ثم حكى - سبحانه - ما رد به قوم نوح عليه فقال : { فَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرأي وَمَا نرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ } .
والمراد بالملأ : أصحاب الجاه والغنى من قوم نوح . وهذا اللفظ اسم جميع لا واحد له من لفظه كرهط وهو - كما يقول الآلوسى - : مأخوذ من قولهم فلان ملئ بكذا : إذا كان قادرا عليه . . . أو لأنهم متمالئون أى متظاهرون متعاونون ، أو لأنهم يملأون القلوب والعيون . . .
ووصفهم بالكفر ، لتسجيل ذلك عليهم من أول الأمر زيادة فى ذمهم .
أى : بعد هذا النصح الحكيم الذى وجهه نوح - عليه السلام - لقومه ، رد عليه أغنياؤهم وسادتهم بقولهم { مَا نَرَاكَ } يا نوح إلا بشر مثلنا ، أى : إلا إنسانا مثلنا ، ليست فيك مزية تجعلك مختصا بالنبوة دوننا . . .
فهم - لجهلهم وغبائهم - توهموا أن النبوة لا تجامع البشرية ، مع أن الحكمة تقتضى أن يكون الرسول بشرا من جنس المرسل إليهم ، حتى تتم فائدة التفاهم معه ، والاقتداء به فى أخلاقه وسلوكه .
وقد حكى القرآن قولهم هذا فى أكثر من موضع ، ومن ذلك قوله - تعالى - { وَقَالَ الملأ مِن قَوْمِهِ الذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِلِقَآءِ الآخرة وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الحياة الدنيا مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ . وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ . . . } ثم إنهم فى التعليل لعدم اتباع نبيهم لم يكتفوا بقولهم ما نراك إلا بشر مثلنا : بل أضافوا إلى ذلك قولهم : { وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرأي } ومرادهم بقولهم : { أَرَاذِلُنَا } أى فقراؤنا ومن لا وزن لهم فينا .
قال الجمل : ولفظ { أَرَاذِلُنَا } فيه وجهان : أحدهما أنه جميع الجمع فهو جمع أرذل - بضم الذال - جمع رذل - بسكونها - نحو كلب وأكلب وأكالب . . .
ثانهيما : أنه جمع مفرد وهو أرذل كأكبر وأكابر . . والأرذل هو المغروب عنه لرداءته .
ومرادهم بقولهم : { بَادِيَ الرأي } أى : أوله من البدء . يقال : بدأ يبدأ إذا فعل الشئ أولا وعليه تكون الياء مبدلة من الهمزة لانكسار ما قبلها ويؤيده قراءة أبى عمرو " بادئ الرأى " .
أى : وما نراك اتبعك يا نوح إلا الذين هم أقلنا شأنا وأحقرنا حالا من غير أن يثبتوا من حقيقة أمرك ، ولو تثبتوا وتفكروا ما اتبعوك ويصح أن يكون مرادهم بقولهم { بَادِيَ الرأي } أى اتبعوك ظاهرا لا باطنا ، ويكون لفظ { بادى } من البدو بمعنى الظهور . يقال : بدا الشئ يبدو بدواً وبُدوءاً وبداء أى ظهور وعليه يكون المعنى : وما نراك اتبعك يا نوح إلا الذين هم أهوننا أمرا ، ومع ذلك فإن اتباعهم لك إنما هو فى ظاهر أمرهم ، أما بواطنهم فهى تدين بعقيدتنا .
وشبيه بهذه الجملة قوله - تعالى - { قالوا أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون } قال صاحب الكشاف : وإنما استرذلوا المؤمنين لفقرهم وتأخرهم فى الأسباب الدنيوية لأنهم أى الملأ من قوم نوح - كانوا جهالا ما كانوا يعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا فكان الأشرف عندهم من له جاه ومال كما ترى أكثر المتسمين بالإِسلام ، يعقتدون ذلك ويبنون عليه إكرامهم وإهانتهم ، ولقد زال عنهم أن التقدم فى الدنيا - مع ترك الآخرة - لا يقرب أحدامن الله وإنما يبعده ، ولا يرفعه بل يضعه ، فضلا عن أن يجعله سببا فى الاختيار للنبوة والتأهيل لها . . .
ثم أضافوا إلى مزاعمهم السابقة زعما جديدا فقالوا : { وَمَا نرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ } .
والفضل : الزيادة فى الشرف والغنى وغيرهما مما يتميز به الإنسان عن غيره .
والمراد هنا : آثاره التي تدل عليه .
أى : أنت يا نوح ليست إلا بشرا مثلنا ، وأتباعك هم أحقرنا شأنا ، وما نرى لك ولمتبعيك شيئا من الزيادة علينا لا فى العقل ولا فى غيره ، بل إننا لنعتقد أنكم كاذبون فى دعواكم أنكم على الحق ، لأن الحق فى نظرنا هو فى عبادة هذه الأصنام التى عبدها من قبلنا آباؤنا .
وهكذا نرى أن الملأ من قوم نوح - عليه السلام - قد عللوا كفرهم بما جاءهم به بثلاث علل ، أولها : أنه بشر مثلهم وثانيها : أن أتباعه من فقرائهم وثالثها : أنه لا مزية له ولأتباعه عليهم . .
وهى كلها علل باطلة ، تدل على جهلهم ، وانطماس بصيرتهم ، ويدل على ذلك ، رد نوح - عليه السلام - الذى حكاه القرآن فى قوله - تعالى - :
{ قَالَ ياقوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةٍ . . . } .
{ فَقَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ } والملأ هم : السادة والكبراء من الكافرين منهم : { مَا نَرَاكَ إِلا بَشَرًا مِثْلَنَا } أي : لست بملك ، ولكنك بشر ، فكيف أوحي إليك من دوننا ؟ ثم ما نراك{[14559]} اتبعك إلا أراذلنا{[14560]} كالباعة والحاكة وأشباههم ولم يتبعك الأشراف ولا الرؤساء [ منا ]{[14561]} ثم هؤلاء الذين اتبعوك لم يكن عن تَرَوّ منهم ولا فكرة ولا نظر ، بل بمجرد ما دعوتهم أجابوك فاتبعوك{[14562]} ؛ ولهذا قال : { وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ } أي : في أول بادئ الرأي ، { وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ } يقولون : ما رأينا لكم علينا فضيلة في خَلْق ولا خُلُق ، ولا رزق ولا حال ، لَمَّا دخلتم في دينكم هذا ، { بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ } أي : فيما تَدَّعونه{[14563]} لكم من البر والصلاح والعبادة ، والسعادة في الدار الآخرة إذا صرتم إليها .
هذا اعتراض الكافرين على نوح ، عليه السلام ، وأتباعه ، وذلك دليل على جهلهم وقلة علمهم وعقلهم ، فإنه ليس بعار على الحق رَذَالة من اتبعه ، فإن الحق في نفسه صحيح ، وسواء اتبعه الأشراف أو الأراذل{[14564]} بل الحق الذي لا شك فيه أن أتباع الحق هم الأشراف ، ولو كانوا فقراء ، والذين يأبونه هم الأراذل ، ولو كانوا أغنياء . ثم الواقع غالبا أن ما يتبع الحق ضعفاء الناس ، والغالب على الأشراف والكبراء مخالفته ، كما قال تعالى : { وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ } [ الزخرف : 23 ] ، {[14565]} ولما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان صخر بن حرب عن صفات النبي صلى الله عليه وسلم ، قال له فيما قال : أشراف الناس اتبعوه أو ضعفاؤهم ؟ قال : بل ضعفاؤهم . فقال هرقل : هم أتباع الرسل .
وقولهم{[14566]} { بَادِيَ الرَّأَي } ليس بمذمة ولا عيب ؛ لأن الحق إذا وضح لا يبقى للتروي{[14567]} ولا للفكر مجال ، بل لا بد من اتباع الحق والحالة هذه لكل ذي زكاء وذكاء ولا يفكر وينزوي هاهنا إلا عَيِيّ أو غبي{[14568]} . والرسل ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، إنما جاءوا بأمر جلي واضح .
وقد جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما دعوت أحدًا إلى الإسلام إلا كانت له كَبْوَة ، غير أبي بكر ، فإنه لم يَتَلَعْثَم " {[14569]} أي : ما تردد ولا تروَّى ، لأنه رأى أمرا جليا عظيما واضحا ، فبادر إليه وسارع .
وقولهم : { وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ } هم لا يرون ذلك ؛ لأنهم عُمْي عن الحق ، لا يسمعون ولا يبصرون : بل هم في ريبهم يترددون ، في ظلمات الجهل يعمهون ، وهم الأفاكون الكاذبون ، الأقلون الأرذلون ، وفي الآخرة هم الأخسرون .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فقال الملأ}: الأشراف {الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا}، يعني إلا آدميا مثلنا لا تفضلنا بشيء، {وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا}، يعني الرذالة من الناس السفلة... {وما نرى لكم علينا من فضل} في ملك ولا مال ولا شيء فنتبعك، يعنون نوحا، {بل نظنكم}، يعني نحسبك من ال {كاذبين} حين تزعم أنك رسول نبي...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فقال الكبراء من قوم نوح وأشرافهم، وهم الملأ الذين كفروا بالله وجحدوا نبوّة نبيهم نوح عليه السلام:"ما نَرَاكَ" يا نوح "إلاّ بَشَرا مِثْلَنا "يعنون بذلك أنه آدميّ مثلُهم في الخلق والصورة والجنس، كأنهم كانوا منكرين أن يكون الله يرسل من البشر رسولاً إلى خلقه.
وقوله: "وَما نَرَاكَ اتّبَعَكَ إلاّ الّذِينَ هُمْ أرَاذِلُنا بادِيَ الرأيِ" يقول: وما نراك اتبعك إلا الذين هم سَفلتنا من الناس دون الكبراء والأشراف فيما يُرَى ويظهر لنا...
وقوله: "وَما نَرَى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ" يقول: وما نتبين لكم علينا من فضل نلتموه بمخالفتكم إيانا في عبادة الأوثان إلى عبادة الله وإخلاص العبودة له، فنتبعكم طلب ذلك الفضل وابتغاء ما أصبتموه بخلافكم إيانا، "بَلْ نَظُنّكُمْ كاذِبِينَ" وهذا خطاب منهم لنوح عليه السلام، وذلك أنهم إنما كذّبوا نوحا دون أتباعه، لأن أتباعه لم يكونوا رسلاً، وأخرج الخطاب وهو واحد مخرج خطاب الجميع، كما قيل: "يا أيّها النّبِيّ إذا طَلّقْتُمُ النّساءَ"، وتأويل الكلام: بل نظنك يا نوح في دعواك أن الله ابتعثك إلينا رسولاً كاذبا...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(فَقَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) قيل: أشراف قومه وأئمتهم (ما نراك إلا بشرا مثلنا) وكذلك قال عامة القوم لرسلهم الذين بعثوا إليهم (ما أنتم إلا بشر مثلنا) [يس: 15] كان هذا احتجاجهم في رد الرسالة يحتجون على الرسل فيقول، والله أعلم إن الرسل في الشاهد إنما يجيئون من عند المرسل، وأنتم نشأتم من بين أظهرنا لم تأتونا من أحد في الظاهر، والرسول هو الذي يأتي من عند غيرٍ، ويكون للرسل خصوصية عند المرسل، ولا نرى لك خصوصية لا في الخلقة ولا في القدرة والمال وغيره. فكيف بعثتم إلينا رسلا دون أن نبعث نحن إليكم رسلا إذ أنتم ونحن في الخلقة سواء، وفي الأمور الظاهرة سواء، أو نحوه من الكلام...
(وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِي الرَّأْيِ) احتجوا أيضا في رد الرسالة يقولون: إن الأراذل هم أتباع لكل من دعاهم، وأهل طاعة لكل متبوع، فليس في اتباع الأراذل إياك والضعفاء دلالة ثبوت رسالتك؛ إذ هم يتبعون بلا دليل ولا حجة، وهم فروع وأتباع لغير، ولم يتبعك أحد من الأصول. لكن يقال: إن هؤلاء الأراذل لما اتبعوا الرسل ولم يتبعوا الأئمة والرؤساء الذين معهم الأموال والدنيا، ولم يكن في أيدي الرسل ثم ذلك، ثم تركوا اتباع أولئك وفي أيديهم ما يدعوهم إليه واتبعوا الرسل، دل أنهم اتبعوا الرسل بالحجج والبراهين التي أقاموها عليهم أو نحوها. والأراذل قيل: هم السفلة والضعفاء... وقوله تعالى: (بادي الرأي)...قال بعضهم: خفيف الرأي، لا يعرفون حقائق الأمور وإنما يعرفون ظواهرها، كأنهم يقولون: إنما اتبعك من كان خفيف الرأي وباديه، لم يتبعك من يعرف حقائق الأمور والأصول...
(وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ) الآية؛ يحتمل هذا أي فضل؛ في الخلقة أو في ملك أو مال ولا في شيء ولكن جواب هذا ما سبق.
(بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ) هكذا كانت عادة الكفرة يردون دلالات الرسل والحجج بالظن، لم يردوا بحقيقة ظهرت...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
عنوا بأراذلهم: الفقراء وأصحاب المهن المتضعة. {باديَ الرأي} أي ظاهر الرأي، وفيه ثلاثة أوجه:
أحدها: إنك تعمل بأول الرأي من غير فكر، قاله الزجاج.
الثاني: أن ما في نفسك من الرأي ظاهر، تعجيزاً له، قاله ابن شجرة.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أنكروا صحة كوْنهِ نبيَّا لمشاكلته إياهم في الصورة، ولم يعلموا أن المباينة بالسريرة لا بالصورة. ثم قال: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْي}: نظروا إلى أتباعه نَظْرَةَ استصغارٍ، ونَسَبُوهم إلى قِلَّةِ التحصيل... وما استصغر أحدٌ أحداً من حيث رؤية الفضل عليه إِلا سَلَّطَ اللَّهُ عليه، وأذاقه ذُلَّ صَغَارِه، فبالمعاني يحصل الامتيازُ لا بالمباني:...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{الملأ} الأشراف من قولهم: فلان مليء بكذا، إذا كان مطيقاً له، وقد ملئوا بالأمر؛ لأنهم ملئوا بكفايات الأمور واضطلعوا بها وبتدبيرها، أو لأنهم يتمالؤون أي يتظاهرون ويتساندون، أو لأنهم يملأون القلوب هيبة والمجالس أبهة، أو لأنهم ملاء بالأحلام والآراء الصائبة.
{مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مّثْلَنَا} تعريض بأنهم أحق منه بالنبوة وأنّ الله لو أراد أن يجعلها في أحد من البشر لجعلها فيهم، فقالوا: هب أنك واحد من الملأ ومواز لهم في المنزلة، فما جعلك أحق منهم؟ ألا ترى إلى قولهم: {وَمَا نرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ}. أو أرادوا أنه كان ينبغي أن يكون ملكاً لا بشرا...
وإنما استرذلوا المؤمنين لفقرهم وتأخرهم في الأسباب الدنيوية، لأنهم كانوا جهالاً ما كانوا يعلمون إلا ظاهراً من الحياة الدنيا، فكان الأشرف عندهم من له جاه ومال، كما ترى أكثر المتسمين بالإسلام يعتقدون ذلك ويبنون عليه إكرامهم وإهانتهم، ولقد زلّ عنهم أن التقدّم في الدنيا لا يقرب أحداً من الله وإنما يبعده، ولا يرفعه بل يضعه، فضلاً أن يجعله سبباً في الاختيار للنبوّة والتأهيل لها، على أن الأنبياء عليهم السلام بعثوا مرغبين في طلب الآخرة ورفض الدنيا، مزهدين فيها، مصغرين لشأنها وشأن من أخلد إليها، فما أبعد حالهم من الاتصاف بما يبعد من الله، والتشرف بما هو ضعة عند الله {مِن فَضْلِ} من زيادة شرف علينا تؤهلكم للنبوّة، {بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذبين} فيما تدّعونه...
اعلم أنه تعالى لما حكى عن نوح عليه السلام أنه دعا قومه إلى عبادة الله تعالى حكى عنهم أنهم طعنوا في نبوته بثلاثة أنوع من الشبهات:
فالشبهة الأولى: أنه بشر مثلهم، والتفاوت الحاصل بين آحاد البشر يمتنع انتهاؤه إلى حيث يصير الواحد منهم واجب الطاعة لجميع العالمين.
والشبهة الثانية: كونه ما اتبعه إلا أراذل من القوم... قالوا ولو كنت صادقا لاتبعك الأكياس من الناس والأشراف منهم، ونظيره قوله تعالى في سورة الشعراء {أنؤمن لك واتبعك الأرذلون}.
والشبهة الثالثة: قوله تعالى: {وما نرى لكم علينا من فضل} والمعنى: لا نرى لكم علينا من فضل لا في العقل ولا في رعاية المصالح العاجلة ولا في قوة الجدل، فإذا لم نشاهد فضلك علينا في شيء من هذه الأحوال الظاهرة فكيف نعترف بفضلك علينا في أشرف الدرجات وأعلى المقامات، فهذا خلاصة الكلام في تقرير هذه الشبهات...
