الذي أحسن كل شيء خلقه ، وفيه أيضاً تقريع لهم على غباوتهم ، حيث تركوا عبادة بديع السموات والأرض ، وعبدوا عجلا ضرب به المثل في الغباوة فقالوا " أبلد من ثور " فكأنه - سبحانه - يقول لهم : لقد اتخذتم هذا العجل إلهاً لتشابهكم معه في البلادة وضيق الأفق .

قال صاحب الكشاف : " فإن قلت : من أين اختص هذا الموضع بذكر البارئ ؟ قلت : البارئ هو الذي خلق الخلق بريئاً من التفاوت { مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتٍ } ومتميزاً بعضه عن بعض بالأشكال المختلفة والصور المتباينة ، فكان فيه تقريع بما ان منهم من ترك عبادة العالم الحكيم الذي برأهم بلطف وحكمته على الأشكال المختلفة ، أبرياء من التفاوت والتنافر إلى عبادة البقر التي هي مثل في البعاوة والبلادة ، حتى عرضوا أنفسهم لسخط الله ونزول أمره بأن يفك ما ركبه من خلقهم ، ونثر ما نظم من صورهم وأشكالهم ، حين لم يشكروا النعمة في ذلك ، وغمطوها بعبادة ما لا يقدر على شيء منها " اه .

وقوله تعالى : { فاقتلوا أَنفُسَكُمْ } أمر من موسى - عليه السلام - لهم بقتلهم أنفسهم حتى تكون توبتهم مقبولة ، وهذا الأمر بلغه موسى إياهم عن ربه ، إذ مثل هذا الأمر لا يصدر إلا عن وحي لأنه تشريع من الله - تعالى - .

والمراد بقتلهم أنفسهم أن يقتل من لم يعبد العجل منهم عابديه ، فيكون المعنى : ليقتل بعضكم بعضاً ، كما في قوله تعالى : { فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ الله مُبَارَكَةً طَيِّبَةً } أي فليسلم بعضكم على بعض .

وقيل : المراد أن يقتل كل من عبد العجل نفسه قتلا حقيقياً حتى يكفر عن ردته بعبادته لغير الله ، وقد ورد أنهم فعلوا ذلك ، وأن الله - تعالى - رفع عنهم القتل وعفا عمن بقي منهم على قيد الحياة كرما منه وفضلا ، وهذا هو معنى التوبة في قوله تعالى { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } ، ومعنى العفو في قوله تعالى : في الآية السابقة { ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } وقد ساق ابن كثير وغيره من المفسرين كثيراً من الآثار التي تحدثت عن كيفية حصول هذا القتل ، من ذلك ما رواه سعيد بن جبير عن ابن عياس ، أنه قال : " قال تعالى لموسى : إن توبة عبدة العجل أن يقتل كل واحد منهم من لقي من والد وولد فيقتله بالسيف ولا يبالي من قتل في ذلك الموطن فتاب أولئك الذين كانوا خفى على موسى وهارون ، ما اطلع الله على ذنوبهم فاعترفوا بها . وفعلوا ما أمروا به ، فغفر الله للقاتل والمقتول " .

وأخرج ابن جرير عن ابن شهاب الزهري أنه قال : " لما أمر بنو إسرائيل بقتل أنفسهم برزوا ومعهم موسى ، فتضاربوا بالسيوف ، وتطاعنوا بالخناجر وموسى رافع يديه ، حتى إذا فتروا أتاه بعضهم ، فقال له : يا نبي الله ادع الله لنا ، وأخذوا بعضديه يشدون يديه . فلم يزل أمرهم على ذلك حتى إذا قبل الله توبتهم قبض أيدي بعضهم عن بعض ، فألقوا السلاح ، وحزن موسى وبنو إسرائيل للذي كان من القتل فيهم ، فأوحى الله - جل ثناؤه - إلى موسى { لاَ تَحْزَنْ } أما من قتل فحى عندي يرزق ، وأما من بقي ، فقد قبلت توبته ، فسر بذلك موسى وبنو إسرائيل " .

وجملة { ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ } تعليله ، جيء بها لتحريضهم على الامتثال والطاعة لما أمرهم به نبيهم - عليه السلام - واسم الإِشارة { ذَلِكُمْ } يعود إلى التوبة والقتل المفهومين مما تقدم .

