وبعد أن ذكر - سبحانه - عباده المؤمنين بما حباهم به من منن في عزوة بدر ، ليستمروا على طاعتهم له ولرسوله . . أتبع ذلك بتوجيه الخطاب إلى الكافرين الذين حملهم الرسوخ في الكفر على أن يدعو الله أن يجعل الدائرة في بدر على أضل الفريقين فقال - تعالى - : { إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ الله مَعَ المؤمنين } .
روى الإِمام أحمد والنسائى والحاكم وصححه ، عن ثعلبة ، أن أبا جهل قال حين التقى القوم - في بدر - : اللهم أقطعنا للرحم ، وأتانا بما لا نعرفه ، فأحنه - أي فأهلكه - الغداة . فكان المستفتح .
وعن السدى أن المشركين حين خرجوا من مكة إلى بدر أخذوا بأستار الكعبة فاستنصروا الله وقالوا : اللهم انصر أهدى الجندين ، وأكرم الفئتين ، وخير القبيلتين . فقال - تعالى - { إِن تَسْتَفْتِحُواْ . . . } الآية .
قال الراغب : وقوله : { إِن تَسْتَفْتِحُواْ } أى : إن طلبتم الظفر ، أو طلبتم لافتاح أي الحكم . . والفتح إزالة الإِغلاق والإِشكال . . ويقال : فتح القضية فتاحا . أي فصل الأمر فيها وأزال الإِغلاق عنها . قال - تعالى - : { وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ . . . } والمعنى : إن تطلبوا الفتح أى : القضاء والفصل بينكم وبين أعدائكم المؤمنين { فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح } أى : فقد جاءكم الفصل والقضاء فيما طلبتم حيث حكم الله وقضى بينكم وبين المؤمنين ، بأن أعزهم ونصرهم لأنهم على الحق ، وخذلكم وأذلكم لأنكم على الباطل .
فالخطاب مسوق للكفارين على سبيل التهكم بهم ، والتوبيخ لهم ، حيث طلبوا من الله - تعالى - القضاء بينهم وبين المؤمنين ، والنصر عليهم ، فكان الأمر على عكس ما أرادوا حيث حكم الله فيهم بحكمه العادل وهو خذلانهم لكفرهم وجحودهم ، وإعلاء كلمة المؤمنين ، لأنهم على الطريق القويم .
وقوله : { وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } أى : وأن تنتهوا عن الكفر وعداوة الحق ، يكن هذا الانتهاء خيراً لكم من الكفر ومحاربة الحق .
وقوله : { وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ . . . } تحذير لهم من التمادى في الباطل بعد ترغيبهم في الانقياد للحق .
أى : { وَإِن تَعُودُواْ } إلى محاربة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين وعداوتهم { نَعُدْ } عليكم بالهزيمة والذلة . وعلى المؤمنين بالنصر والعزة ، ولن تستطيع فئتكم وجماعتكم - ولو كثرت - أن تدفع عنكم شياً من تلك الهزيمة وهذه الذلة ، فإن الكثرة والقوة لا وزن لها ولا قيمة إذا لم يكن الله مع أصحابها بعونه وتأييده .
وقوله : { وَأَنَّ الله مَعَ المؤمنين } تذييل قصد به تثبيت المؤمنين ، وإلقاء الطمأنينة في نفوسهم .
أى : وأن الله مع المؤمنين بعونه وتأييده ، ومن كان الله معه فلن يغلبه غالب مهما بلغت قوته .
قال الجمل : " قرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم بفتح " أن " والباقون بكسرها فالفتح من أوجه :
أحدها : أنه على لام العلة والمعلل تقديره ، ولأن الله مع المؤمنين كان كيت وكيت .
والثانى : أن التقدير : ولأن الله مع المؤمنين امتنع عنادهم . والثالث أنه خبر مبتدأ محذوف . أى : والأمر أن الله مع المؤمنين .
والوجه الأخير يقرب في المعنى من قراءة الكسر لأنه استئناف .
هذا وما جرينا عليه من أن الخطاب في قوله - تعالى - { إِن تَسْتَفْتِحُواْ .
. } للمشركين هو رأى جمهور المفسرين .
