وجملة { أَلاَ لِلَّهِ الدين الخالص } مؤكدة ومقررة لمضمون ما قبلها من وجوب إفراد العبادة والطاعة لله - تعالى - : وزادها تأكيداً وتقريراً لما قبلها تصديرها بأداة الاستفتاح { ألا } واشتمالها على أسلوب القصر .
أى : ألا إن الله - تعالى - وحده - وليس لأحد سواه - الدين الخالص من شوائب الشرك والرياء . والعبادة لوجهه وحده ، والخضوع لقدرته التى لا يعجزها شئ .
ثم بين - سبحانه - ما عليه المشركون من ضلال فقال : { والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى إِنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ . . }
فالمراد بالموصول المشركون ، ومحله الرفقع على الابتداء ، وخبره قوله - تعالى - بعد ذلك : { إِنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ } وجملة { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى } فى محل نصب على الحال بتقدير القول ، والاستثناء مفرغ من أعم العلل . والزلفى : اسم أقيم مقام المصدر الذى يتلاقى معه فى المعنى ، والمأخوذ من قوله { لِيُقَرِّبُونَآ } . أى : لله - تعالى - وحده الدين الخالص ، والمشركون الذين اتخذوا معبودات باطلة ليعبدوها من دون الله ، كانوا يقولون فى الرد على من ينهاهم عن ذلك : إننا لا نعبد هذه المعبودات إلا من أجل أن نتوسل بها ، لكى تقربنا إلى الله قربى ، ولتكون شفيعة لنا عنده حتى يرفع عنا البلاء والمحن .
{ إِنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ } أى : بين هؤلاء المشركون وبين غيرهم من المؤمنين الذين أخلصوا لله - تعالى -العبادة والطاعة { فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } من أمر التوحيد والشرك ، بأن يجازى المؤمنين بحسن الثواب ، ويجازى الكافرين بسوء العقاب .
{ إِنَّ الله } - تعالى - { لاَ يَهْدِي } أى : لا يوفق للاهتداء للحق
{ مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ } : أى : من كان دائم الكذب على دين الله ، شديد الجحود لآيات الله وبراهينه الدالة على وحدانيته ، وعلى أنه لا رب لهذا الكون سواه .
قال قتادة في قوله : { أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } شهادة أن لا إله إلا الله . ثم أخبر تعالى عن عُبّاد الأصنام من المشركين أنهم يقولون : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } أي : إنما يحملهم على عبادتهم لهم أنهم عمدوا إلى أصنام اتخذوها على صور الملائكة المقربين في زعمهم ، فعبدوا تلك الصور تنزيلا لذلك منزلة عبادتهم الملائكة ؛ ليشفعوا لهم عند الله في نصرهم ورزقهم ، وما ينوبهم من أمر الدنيا ، فأما المعاد فكانوا جاحدين له كافرين به .
قال قتادة ، والسدي ، ومالك عن زيد بن أسلم ، وابن زيد : { إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } أي : ليشفعوا لنا ، ويقربونا عنده منزلة .
ولهذا كانوا يقولون في تلبيتهم إذا حجوا في جاهليتهم : " لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك " . وهذه الشبهة هي التي اعتمدها المشركون في قديم الدهر وحديثه ، وجاءتهم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، بردها والنهي عنها ، والدعوة إلى إفراد العبادة لله وحده لا شريك له ، وأن هذا شيء اخترعه المشركون من عند أنفسهم ، لم يأذن الله فيه ولا رضي به ، بل أبغضه ونهى عنه : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } [ النحل : 36 ]{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [ الأنبياء : 25 ] .
وأخبر أن الملائكة التي في السموات من المقربين وغيرهم ، كلهم عبيد خاضعون لله ، لا يشفعون عنده إلا بإذنه لمن ارتضى ، وليسوا عنده كالأمراء عند ملوكهم ، يشفعون عندهم بغير إذنهم فيما أحبه الملوك وأبوه ، { فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأمْثَالَ } [ النحل : 74 ] ، تعالى الله عن ذلك .