وجملة { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } جواب لشرط محذوف للإِيجار ، أي فامتثلتم ما أمرتم به ، فقيل الباري توبتكم ، وهي خطاب من الله - تعالى - لبني إسرائيل على لسان موسى ، فيه تذكير بنعمته ، وإرشاد لهم إلى موطن المنة والفضل وهو قبول توبتهم .

وعطفت هذه الجملة { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } جواب لشرط محذوف للإِيجار ، أي فامتثلتم ما أمرتم به ، فقيل الباري توبتكم ، وهي خطاب من الله - تعالى - لبني إسرائيل على لسان موسى ، فيه تذكير بنعمته ، وإرشاد لهم إلى موطن المنة والفضل وهو قبول توبتهم .

وعطفت هذه الجملة { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } بالفاء ، لإِشعارهم بأنه - سبحانه - لم يتركهم ليستأصلوا أنفسهم جميعاً بالقتل ، بل تداركهم بلطفه ورحمته ، فقبل توبتهم ، ورفع عقوبة القتل عمن بقي منهم .

وقوله تعالى : { إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم } إخبار وثناء على الله - تعالى - بما هو أهثله من عفو ورحمة .

وأكدها - سبحانه - بتنزيلهم منزلة من يشك في قبول توبته ، لعظم جريمتهم وضخامة خطيئتهم وسيرهم إلى أمد بعيد في طريق الشيطان .

وهذه الآية الكريمة قد تضمنت نعمة كبرى على بني إسرائيل فإن الله - تعالى - لطف بهم ، ورحمهم ، وقبل توبتهم ، وعفا عن قتلهم أنفسهم ، بعد أن صدر منهم ما يدل على صدقهم في توبتهم ، كما تضمنت - أيضاً - تذكير بني إسرائيل المعاصرين للعهد النبوي بنعم الله عليهم ، لأنه لولا عفوه - سبحانه - عن آبائهم لما وجدوا هم ، وفيها - كذلك - إشارة إلى سماحة الشريعة التي أتى بها محمد صلى الله عليه وسلم وإغراء لليهود المعاصرين له بالدخول في الإِسلام لأنه إذا كان آباؤهم لم تقبل توبتهم إلا بقتلهم أنفسهم فإن شريعة الإِسلام تقول لهم : لقد جاءكم النبي الذي رفع عنكم إصركم والأغلال التي كانت على أسلافكم ، فآمنوا به واتبعوه لعلكم ترحمون .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ يَٰقَوۡمِ إِنَّكُمۡ ظَلَمۡتُمۡ أَنفُسَكُم بِٱتِّخَاذِكُمُ ٱلۡعِجۡلَ فَتُوبُوٓاْ إِلَىٰ بَارِئِكُمۡ فَٱقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ عِندَ بَارِئِكُمۡ فَتَابَ عَلَيۡكُمۡۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ} (54)

هذه صفَةُ توبته تعالى على بني إسرائيل من عبادة العجل ، قال الحسن البصري ، رحمه الله ، في قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ } فقال : ذلك حين وقع في قلوبهم من شأن عبادتهم العجل ما وقع حين قال الله تعالى : { وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا } الآية [ الأعراف : 149 ] .

قال : فذلك حين يقول موسى : { يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ }

وقال أبو العالية ، وسعيد بن جبير ، والربيع بن أنس : { فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ } أي إلى خالقكم .

قلت : وفي قوله هاهنا : { إِلَى بَارِئِكُمْ } تنبيه على عظم جرمهم ، أي : فتوبوا إلى الذي خلقكم وقد عبدتم معه غيره .

وروى النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم ، من حديث يزيد بن هارون ، عن الأصبغ بن زيد الوراق عن القاسم بن أبي أيوب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : قال الله تعالى : إن توبتهم أن يقتل كل واحد منهم كل من لقي من ولد ووالد{[1741]} فيقتله بالسيف ، ولا يبالي من قتل في ذلك الموطن . فتاب أولئك الذين كانوا خفي على موسى وهارون ما اطلع الله من ذنوبهم ، فاعترفوا بها ، وفعلوا ما أمروا به فغفر الله تعالى للقاتل والمقتول . وهذا{[1742]} قطعة من حديث الفُتُون ، وسيأتي في تفسير سورة طه بكماله ، إن شاء الله{[1743]} .