ومنهم من يرى أن الخطاب في الآية الكريمة للمؤمنين ، وعليه يكون المعنى : { إِن تَسْتَفْتِحُواْ . . . } أي تطلبوا - أيها المؤمنون - النصر على أعدائكم { فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح } أى : فقد جاءكم النصر من عند الله كما طلبتم .
{ وَإِن تَنتَهُواْ } أي عن المنازعة في أمر الانفال ، وعن التكاسل في طاعة الله ورسوله ، { فَهُوَ } أي هذا الانتهاء { خَيْرٌ لَّكُمْ } .
{ وَإِن تَعُودُواْ } إلى المنازعات والتكاسل { نَعُدْ } عليكم بالإِنكار وتهييج الأعداء .
{ وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ } أى : ولن تفيدكم كثرتكم شيئاً مهما كثرت إن لم يكن الله معكم بنصره .
وأن الله - تعالى - مع المؤمنين الصادقين في إيمانهم وطاعتهم له .
والذى يبدو لنا أن كون الخطاب للكافرين أرجح ، لأن أسباب النزول تؤيده ، فقد سبق أن بينا أن الكافرين عند خروجهم إلى بدر تعلقوا بأستار الكعبة وقالوا : اللهم انصر اهدى الجندين . . وأن أبا جهل قال حين التقى القوم :
اللهم أينا أقطع للرحم . . فأحنه الغداة . قال ابن جرير : فكان ذلك استفتاحه ، فأنزل الله في ذلك { إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح . . } .
ولعل مما يرجح أن الخطاب في قوله - تعالى - { إِن تَسْتَفْتِحُواْ . . . } للكافرين ، أن بعض المفسرين - كان جرير وابن كثير - ساروا في تفسيرهم للآية على ذلك ، وأهملوا الرأى القائل بأن الخطاب للمؤمنين فلم يذكروه أصلا .
أما صاحب الكشاف فقد ذكره بصيغة " وقيل " وصدر كلامه بكون الخطاب للكافرين فقال : قوله - تعالى - : { إِن تَسْتَفْتِحُواْ . . } خطاب لأهل مكة على سبيل التهكم . وذلك أنهم حين أرادوا أن ينفروا تعلقوا بأستار الكعبة وقالوا : اللهم انصر أقرانا للضيف ، وأوصلنا للرحم ، وأفكنا للعانى . . .
وبذلك نرى هذه الآيات الكريمة التي افتتحت بنداء المؤمنين ، قد أمرتهم بالثبات عند لقاء الأعداء . . وبينت لهم جوانب من مظاهر فضل الله عليهم ، ورعايته لهم . . وغربت المشركين في الانتهاء عن شركهم وعن محاربتهم للحق ، وحذرتهم من التمادى في باطلهم وطغيانهم . . وأخبرتهم في ختامها بأن الله - تعالى - مع المؤمنين بتأييده ونصره .
يقول تعالى للكفار { إِنْ تَسْتَفْتِحُوا } أي : تستنصروا وتستقضوا الله وتستحكموه أن يفصل بينكم وبين أعدائكم المؤمنين ، فقد جاءكم ما سألتم ، كما قال محمد بن إسحاق وغيره ، عن الزهري ، عن عبد الله بن ثعلبة بن صُغَيْر ؛ أن أبا جهل قال يوم بدر : اللهم أَقْطَعُنَا للرحم وآتانا بما لا نعرف{[12782]} فأحنه الغداة - وكان ذلك استفتاحا منه - فنزلت : { إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ } إلى آخر الآية .
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد - يعني ابن هارون - أخبرنا محمد بن إسحاق ، حدثني الزهري ، عن عبد الله بن ثعلبة : أن أبا جهل قال حين التقى القوم : اللهم ، أقطعنا للرحم ، وآتانا بما لا نعرف ، فأحنه الغداة ، فكان المستفتح .
وأخرجه النسائي في التفسير من حديث ، صالح بن كيسان ، عن الزهري ، به وكذا رواه الحاكم في مستدركه من طريق الزهري ، به{[12783]} وقال : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه . وروي [ نحو ]{[12784]} هذا عن ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، ويزيد بن رُومَان ، وغير واحد .