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ } أي : يوم القيامة ، { فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } أي : سيفصل بين الخلائق يوم معادهم ، ويجزي كل عامل بعمله ، { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ } [ سبأ : 41 ، 40 ] .
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ } أي : لا يرشد إلى الهداية من قصده الكذب والافتراء على الله ، وقلبه كفار يجحد بآياته وحججه وبراهينه .
{ ألا لله الدين الخالص } أي : ألا هو الذي وجب اختصاصه بأن يخلص له الطاعة ، فإنه المتفرد بصفات الألوهية والاطلاع على الأسرار والضمائر . { والذين اتخذوا من دونه أولياء } يحتمل المتخذين من الكفرة والمتخذين من الملائكة وعيسى والأصنام على حذف الراجع وإضمار المشركين من غير ذكر لدلالة المساق عليهم ، وهو مبتدأ خبره على الأول . { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } بإضمار القول . { إن الله يحكم بينهم } وهو متعين على الثاني ، وعلى هذا يكون القول المضمر بما في حيزه حالا أو بدلا من الصلة و { زلفى } مصدر أو حال ، وقرئ " قالوا ما نعبدهم " و " ما نعبدكم إلا ليقربونا إلى الله " حكاية لما خاطبوا به آلهتهم و { نعبدهم } بضم النون اتباعا . { في ما هم فيه يختلفون } من الدين بإدخال المحق الجنة والمبطل النار والضمير للكفرة ومقابليهم ، وقيل لهم ولمعبوديهم فإنهم لا يرجون شفاعتهم وهم يلعنونها . { إن الله لا يهدي } لا يوفق للاهتداء إلى الحق . { من هو كاذب كفار } فإنهما فاقدا البصيرة .
وقوله تعالى : { ألا لله الدين الخالص } بمعنى من حقه ومن واجباته لا يقبل غير هذا ، وهذا كقوله : { لله الحمد } [ الجاثية : 36 ] ، أي واجباً ومستحقاً . قال قتادة : { الدين الخالص } ، لا إله إلا الله .
وقوله تعالى : { والذين اتخذوا } رفع بالابتداء ، وخبره في المحذوف المقدر ، تقديره : يقولون ما نعبدهم ، وفي مصحف ابن مسعود : «قالوا ما نعبدهم » ، وهي قراءة ابن عباس ومجاهد وابن جبير . و : { أولياء } يريد بذلك معبودين ، وهذه مقالة شائعة في العرب ، يقول كثير منهم في الجاهلية : الملائكة بنات الله ونحن نعبدهم ليقربونا ، وطائفة منهم قالت ذلك في أصنامهم وأوثانهم . وقال مجاهد : قد قال ذلك قوم من اليهود في عزير ، وقوم من النصارى في عيسى ابن مريم . وفي مصحف أبي بن كعب : «ما نعبدكم » بالكاف «إلا لتقربونا » بالتاء . و { زلفى } بمعنى قربى وتوصلة ، كأنه قال : لتقربونا إلى الله تقريباً ، وكأن هذه الطوائف كلها كانت ترى نفوسها أقل من أن تتصل هي بالله ، فكانت ترى أن تتصل بمخلوقاته .
و { زلفى } عند سيبويه مصدر في موضع الحال ، كأنه ينزل منزلة متزلفين ، والعامل فيه { ليقربونا } هذا مذهب سيبويه وفيه خلاف ، وباقي الآية وعيد في الدنيا والآخرة .
قوله عز وجل : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ } : هذه الآية إما أن يكون معناها أن الله لا يهدي الكاذب الكفار في حال كذبه وكفره ، وإما أن يكون لفظها العموم ومعناها الخصوص فيمن ختم الله عليه بالكفر وقضى في الأزل أنه لا يؤمن أبداً ، وإلا فقد وجد الكاذب الكفار قد هدى كثيراً .
وقرأ أنس بن مالك والجحدري : «كذب كفار » بالمبالغة فيهما ، ورويت عن الحسن والأعرج ويحيى بن يعمر ، وهذه المبالغة إشارة إلى المتوغل في الكفر ، القاسي فيه الذي يظن به أنه مختوم عليه .