وقال ابن جرير : حدثني عبد الكريم بن الهيثم ، حدثنا إبراهيم بن بَشَّار ، حدثنا سفيان بن عيينة ، قال : قال أبو سعيد : عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : قال موسى لقومه : { فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } قال : أمر موسى قومه - من أمر ربه عز وجل - أن يقتلوا أنفسهم قال : واحتبى الذين عبدوا{[1744]} العجل فجلسوا ، وقام الذين لم يعكفوا على العجل ، فأخذوا الخناجر بأيديهم ، وأصابتهم ظُلَّة{[1745]} شديدة ، فجعل يقتل بعضهم بعضا ، فانجلت الظلَّة{[1746]} عنهم ، وقد أجلوا عن سبعين ألف قتيل ، كل من قتل منهم كانت له توبة ، وكل من بقي كانت له توبة .

وقال ابن جُرَيْج : أخبرني القاسم بن أبي بَزَّة أنه سمع سعيد بن جبير ومجاهدًا يقولان في قوله تعالى : { فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } قالا قام بعضهم إلى بعض بالخناجر فقتل بعضهم بعضًا ، لا يحنو رجل على قريب ولا بعيد ، حتى ألوى موسى بثوبه ، فطرحوا ما بأيديهم ، فكُشِفَ عن سبعين ألف قتيل . وإن الله أوحى إلى موسى : أن حَسْبي ، فقد اكتفيت ، فذلك حين ألوى موسى بثوبه ، [ وروي عن علي رضي الله عنه نحو ذلك ]{[1747]} .

وقال قتادة : أمر القوم بشديد من الأمر ، فقاموا يتناحرون بالشفار يقتل بعضهم بعضا ، حتى بلغ الله فيهم نقمته ، فسقطت الشفار من أيديهم ، فأمسك عنهم القتل ، فجعل لحيهم توبة ، وللمقتول شهادة .

وقال الحسن البصري : أصابتهم ظلمة حنْدس ، فقتل بعضهم بعضا [ نقمة ]{[1748]} ثم انكشف عنهم ، فجعل توبتهم في ذلك .

وقال السدي في قوله : { فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } قال : فاجتلد الذين عبدوه والذين لم يعبدوه بالسيوف ، فكان من قُتِل من الفريقين شهيدًا ، حتى كثر القتل ، حتى كادوا أن يهلكوا ، حتى قتل بينهم{[1749]} سبعون ألفًا ، وحتى دعا موسى وهارون : ربنا أهلكت بني إسرائيل ، ربنا البقيةَ البقيةَ ،

فأمرهم أن يضعوا السلاح وتاب عليهم ، فكان من قتل منهم من الفريقين شهيدًا ، ومن بقي مُكَفّرا عنه ؛ فذلك قوله : { فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }

وقال الزهري : لما أمرت بنو إسرائيل بقتل أنفسها ، برزوا ومعهم موسى ، فاضطربوا بالسيوف ، وتطاعنوا بالخناجر ، وموسى رافع يديه ، حتى إذا أفنوا بعضهم{[1750]} ، قالوا : يا نبي الله ، ادع الله لنا . وأخذوا بعضُديه يسندون يديه ، فلم يزل أمرهم على ذلك ، حتى إذا قبل الله توبتهم قبض أيديهم ، بعضهم عن بعض ، فألقوا السلاح ، وحزن موسى وبنو إسرائيل للذي كان من القتل فيهم ، فأوحى الله ، جل ثناؤه ، إلى موسى : ما يحزنك ؟ أما من قتل منكم فحي عندي يرزقون ، وأما من بقي فقد قبلت توبته . فسُرّ بذلك موسى ، وبنو إسرائيل .

رواه ابن جرير بإسناد جيد عنه .

وقال ابن إسحاق : لما رجع موسى إلى قومه ، وأحرق العجل وذَرّاه في اليم ، خرج إلى ربه بمن اختار من قومه ، فأخذتهم الصاعقة ، ثم بُعثوا ، فسأل موسى ربه التوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل . فقال : لا إلا أن يقتلوا أنفسهم قال : فبلغني أنهم قالوا لموسى : نَصبر لأمر الله . فأمر موسى من لم يكن عبد العجل أن يَقْتُل من عبده . فجلسوا بالأفنية وأصْلَتَ عليهم القومُ السيوف ، فجعلوا يقتلونهم ، وبكى موسى ، وَبَهَش إليه النساء والصبيان ، يطلبون العفو عنهم ، فتاب الله عليهم ، وعفا عنهم وأمر موسى أن ترفع عنهم السيوف .

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : لما رجع موسى إلى قومه ، وكان{[1751]} سبعون{[1752]} رجلا قد اعتزلوا مع هارون العجل لم يعبدوه . فقال لهم موسى : انطلقوا إلى موعد ربكم . فقالوا : يا موسى ، ما من{[1753]} توبة ؟ قال : بلى ، { فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ } الآية ، فاخترطوا السيوف والجرزَة والخناجر والسكاكين . قال : وبعث عليهم ضبابة . قال : فجعلوا يتلامسون بالأيدي ، ويقتل بعضهم بعضًا . قال : ويلقى الرجل أباه وأخاه فيقتله ولا يدري . قال : ويتنادون [ فيها ]{[1754]} : رحم الله عبدا صبر نفسه حتى يبلغ الله رضاه ، قال : فقتلاهم شهداء ، وتيب على أحيائهم ، ثم قرأ : { فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } .


[1741]:في ط: "أو والد".
[1742]:في جـ: "وهذه".
[1743]:في جـ: "وهذه".
[1744]:في جـ، ط، ب: "عكفوا".
[1745]:في جـ، ط، ب، أ، و: "ظلمة".
[1746]:في جـ، ط، ب، أ، و: "الظلمة".
[1747]:زيادة من جـ، ط، ب، وفي أ، و: "وروي عن علي رحمة الله عليه نحو ذلك".
[1748]:زيادة من أ.
[1749]:في جـ، ط، ب: "منهم".
[1750]:في جـ، أ: "بعضهم بعضا".
[1751]:في جـ: "وكانوا".
[1752]:في أ: "سبعين".
[1753]:في أ: "هل من".
[1754]:زيادة من جـ، ط، ب، أ.
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ يَٰقَوۡمِ إِنَّكُمۡ ظَلَمۡتُمۡ أَنفُسَكُم بِٱتِّخَاذِكُمُ ٱلۡعِجۡلَ فَتُوبُوٓاْ إِلَىٰ بَارِئِكُمۡ فَٱقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ عِندَ بَارِئِكُمۡ فَتَابَ عَلَيۡكُمۡۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ} (54)

{ وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم } فاعزموا على التوبة والرجوع إلى من خلقكم براء من التفاوت ، ومميزا بعضكم عن بعض بصور وهيئات مختلفة ، وأصل التركيب لخلوص الشيء عن غيره ، إما على سبيل التقصي كقولهم بريء المريض من مرضه والمديون من دينه ، أو الإنشاء كقولهم برأ الله آدم من الطين أو فتوبوا . { فاقتلوا أنفسكم } إتماما لتوبتكم بالبخع ، أو قطع الشهوات كما قيل من لم يعذب نفسه لم ينعمها ومن لم يقتلها لم يحيها . وقيل أمروا أن يقتل بعضهم بعضا . وقيل أمر من لم يعبد العجل أن يقتل العبدة . روي أن الرجل كان يرى بعضه وقريبه فلم يقدر على المضي لأمر الله ، فأرسل الله ضبابة وسحابة سوداء لا يتباصرون ، فأخذوا يقتتلون من الغداة إلى العشي حتى دعا موسى وهارون فكشفت السحابة ونزلت التوبة ، وكانت القتلى سبعين ألفا . والفاء الأولى للتسبب ، والثانية للتعقيب .

{ ذلكم خير لكم عند بارئكم } من حيث إنه طهرة من الشرك ، ووصلة إلى الحياة الأبدية والبهجة السرمدية .