وقال السُّدِّي : كان المشركون حين خرجوا من مكة إلى بَدْر ، أخذوا بأستار الكعبة فاستنصروا الله وقالوا : اللهم انصر أعلى الجندين ، وأكرم الفئتين ، وخير القبيلتين . فقال الله : { إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ } يقول : قد نصرت ما قلتم ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هو قوله تعالى إخبارا عنهم : { وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ [ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ] } [ الأنفال : 32 ] . {[12785]}
وقوله : { وَإِنْ تَنْتَهُوا } أي : عما أنتم فيه من الكفر بالله والتكذيب لرسوله ، { فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } أي : في الدنيا والآخرة . [ وقوله ]{[12786]} { وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ } كقوله{[12787]} { وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا } [ الإسراء : 8 ]معناه : وإن عدتم إلى ما كنتم فيه من الكفر والضلالة ، نعد لكم بمثل هذه الواقعة .
وقال السدي : { وَإِنْ تَعُودُوا } أي : إلى الاستفتاح { نعد } إلى الفتح لمحمد صلى الله عليه وسلم ، والنصر له ، وتظفيره على أعدائه ، والأول أقوى .
{ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ } أي : ولو جمعتم من الجموع ما عسى أن تجمعوا ، فإن من كان الله معه فلا غالب له ، فإن الله مع المؤمنين ، وهم الحزب النبوي ، والجناب المصطفوي .
{ إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح } خطاب لأهل مكة على سبيل التهكم ، وذلك أنهم حين أرادوا الخروج تعلقوا بأستار الكعبة وقالوا : اللهم انصر أعلى الجندين وأهدى الفئتين وأكرم الحزبين . { وإن تنتهوا } عن الكفر ومعاداة الرسول { فهو خير لكم } لتضمنه سلامة الدارين وخير المنزلين . { وإن تعودوا } لمحاربته . { نعد } لنصرته عليكم . { ولن تغني } ولن تدفع . { عنكم فئتكم } جماعتكم . { شيئا } من الإغناء أو المضار . { لو كثرت } فئتكم . { وأن الله مع المؤمنين } بالنصر والمعونة . وقرأ نافع وابن عامر وحفص { وأن } بالفتح على تقدير ولأن الله مع المؤمنين كان ذلك . وقيل الآية خطاب للمؤمنين والمعنى : أن تستنصروا فقد جاءكم النصر ، وإن تنتهوا عن التكاسل في القتال والرغبة عما يستأثره الرسول فهو خير لكم وإن تعودوا إليه نعد عليكم بالإنكار أو تهييج العدو ، ولن تغني حينئذ كثرتكم إذا لم يكن الله معكم بالنصر فإنه مع الكاملين في إيمانهم ويؤيد ذلك : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولّوا عنه } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح}، وذلك أن عاتكة بنت عبد المطلب رأت في المنام، كأن فارسا دخل المسجد الحرام، فنادى: يا آل فهر من قريش، انفروا في ليلة أو ليلتين، ثم صعد فوق الكعبة، فنادى مثلها، ثم صعد أبا قبيس، فنادى مثلها، ثم نقض صخرة من الجبل فرفعها المنادى، فضرب بها الجبل فانفلقت، فلم يبق بيت بمكة إلا دخلت قطعة منه فيه، فلما أصبحت أخبرت أخاها العباس وجلا، وعنده أبو جهل ابن هشام، فقال أبو جهل: يا آل قريش، ألا تعذرونا من بنى عبد المطلب، إنهم لا يرضون أن تنبأ رجالهم حتى تنبأت نساؤهم، ثم قال أبو جهل للعباس: تنبأت رجالكم وتنبأت نساؤكم، والله لتنتهن، وأوعدهم، فقال العباس: إن شئتم ناجزناكم الساعة. فلما قدم ضمضم بن عمرو الغفاري، قال: أدركوا العير أو لا تدركوا، فعمد أبو جهل وأصحابه، فأخذوا بأستار الكعبة، ثم قال أبو جهل: اللهم انصر أعلى الجندين وأكرم القبيلتين، ثم خرجوا على كل صعب وذلول ليعينوا أبا سفيان، فترك أبو سفيان الطريق وأغز على ساحل البحر، فقدم مكة وسبق أبو جهل النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المشركين إلى ماء بدر، فلما التقوا، قال أبو جهل: اللهم اقض بيننا وبين محمد، اللهم أينا كان أحب إليك وأرضى عندك فانصره، ففعل الله عز وجل ذلك، وهزم المشركين وقتلهم ونصر المؤمنين. فأنزل الله في قول أبي جهل: {إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح}، يقول: إن تستنصروا فقد جاءكم النصر، فقد نصرت من قلتم، {وإن تنتهوا فهو خير لكم} من القتال، {وإن تعودوا} لقتالهم، {نعد} عليكم بالقتل والهزيمة بما فعلنا ببدر، {ولن تغني عنكم فئتكم شيئا} يعنى جماعتكم شيئا {ولو كثرت} فئتكم، {وأن الله مع المؤمنين} [آية: 19] في النصر لهم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره للمشركين الذين حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر:"إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ" يعني: إن تستحكموا الله على أقطع الحزبين للرحم وأظلم الفئتين، وتستنصروه عليه، فقد جاءكم حكم الله ونصره المظلوم على الظالم، والمحقّ على المبطل... عن الضحاك: "إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ "قال: إن تستقضوا فقد جاءكم القضاء...