حكى الله تعالى عنهم الشبهة الأولى، وهي قولهم: {ما نراك إلا بشرا مثلنا} وهو مثل ما حكى الله تعالى عن بعض العرب أنهم قالوا: {لولا أنزل عليه ملك} وهذا جهل، لأن من حق الرسول أن يباشر الأمة بالدليل والبرهان والتثبت والحجة، لا بالصورة والخلقة، بل نقول: إن الله تعالى لو بعث إلى البشر ملكا لكانت الشبهة أقوى في الطعن عليه في رسالته لأنه يخطر بالبال أن هذه المعجزات التي ظهرت لعل هذا الملك هو الذي أتى بها من عند نفسه بسبب أن قوته أكمل وقدرته أقوى، فلهذه الحكمة ما بعث الله إلى البشر رسولا إلا من البشر. ثم حكى الشبهة الثانية وهي قوله: {وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي} والمراد منه قلة مالهم وقلة جاههم ودناءة حرفهم وصناعتهم هذا أيضا جهل، لأن الرفعة في الدين لا تكون بالحسب والمال والمناصب العالية، بل الفقر أهون على الدين من الغنى، بل نقول: الأنبياء ما بعثوا إلا لترك الدنيا والإقبال على الآخرة، فكيف تجعل قلة المال في الدنيا طعنا في النبوة والرسالة. ثم حكى الله تعالى الشبهة الثالثة وهي قوله: {وما نرى لكم علينا من فضل} وهذا أيضا جهل، لأن الفضيلة المعتبرة عند الله ليست إلا بالعلم والعمل، فكيف اطلعوا على بواطن الخلق حتى عرفوا نفي هذه الفضيلة، ثم قالوا بعد ذكر هذه الشبهات لنوح عليه السلام ومن اتبعه {بل نظنكم كاذبين}...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
الأراذل هنا هم الفقراء والضعفاء، كما قال هرقل لأبي سفيان: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فقال: بل ضعفاؤهم، فقال: هم أتباع الرسل. قال علماؤنا: إنما كان ذلك لاستيلاء الرياسة على الأشراف، وصعوبة الانفكاك عنها، والأنفة من الانقياد للغير، والفقير خلي عن تلك الموانع، فهو سريع إلى الإجابة والانقياد. وهذا غالب أحوال أهل الدنيا...
جهود القرافي في التفسير 684 هـ :
- حصل من ذلك أن أتباع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والمبادرين إلى تصديقهم إنما هم الفقراء والضعفاء، وأعداء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ومعاندوهم هم الأغنياء. (الفروق: 4/221)...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم ساق سبحانه جواب قومه على وجه هو في غاية التسلية والمناسبة للسياق بقوله: {فقال} أي فتسبب عن هذا النصح العظيم أن قال؛ ولما كان هذا بعد أن تبعه بعضهم قال: {الملأ} وبين أن الجدال مع الضلال بعد أن بين أنهم هم الأشراف زيادة في التسلية بقوله: {الذين كفروا} وبين أنهم أقارب أعزة بقوله: {من قومه} أي الذين هم في غاية القوة لما يريدون محاولة القيام به {ما نراك} أي شيئاً من الأشياء {إلا بشراً} أي آدمياً {مثلنا} أي في مطلق البشرية، لست بملك تصلح لما لا تصلح له من الرسالة... وهو قول من يحسد على فضل الله ويعمى عن جلي حكمته فيمنع أن يكون النبي بشراً ويجعل الإله حجراً. ولما كانت العظمة عندهم منحصرة في عظمة الأتباع قالوا: {وما نراك} ولما انفوا الرؤية عنه فتشوف السامع إلى ما يقع عليه من المعاني، بينوا أن مرادهم رؤية من اتبعه فقالوا: {اتبعك} أي تكلف اتباعك {إلا الذين هم} أي خاصة {أراذلنا}... ولما كانوا لا يعظمون إلا بالتوسع في الدنيا، قالوا: {وما نرى لكم} أي لك ولمن تبعك {علينا} وأغرقوا في النفي بقولهم: {من فضل} أي شرف ولا مال، وهذا -مع ما مضى من قولهم- قول من يعرف الحق بالرجال ولا يعرف الرجال بالحق، وذلك أنه يستدل على كون الشيء حقاً بعظمة متبعه في الدنيا، وعلى كونه باطلاً بحقارته فيها، ومجموع قولهم يدل على أنهم يريدون: لو صح كون النبوة في البشر لكانت في واحد ممن أقروا له بالعلو في الأرض، وعمل {اتبعك} في {بادي} يمنعه تمادي الاتباع على الإيمان، فانتفى الطعن بعدم التأمل {بل نظنكم كاذبين} أي لكم هذا الوصف لازماً دائماً لأنكم لم تتصفوا بما جعلناه مظنة الاتباع مما يوجب العظمة في القلوب والانقياد للنفوس بالتقدم في الدنيا بالمال والجاه؛ فكان داؤهم بطر الحق وغمط الناس، وهو احتقارهم...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{فقال الملأ الذين كفروا من قومه} أي فبادر الملأ أي الأشراف والزعماء الذين كفروا من قومه إلى الجواب ليكون الدهماء تبعا لهم كعادتهم، واقترن جوابهم هنا بالفاء لأنه هو الأصل في الرد السريع، ومثله في سورة المؤمنين وتقدم في سورة الأعراف مفصولا وهو {قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين} [الأعراف: 60] لأنه هو الأصل في باب المراجعة يقال.. قال. ويسمى الاستئناف البياني، والفرق بينهما في الموضعين من هذه القصة أن الموصول بالفاء أريد به المبادرة إلى الرد على نوح بما يبطل دعوته بزعمهم، والمفصول ليس إلا طعنا وتخطئة هو من جملة ما رموه به لا يعلم متى وقع منهم، وليس جوابا متصلا بالدعوة، فيالله العجب من هذه الدقة في بلاغة القرآن!