{ فتاب عليكم } متعلق بمحذوف إن جعلته من كلام موسى عليه السلام لهم تقديره : إن فعلتم ما أمرتم به فقد تاب عليكم ، أو عطف على محذوف إن جعلته خطابا من الله تعالى لهم على طريقة الالتفات ، كأنه قال : ففعلتم ما أمرتم به فتاب عليكم بارئكم . وذكر البارئ وترتيب الأمر عليه إشعار بأنهم بلغوا غاية الجهالة والغباوة ، حتى تركوا عبادة خالقهم الحكيم إلى عبادة البقر التي هي مثل في الغباوة ، وأن من لم يعرف حق منعمه حقيق بأن لا يسترد منه ، ولذلك أمروا بالقتل وفك التركيب .

{ إنه هو التواب الرحيم } للذي يكثر توفيق التوبة ، أو قبولها من المذنبين ، ويبالغ في الإنعام عليهم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ يَٰقَوۡمِ إِنَّكُمۡ ظَلَمۡتُمۡ أَنفُسَكُم بِٱتِّخَاذِكُمُ ٱلۡعِجۡلَ فَتُوبُوٓاْ إِلَىٰ بَارِئِكُمۡ فَٱقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ عِندَ بَارِئِكُمۡ فَتَابَ عَلَيۡكُمۡۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ} (54)

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( 54 )

هذا القول من موسى صلى الله عليه وسلم كان بأمر من الله تعالى ، وحذفت الياء في «يا قومي » لأن النداء موضع حذف وتخفيف ، والضمير في «اتخاذكم » في موضع خفض على اللفظ ، وفي موضع رفع بالمعنى ، «العجل » لفظة عربية ، اسم لولد البقرة .

وقال قوم : سمي عجلاً لأنه استعجل قبل مجيء موسى عليه السلام .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وليس هذا القول بشيء( {[608]} ) .

واختلف هل بقي العجل من ذهب ؟ قال ذلك الجمهور وقال الحسن بن أبي الحسن : صار لحماً ودماً ، والأول أصح .

و «توبوا » : معناه ارجعوا عن المعصية إلى الطاعة .

وقرأ الجمهور : «بارئِكم » بإظهار الهمزة وكسرها .

وقرأ أبو عمرو : «بارئْكم » بإسكان الهمزة .

وروي عن سيبويه اختلاس الحركة وهو أحسن ، وهذا التسكين يحسن في توالي الحركات .

وقال المبرد : لا يجوز التسكين مع توالي الحركات في حرف الإعراب ، وقرءاة أبي عمرو «بارئكم » لحن( {[609]} ) .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رحمه الله : وقد روي عن العرب التسكين في حرف الأعراب ، قال الشاعر : [ الرجز ]

إذا اعوججن قلت صاحب قوم( {[610]} ) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقال امرؤ القيس : [ السريع ]

فاليوم أشرب غير مستحقب . . . إثماً من الله ولا واغل( {[611]} )

وقال آخر : [ الرجز ]

قالت سليمى اشتر لنا سويقا( {[612]} ) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقال الآخر : [ السريع ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وقد بدا هَنْكِ مِن المِئْزَرِ( {[613]} )

وقال جرير :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ونهر تيري فما تعرفْكُمُ العربُ( {[614]} )

وقال وضاح اليمن( {[615]} ) : [ الرجز ]

إنما شعري شهد *** قد خلط بجلجلان

ومن أنكر التسكين في حرف الإعراب فحجته أن ذلك لا يجوز من حيث كان علماً للإعراب .

قال أبو علي : وأما حركة البناء فلم يختلف النحاة في جواز تسكينها مع توالي الحركات .

وقرأ الزهري : «باريكم » بكسر الياء من غير همز( {[616]} ) ، ورويت عن نافع .

وقرأ قتادة : «فاقتالوا أنفسكم » : وقال : «هي من الاستقالة » .

قال أبو الفتح : «اقتال » هذه افتعل ، ويحتمل أن يكون عينها واواً كاقتادوا ، ويحتمل أن يكون ياء «كاقتاس »( {[617]} ) والتصريف يضعف أن تكون من الاستقالة ، ولكن قتادة رحمه الله ينبغي أن يحسن الظن به في أنه لم يورد ذلك إلا بحجة عنده .

وقوله تعالى : { فتاب عليكم } قبله محذوف تقديره ففعلتم .

وقوله { عليكم } معناه : على الباقين ، وجعل الله تعالى القتل لمن قتل شهادة وتاب على الباقين وعفا عنهم .