عن الزهري: "إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ" قال: استفتح أبو جهل، فقال: اللهمّ -يعني محمدا ونفسه- أينا كان أفجر لك اللهمّ وأقطع للرحم فأَحِنْهُ اليوم. قال الله: "إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ"...
عن الزهريّ، عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير، قال: كان المستفتح يوم بدر أبا جهل، قال: اللهمّ أقطعنا للرحم، وآتانا بما لا نعرف، فأحنه الغداة فأنزل الله: "إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ"... فكان هو المستفتح على نفسه.
قال ابن إسحاق:... الاستفتاح: الإنصاف في الدعاء...
وأما قوله: "وَإنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ" فإنه يقول: وإن تنتهوا يا معشر قريش وجماعة الكفار عن الكفر بالله ورسوله، وقتال نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به، فهو خير لكم في دنياكم وآخرتكم. "وَإنْ تَعُودُوا نَعُدْ" يقول: وإن تعودوا لحربه وقتاله وقتال أتباعه المؤمنين، نَعُدْ: أي بمثل الواقعة التي أُوقعت بكم يوم بدر.
وقوله: "وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئا وَلَوْ كَثُرَتْ" يقول: وإن تعودوا نعد لهلاككم بأيدي أوليائي وهزيمتكم، ولن تغني عنكم عند عودي لقتلكم بأيديهم وسبيكم وهزمكم فئتكم شيئا ولو كثرت، يعني جندهم وجماعتهم من المشركين، كما لم يغنوا عنهم يوم بدر مع كثرة عددهم وقلة عدد المؤمنين شيئا. "وأنّ اللّهَ مَعَ المُؤْمِنِينَ" يقول جلّ ذكره: وأن الله مع من آمن به من عباده على من كفر به منهم، ينصرهم عليهم، أو يظهرهم كما أظهرهم يوم بدر على المشركين...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وقوله تعالى: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) الاستفتاح يحتمل وجوها ثلاثة: يحتمل الاستكشاف وطلب البيان، ويكون طلب الحكم والقضاء بين الحق والباطل؛ يقال: فتح بكذا أي حكم به، وقضى فهو يخرج على وجهين: على طلب بيان المحق من المبطل وطلب بيان أحق الدينين بالنصر والحكم...
فقد بين الله عز وجل أحق الدينين وأعز الجندين لما هزم المشركين مع قوتهم وعدتهم وكثرة عددهم بفئة ضعيفة ذليلة قليلة العدد وضعيفة الأبدان والأسباب. دل أنه قد بين لهم الأحق من غيره...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قال بعض المتأولين: هذه الآية مخاطبة للمؤمنين الحاضرين بوم بدر، قال الله لهم: {إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح} وهو الحكم بينكم وبين الكافرين فقد جاءكم، وقد حكم الله لكم، {وإن تنتهوا} عما فعلتم من الكلام في أمر الغنائم وما شجر بينكم فيها وعن تفاخركم بأفعالكم من قتل وغيره فهو خير لكم {وإن تعودوا} لهذه الأفعال نعد لتوبيخكم، ثم أعلمهم أن الفئة وهي الجماعة لا تغني وإن كثرت إلا بنصر الله تعالى ومعونته، ثم أنسهم بقوله وإيجابه، أنه مع المؤمنين. وقال أكثر المتأولين: هذه الآية مخاطبة للكفار أهل مكة...