{وما نراك إلا بشرا مثلنا} في الجنس لا مزية لك علينا تكون بها نذيرا لنا نطيعك ونتبعك مذعنين لنبوتك ورسالتك {وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا} أي أردياؤنا وأخساؤنا. يقال رذل الشيء أو المرء بضم الذال "كضخم "فهو رذل بسكونها "كضخم" وجمعه أرذل بضم الذال وجمع الجمع أراذل وهو جمع "أرذل" بصيغة التفضيل، ويؤيده في سورة الشعراء {واتبعك الأرذلون} [الشعراء: 111] ويعنون بهم من دون طبقة الأشراف والأكابر كالزراع والصناع والعمال، وهم الذين يقبلون الحق إذا فهموه لعدم استكبارهم عن إتباع غيرهم.
{بادي الرأي} أي اتبعوك في بادي الرأي أي ظاهر الذي يبدو للناظر فيه، قبل العلم بما وراء قوادمه من خوافيه، والتأمل في باطنه، والغوص في أعماقه، أو في بدئه وما يظهر منه أول وهلة قبل تكرار التفكر فيه، والنظر في عواقبه وتواليه فالياء على هذا منقلبة عن همزة لانكسار ما قبلها. ويؤيد قراءة أبي عمرو بالهمزة [بادىء] وقراءة الجمهور أبلغ لاحتمالها الجمع بين المعنيين.
{وما نرى لكم علينا من فضل} أي وما نرى لك ولمن اتبعك علينا أدنى فضل تمتازون به في جماعتكم كالقوة والكثرة والعلم والرأي يحملنا على اتباعكم، والنزول عن جاهنا وامتيازنا عليكم بالجاه والمال لمساواتكم، {بل نظنكم كاذبين} أي بل الأمر شر من ذلك وهو أننا نظنكم كاذبين في جملتكم: المتبوع في دعوى النبوة، والتابعون في تصديقه، فهي إذا ائتمار بنا تحاولون به أن تقلبوا الحقيقة فتجعلوا الفاضل مفضولا، والشريف مشروفا، وقد كرموا أنفسهم بعدم الجزم بالتكذيب فعبروا عنه بالظن.
أجابوه بأربع حجج داحضة: إحداهما: أنه بشر مثلهم فساووه بأنفسهم في الجملة، وهذا يدل على أنه عليه السلام كان من طبقتهم أو ما يقرب منها في بيته وفي شخصه، وهكذا كان كل رسول من وسط قومه، ووجه الجواب أن المساواة تنافي دعوى تفوق أحد المتساويين على الآخر بجعل أحدهما تابعا طائعا، والآخر متبوعا مطاعا، لأنه ترجيح بغير مرجح.
والثانية: أنه لم يتبعه منهم إلا أراذلهم في الطبقة والمكانة الاجتماعية بادي الرأي، لا بدليل من العقل والعلم، وبهذا تنتفي المساواة فينزل هو عن رتبة الطبقة العليا إلى رتبة من اتبعه من الطبقات السفلى، وهذا مرجح لرد دعوته والتولي عنه.
الثالثة: عدم رؤية فضل له مع جماعته هؤلاء عليهم من قوة عصبية أو كثرة غالبة أو غير هذا من المزايا التي ترفع الأراذل من مقعدهم في السفلة، فيهون على الأشراف مساواتهم في اتباعه.
الرابعة: أنهم بعد الإضراب أو صرف النظر عما ذكروا من التنافي والتعارض يرجحون الحكم عليه وعليهم بالكذب في هذه الدعوى، وهذا هو المرجح الأقوى لرد الدعوة، وقد أخروه في الذكر لأنهم لو قدموه لما بقي لذكر تلك العلل الأخرى وجه، وهي وجيهة في نظرهم لا بد لهم من بيانها، وهذه الأخيرة طعن لهم على نوح عليه السلام أشركوه فيه مع أتباعه ولم يجابهوه به وحده، ولم يجزموا به، كما أنهم لم يجعلوه في طبقتهم من الرذالة...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ذلك رد العلية المتكبرين.. الملأ.. كبار القوم المتصدرين.. وهو يكاد يكون رد الملأ من قريش: ما نراك إلا بشرا مثلنا، وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا -بادي الرأي- وما نرى لكم علينا من فضل، بل نظنكم كاذبين. الشبهات ذاتها، والاتهامات ذاتها، والكبرياء ذاتها، والاستقبال الغبي الجاهل المتعافي! إنها الشبهة التي وقرت في نفوس جهال البشر: أن الجنس البشري أصغر من حمل رسالة الله؛ فإن تكن رسالة فليحملها ملك أو مخلوق آخر. وهي شبهه جاهلة، مصدرها عدم الثقة بهذا المخلوق الذي استخلفه الله في أرضه، وهي وظيفة خطيرة ضخمة، لا بد أن يكون الخالق قد أودع في هذا الإنسان ما يكافئها من الاستعداد والطاقة، وأودع في جنسه القدرة على أن يكون من بينه أفراد مهيؤون لحمل الرسالة، باختيار الله لهم، وهو أعلم بما أودع في كيانهم الخاص من خصائص هذا الجنس في عمومه. وشبهة أخرى جاهلة كذلك. هي أنه إذا كان الله يختار رسولا، فلم لا يكون من بين هؤلاء الملأ الكبراء في قومهم، المتسلطين العالين؟ وهو جهل بالقيم الحقيقية لهذا المخلوق الإنساني، والتي من أجلها استحق الخلافة في الأرض بعمومه، واستحق حمل رسالة الله بخصوصيته في المختارين من صفوفه. وهذه القيم لا علاقة لها بمال أو جاه أو استطالة في الأرض، إنما هي في صميم النفس، واستعدادها للاتصال بالملأ الأعلى، بما فيها من صفاء وتفتح وقدرة على التلقي، واحتمال للأمانة وصبر على أدائها ومقدرة على إبلاغها... إلى آخر صفات النبوة الكريمة.. وهي صفات لا علاقة لها بمال أو جاه أو استعلاء! ولكن الملأ من قوم نوح، كالملأ من قوم كل نبي تعميهم مكانتهم الدنيوية عن رؤية هذه الخصائص العلوية، فلا يدركون مبررا لاختصاص الرسل بالرسالة. وهي في زعمهم لا تكون لبشر. فإن كانت فهي لأمثالهم من الوجهاء العالين في الأرض! (ما نراك إلا بشرا مثلنا).. هذه واحدة.. أما الأخرى فأدهى: (وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا، بادي الرأي)!! وهم يسمون الفقراء من الناس (أراذل).. كما ينظر الكبراء دائما إلى الآخرين الذين لم يؤتوا المال والسلطان! وأولئك هم أتباع الرسل السابقون غالبا؛ لأنهم بفطرتهم أقرب إلى الاستجابة للدعوة التي تحرر الناس من العبودية للكبراء، وتصل القلوب بإله واحد قاهر عال على الأعلياء. ولأن فطرتهم لم يفسدها البطر والترف، ولم تعوقها المصالح والمظاهر عن الاستجابة؛ ولأنهم لا يخافون من العقيدة في الله أن تضيع عليهم مكانة مسروقة لغفلة الجماهير واستعبادها للخرافات الوثنية في شتى صورها. وأول صور الوثنية الدينونة والعبودية والطاعة والاتباع للأشخاص الزائلة بدلا من الاتجاه بهذا كله لله وحده دون شريك. فرسالات التوحيد هي حركات التحرير الحقيقية للبشر في كل طور وفي كل أرض. ومن ثم كان يقاومها الطغاة دائما، ويصدون عنها الجماهير؛ ويحاولون تشويهها واتهام الدعاة إليها بشر التهم للتشويش والتنفير. (وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي).. أي دون ترو ولا تفكير.. وهذه تهمة كذلك توجه دائما من الملأ العالين لجموع المؤمنين.. أنها لا تتروى ولا تفكر في اتباع الدعوات. ومن ثم فهي متهمة في اتباعها واندفاعها، ولا يليق بالكبراء أن ينهجوا نهجها، ولا أن يسلكوا طريقها. فإذا كان الأراذل يؤمنون، فما يليق إذن بالكبراء أن يؤمنوا إيمان الأراذل؛ ولا أن يدعوا الأراذل يؤمنون! (وما نرى لكم علينا من فضل).. يدمجون الداعي بمن تبعوه من الأراذل! ما نرى لكم علينا من فضل يجعلكم أقرب إلى الهدى، أو أعرف بالصواب. فلو كان ما معكم خيرا وصوابا لاهتدينا إليه، ولم تسبقونا أنتم إليه! وهم يقيسون الأمور ذلك القياس الخاطئ الذي تحدثنا عنه. قياس الفضل بالمال، والفهم بالجاه، والمعرفة بالسلطان.. فذو المال أفضل. وذو الجاه أفهم. وذو السلطان أعرف!!! هذه المفاهيم وتلك القيم التي تسود دائما حين تغيب عقيدة التوحيد عن المجتمع، أو تضعف آثارها، فترتد البشرية إلى عهود الجاهلية، وإلى تقاليد الوثنية في صورة من صورها الكثيرة. وإن بدت في ثوب من الحضارة المادية قشيب. وهي انتكاسة للبشرية من غير شك، لأنها تصغر من القيم التي بها صار الإنسان إنسانا، واستحق الخلافة في الأرض، وتلقى الرسالة من السماء؛ وترجع به إلى قيم أقرب إلى الحيوانية العضلية الفيزيقية!... إنه النموذج المتكرر من عهد نوح، لهذه الطبقة المليئة الجيوب الفارغة القلوب، المتعاظمة المدعية المنتفخة الأوداج والأمخاخ!!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جزموا بتكذيبه فقدموا لذلك مقدمات استخلصوا منها تكذيبه، وتلك مقدمات باطلة أقاموها على ما شاع بينهم من المغالطات الباطلة التي روجها الإلف والعادة فكانوا يعدون التفاضل بالسؤدد وهو شرف مصطلح عليه قوامه الشجاعة والكرم، وكانوا يجعلون أسباب السؤدد أسباباً مادية جسدية، فيسوّدون أصحاب الأجسام البَهْجة كأنهم خشب مسندة لأنهم ببساطة مداركهم العقلية يعظمون حسن الذوات، ويسوّدون أهل الغنى لأنهم يطمعون في نوالهم، ويسوّدون الأبطال لأنهم يُعدونهم لدفاع أعدائهم. ثم هم يعرفون أصحاب تلك الخلال إمّا بمخالطتهم وإما بمخالطة أتباعهم فإذا تسامعوا بسيّد قوم ولم يعرفوه تعرّفوا أتباعَه وأنصاره، فإن كانوا من الأشراف والسادة علموا أنهم ما اتّبعوه إلا لما رأوا فيه من موجبات السيادة؛ وهذه أسباب ملائمة لأحوال أهل الضلالة إذ لا عناية لهم بالجانب النفساني من الهيكل الإنساني. فلما دعاهم نوح عليه السّلام دعوةً علموا منها أنّه يقودهم إلى طاعته ففكروا وقدّروا فرأوا الأسباب المألوفة بينهم للسؤدد مفقودة من نوح عليه السلام ومن الذين اتّبعوه فجزموا بأنه غير حقيق بالسيادة عليهم فجزموا بتكذيبه فيما