قال بعض الناس : { فاقتلوا } في هذه الآية معناه بالتوبة وإماتة عوارض النفوس من شهوة وتعنت وغضب( {[618]} ) ، واحتج بقوله عليه السلام في الثوم والبصل فلتمتهما طبخاً ، وبقول حسان :

. . . . . . . . . . . . . . . . قتلت قتلت فهاتها لم تقتل( {[619]} )


[608]:- لأن العرب تطلق هذا الاسم على ولد البقر.
[609]:- تلحين أبي العباس لأبي عمرو البصري لا يلتفت إليه، لأن أبا عمرو لم يقرأ إلا بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولأن لغة العرب توافقه، وقد جلب ابن عطية رحمه الله ما يكفي من الشواهد، فإنكار المبرد لها هو المنكر، لا أن الذين اعترضوا على المبرد خلطوا ما حركته إعراب بما حركته بناء.
[610]:- تمامه: بالدو أمثال السفين العوم. والدو: الصحراء، والبيت منسوب إلى أبي نخيلة الراجز.
[611]:- كان قد حرم على نفسه شرب الخمر حتى يأخذ الثأر، وبعد أن أخذه أصبح الخمر مباحا في زعمه فقال: فاليوم أشر ألخ. وأشرب فعل معرب، وقد سكن آخره. وقد جاء في اللسان: واحتقب فلان الإثم كأنه جمعه واحتقبه من خلفه، واحتقبه واستحقبه بمعنى، أي احتمله، والواغل هنا هو الذي يدخل على القوم في طعامهم وشرابهم من غير أن يدعوه.
[612]:- تمامه: وها خبر البر أو دقيقا- ينسب هذا البيت للعذامر الكندي، وهومن مشطور الرجز. انظر شرح الشافية لابن الحاجب. وفي رواية (وهات بر البخس أو دقيقا) والبخس الذي يزرع بماء السماء.
[613]:- أوله: (رحت وفي رجليك ما فيهما)، وهو للأقيشر الأسدي كما في خزانة الأدب.
[614]:- أوله: سيروا بني العم فالأهواز منزلكم ............................... قال في القاموس: ونهر تيرى كضيزى بالأهواز.
[615]:- من مشاهير شعراء الغزل، تشبب بأم البنين زوجة الوليد بن عبد الملك فأمر الوليد بدفنه حيا. واسمه عبد الرحمن بن إسماعيل، سمى بالوضاح لجماله.
[616]:- هذه القراءة لها تخريجان وكلاهما شاذ، انظر أبا (ح). "البحر المحيط"1/207.
[617]:- عبارة أبي (ح): "وقرأ قتادة فيما نقل المهدوي وابن عطية والتبريزي وغيرهم: "فأقيلوا أنفسكم"، وقال الثعلبي" قرأ قتادة: "فاقتالوا أنفسكم"، فأما فأقيلوا فهو أمر من الإقالة، وكأن المعنى إن أنفسكم قد تورطت في عذاب الله بهذا الفعل العظيم الذي تعاطيتموه من عبادة العجل، وقد هلكت، فأقيلوها بالتوبة، والتزام الطاعة، وأزيلوا آثار تلك المعاصي بإظهار الطاعات، وأما فاقتالوا أنفسكم فقالوا: هو افتعل بمعنى استفعل، أي فاستقيلوها، والمشهور استقال لا اقتال، قال ابن جني: يحتمل أن يكون عينها واوا كاقتاد، ويحتمل أن يكون ياء كاقتاس" اهـ.
[618]:- في القول الأول: القتل الحقيقي بمعنى إزهاق الروح، وفي القول الثاني: القتل المعنوي بمعنى إماتة الأهواء والشهوات، والأول هو الظاهر، وقال به أكثر الناس، وهناك من يقول: فاقتلوا أنفسكم أي استسلموا لمن يقتلوا، وقد حكي أن الذين لم يعبدوا العجل قتلوا الذين عبدوه صبرا واستسلاما. فتكون الآراء في القتل ثلاثة، والأول هو الظاهر.
[619]:- نص البيت كله: إن التي ناولتني فرددتها قتِلت قُتِلْت فهاتها لم تُقْتل