وقالت فرقة من المتأولين: قوله {وإن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح}، هي مخاطبة للمؤمنين، وسائر الآية مخاطبة للمشركين، كأنه قال وأنتم إن تنتهوا فهو خير لكم...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ذكر محمد بن إسحاق وعروة عن الزهري عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير أن أبا جهل قال يوم بدر: اللهم أينا كان أقطع للرحم وأتى بما لا يعرف فأحنه الغداة. فكان ذلك استفتاحا منه. رواه عنه أحمد ورواه النسائي في التفسير والحاكم في المستدرك عن الزهري، وروي مثله عن ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة وغيرهم. وقال السدي كان المشركون حين خرجوا من مكة إلى بدر أخذوا بأستار الكعبة فاستنصروا الله وقالوا: اللهم أنصر أعلى الجندين، وأكرم الفئتين، وخير القبيلتين، فقال الله: {إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح} يقول قد نصرت ما قلتم وهو محمد صلى الله عليه وسلم، وفي رواية أن أبا جهل قال حين التقى الجمعان: اللهم رب ديننا القديم ودين محمد الحديث فأي الدينين كان أحب إليك وأرضى عندك فانصر أهله اليوم. فالفتح هو نصر النبي ودينه وأتباعه. وهذا يدل على أن أبا جهل كان مغرورا بشركه واثقا بدينه ولم يكن أكثر أكابر مجرمي مكة كذلك بل كان كفرهم عن كبر وعلو وحسد للنبي صلى الله عليه وسلم.
{وإن تنتهوا فهو خير لكم} أي وإن تنتهوا عن عداوة النبي صلى الله عليه وسلم وقتاله فالانتهاء خير لكم لأنكم لا تكونون إلا مغلوبين مخذولين كقوله: {قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد} [آل عمران: 12] والخيرية في هذه الحالة بالإضافة إلى الاستمرار على العدوان والقتال، ويحتمل أن يراد به الانتهاء عن الشرك فتكون الخيرية على حقيقتها وكمالها.
{وإن تعودوا نعد} أي وإن تعودوا إلى مقاتلته نعد لما رأيتم من الفتح له عليكم حتى يجيء الفتح الأعظم الذي يذل فيه شرككم، وتدول الدولة للمؤمنين عليكم {ولن تغني عنكم شيئا ولو كثرت} أي ولن تدفع عنكم جماعتكم من المشركين شيئا من بأس الله وبطشه ولو كثرت عددا فالكثرة لا تكون سببا للنصر، إلا إذا تساوت مع القلة في الثبات والصبر، والثقة بالله عز وجل {وأن الله مع المؤمنين} بالمعونة والولاية والتوفيق فلا تضرهم قلتهم. قرأ نافع وابن عامر (وأن) وحفص بفتح الهمزة بتقدير اللام أي ولأن الله مع المؤمنين كان الأمر ما ذكره، وقرأها الباقون بالكسر على الاستئناف.
وقيل إن الخطاب في الآية للمؤمنين كسابقه ولاحقه والمعنى: إن تستنصروا ربكم وتستغيثون عند شعوركم بالضعف والقلة فقد جاءكم النصر وإن تنتهوا عن التكاسل في القتال والرغبة عما يأمر به الرسول ومجادلته في الحق بعد ما تبين فهو خير لكم. وإن تعودوا إليه نعد عليكم بالإنكار أو تهييج العدو، ولن تغني عنكم كثرتكم إذا لم يكن الله معكم بالنصر، فها نحن أولاء قد نصرناكم على قلتكم وضعفكم. هذا أقوى من كل ما رأيناه في تصوير المعنى فأكثر ما قالوه ظاهر التكلف، ولولا السياق لكان المعنى الأول أرجح لأنه أظهر.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
..."وأن الله مع الْمؤمنين". ومن كان اللّه معه فهو المنصور وإن كان ضعيفا قليلا عدده، وهذه المعية التي أخبر اللّه أنه يؤيد بها المؤمنين، تكون بحسب ما قاموا به من أعمال الإيمان. فإذا أديل العدو على المؤمنين في بعض الأوقات، فليس ذلك إلا تفريطا من المؤمنين وعدم قيام بواجب الإيمان ومقتضاه، وإلا فلو قاموا بما أمر اللّه به من كل وجه، لما انهزم لهم راية [انهزاما مستقرا] ولا أديل عليهم عدوهم أبدا.