ادّعاه من الرسالة بسيادة للأمة وقيادة لها. وهؤلاء لقصود عقولهم وضعف مداركهم لم يبلغوا إدراك أسباب الكمال الحق، فذهبوا يتطلّبون الكمال من أعراض تعرض للناس بالصدفة من سعة مال، أو قوة أتباع، أو عزة قبيلة. وتلك أشياء لا يطرد أثرها في جلب النفع العام ولا إشعار لها بكمال صاحبها إذ يشاركه فيها أقل الناس عقولاً، والحيوان الأعجم مثل البقرة بما في ضرعها من لبن، والشاة بما على ظهرها من صوف، بل غالب حالها أنها بضد ذلك. وربما تطلبوا الكمال في أجناس غير مألوفة كالجن، أو زيادة خلقة لا أثر لها في عمل المتصف بها مثل جمال الصورة وكمال القامة، وتلك وإن كانت ملازمة لموصوفاتها لكنّها لا تفيدهم أن يكونوا مصادر كمالات، فقد يشاركهم فيها كثير من العجماوات كالظباء والمَها والطواويس، فإن ارتقوا على ذلك تطلبوا الكمال في أسباب القوة والعزة من بسطة الجسم وإجادة الرماية والمجالدة والشجاعة على لقاء العدو. وهذه أشبه بأن تعدّ في أسباب الكمال ولكنها مكمّلات للكمال الإنساني لأنها آلات لإنقاذ المقاصد السامية عند أهل العقول الراجحة والحكمة الإلهية كالأنبياء والملوك الصالحين، وبدون ذلك تكون آلات لإنفاذ المقاصد السيّئة مثل شجاعة أهل الحرابة وقطّاع الطريق والشّطّار، ومثل القوة على خلع الأبواب لاقتحام منازل الآمنين. وإنما الكمال الحق هو زكاء النفس واستقامة العقل، فهما السبب المطّرد لإيصال المنافع العامة لما في هذا العالم، ولهما تكون القوى المنفّذة خادمة كالشجاعة للمدافعين عن الحق والملجئين للطغاة على الخنوع إلى الدّين، على أن ذلك معرض للخطأ وغيبة الصواب فلا يكون له العصمة من ذلك إلاّ إذا كان محفوفاً بالإرشاد الإلهي المعصوم، وهو مقام النبوءة والرسالة. فهؤلاء الكفرة من قوم نوح لمّا قَصروا عن إدراك أسباب الكمال وتطلبوا الأسباب من غير مكانها نظروا نوحاً عليه السلام وأتباعه فلم يروه من جنس غير البشر، وتأمّلوه وأتباعه فلم يروا في أجسامهم ما يميّزهم عن الناس وربّما كان في عموم الأمة من هم أجمل وجوهاً أو أطول أجساماً. من أجل ذلك أخطأوا الاستدلال فقالوا: {ما نراك إلاّ بشراً مثلنا} فأسندوا الاستدلال إلى الرؤية. والرؤية هنا رؤية العين لأنّهم جعلوا استدلالهم ضرورياً من المحسوس من أحوال الأجسام، أي ما نراك غير إنسان، وهو مماثل للنّاس لا يزيد عليهم جوارح أو قوائم زائدة...
وقالوا: {وما نراك اتّبعك إلاّ الذين هم أراذلنا} فجعلوا أتباع الناس المعدودين في عادتهم أراذل محقورين دليلاً على أنه لا ميزة له على سادتهم الذين يلوذ بهم أشراف القوم وأقوياؤهم. فنفوا عنه سبب السيادة من جهتي ذاته وأتباعه، وذلك تعريض بأنهم لا يتبعونه لأنهم يترفعون عن مخالطة أمثالهم وأنه لو أبعدهم عنه لاتبَعوه، ولذلك ورد بعده {وما أنا بطارد الذين آمنوا} [هود: 29] الآية...
و {بادي}... يعنون أن هؤلاء قد غرتهم دعوتك فتسرعوا إلى متابعتك ولو أعادوا النظر والتأمل لعلموا أنك لا تستحق أن تتبع...
وإضافة {بادى} إلى {الرأي} من إضافة الصفة إلى الموصوف، ومعنى كلامهم: لا يلبث أن يرجع إلى متبعيك رُشدُهم فيعيدوا التأمل في وقت آخر ويُكشف لهم خَطؤُهم. ولما وصفوا كل فريق من التابع والمتبوع بما ينفي سيادة المتبوع وتزكية التابع جَمَعوا الوصف الشامل لهما. وهو المقصود من الوصفين المفرقين. وذلك قولهم: {وما نَرى لكم علينا من فضل} فنفوا أن يكون لنوح عليه السّلام وأتباعه فضل على الذين لم يؤمنوا به حتى يكون نوح عليه السلام سيّداً لهم ويكون أتباعه مفضلين بسيادة متبوعهم. والفضل: الزيادة في الشرف والكمال، والمراد هنا آثاره وعلاماته لأنها التي تُرى، فجعلوا عدم ظهور فضل لهم عليهم دليلاً على انتفاء فضلهم، لأنّ الشيء الذي لا تخفى آثاره يصح أن يجعل انتفاء رؤيتِها دليلاً على انتفائها إذ لو ثبتت لرئيت. وجملة {بل نظنّكم كاذبين} إبطال للمنفي كلّه الدال على صدقه في دعواه بإثبات ضد المنفي، وهو ظنهم إياهم كاذبين لأنّه إذا بطل الشيء ثبت ضدّه، فزعموا نوحاً عليه السلام كاذباً في دعوى الرسالة وأتباعه كاذبين في دعوى حصول اليقين بصدق نوح عليه السّلام، بل ذلك منهم اعتقاد باطل، وهذا الظن الذي زعموه مستند إلى الدليل المحسوس في اعتقادهم. واستعمل الظن هنا في العلم كقوله: {الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم} [البقرة: 46] وهو إطلاق شائع في الكلام...
فالرسول إنما يجيء مبلّغ منهج وأسوة سلوك، فإذا لم يكن من جنس البشر، فالأسوة لن تصلح، ولن يستطيع إلا البلاغ فقط...
وهكذا نجد أن الأسوة تتطلب اتحاد الجنس؛ ولذلك قلنا: إن الأسوة هي الدليل على إبطال من يدّعي الألوهية لعزير أو لعيسى عليهما السلام...
وقد قال الملأ من الكفار من قوم نوح: {وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا}: أي: أنهم وصفوا من آمنوا بنوح عليه السلام بأنهم نفاية المجتمع. وجاء الحق على ألسنتهم بقولهم في موضع آخر: {واتبعك الأرذلون} [الشعراء 111]: ولم ينف نوح عليه السلام ذلك؛ لأن الذين اتبعوه قد يكونون من الضعاف، وهم ضحايا الإفساد؛ لأن القوي في المجتمع لا يقربه أحد؛ ولذلك فإنه لا يعاني من ضغوط المفسدين، أما الضعاف فهم الذين يعانون من المفسدين؛ فما إن ظهر المخلّص لهم من المفسدين فلا بد أن يتمسكوا به. ولكن ذلك لا يعني أن الإيمان لا يلمس قلوب الأقوياء، بدليل أن البعض من سادة وأغنياء مكة استجابوا للدعوة المحمدية مثل: أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، رضي الله عنهم. ولكن الغالب في دعوات الإصلاح أنه يستجيب لها المطحونون بالفساد، هؤلاء الذين يشعرون بالغليان في مراجل الألم بسبب الفساد، وما إن يظهر داعية إلى الإصلاح ويريد أن يزحزح الفساد، فيلتفّون حوله ويتعاطفون معه، وإن كانوا غير عبيد، لكن محكومين بالغير، فهم يؤمنون علنا برجل الإصلاح، وإن كانوا عبيدا مملوكين للسادة؛ فهم يؤمنون خفية، ويحتمل القوي منهم الاضطهاد والتعذيب...
إذن: فكل رسول يأتي إنما يأتي في زمن فساد، وهذا الفساد ينتفع به بعض الناس؛ وطغيان يعاني منه الكثيرون الواقع عليهم الفساد والطغيان. ويأتي الرسول وكأنه ثورة على الطغيان والفساد؛ لذلك يتمسك به الضعفاء ويفرحون به، وتلتف قلوبهم حوله. أما المنتفعون بالفساد فيقولون: إن أتباعك هم أراذلنا. وكأن هذا القول طعن في الرسول، لكنهم أغبياء؛ لأن هذا القول دليل على ضرورة مجيء الرسول؛ ليخلص هؤلاء الضعاف، ويجيء الرسول ليقود غضبة على فساد الأرض، ولينهي هذا الفساد...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
لاشك أنّه لم تكن سوى حفنةً من الأعذار الواهية والحجج الباطلة والأدلة الزائفة التي تعتبر ديدن جميع الجبابرة في كل عصر وزمان، فقد أجاب أُولئك دعوة نوح بثلاثة إِشكالات:
الأوّل: إِنّ الاشراف والمترفين من قوم نوح (عليه السلام) قالوا له أنت مثلنا ولا فرق بيننا وبينك: (فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلاّ بشراً مثلنا) زعماً منهم أن الرسالة الإِلهية ينبغي أن تحملها الملائكة إلى البشر لا أن البشر يحملها إلى البشر! وظنّاً منهم أنّ مقام الإِنسان أدنى من مقام الملائكة، أو أنّ الملائكة تعرف حاجات الإِنسان أكثر منه. نلاحظ هنا كلمة «الملأ» التي تشير إلى أصحاب الثروة والقوة الذين يملأ العين ظاهرهم، في حين أن الواقع أجوف. ويشكلون أصل الفساد والانحراف في كل مجتمع، ويرفعون راية العناد والمواجهة أمام دعوة الأنبياء (عليهم السلام).
والإِشكال الثّاني: إِنّهم قالوا: يا نوح؛ لا نرى متبعيك ومن حولك إلاّ حفنةً من الأراذل وغير الناضجين الذين لم يسبروا مسائل الحياة (وما نراك اتّبعك إلاّ الذين هم أراذلنا بادي الرأي). و«الأراذل» جمع ل «أرذل» وتأتي أيضاً جمع ل «رذل» التي تعني الموجود الحقير، سواء كان إِنساناً أم شيئاً آخر غيره. وبالطبع فإِنّ الملتفين حول نوح (عليه السلام) والمؤمنين به لم يكونوا أراذل ولا حقراء، ولكن بما أنّ الأنبياء ينهضون للدفاع عن المستضعفين قبل كل شيءً، فأوّل جماعة يستجيبون لهم ويلبّون دعوتهم هم الجماعة المحرومة والفقيرة، ولكن هؤلاء في نظر المستكبرين الذين يعدّون معيار الشخصيّة القوة والثروة فحسب يحسبونهم أراذل وحقراء.. وإِنّما سمّوهم ب «بادي الرأي» أي الذين يعتمدون على الظواهر من دون مطالعة ويعشقون الشيء بنظرة واحدة، ففي الحقيقة كان ذلك بسبب أنّ اللجاجة والتعصب لم يكن لها طريق إلى قلوب هؤلاء الذين التفوا حول نوح (عليه السلام) لأنّ معظمهم من الشباب المطهرة قلوبهم الذين يحسون بضياء الحقيقة في قلوبهم، ويدركون بعقولهم الباحثة عن الحق دلائل الصدق في أقوال الأنبياء (عليهم السلام) وأعمالهم.
الإِشكال الثّالث: الذي أوردوه على نوح (عليه السلام) أنهم قالوا: بالإضافة إلى أنّك إِنسان ولست ملكاً، وأن الذين آمنوا بك والتفوا حولك هم من الأراذل، فإنّنا لا نرى لكم علينا فضلا (وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين).