التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا رَحۡمَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ} (107)

ثم بين - سبحانه - أن من مظاهر فضله على الناس أن أرسل إليهم نبيه - صلى الله عليه وسلم - ليكون رحمة لهم فقال : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } .

أى : وما أرسلناك - أيها الرسول الكريم - بهذا الدين الحنيف وهو دين الإسلام ، إلا من أجل أن تكون رحمة للعالمين من الإنس والجن .

وذلك لأننا قد أرسلناك بما يسعدهم فى دينهم وفى دنياهم وفى آخرتهم متى اتبعوك ، واستجابوا لما جئتهم به ، وأطاعوك فيما تأمرهم به أو تنهاهم عنه .

وفى الحديث الشريف : " إنما أنا رحمة مهداة " فرسالته - صلى الله عليه وسلم - رحمة فى ذاتها ، ولكن هذه الرحمة انتفع بها من استجاب لدعوتها ، أما من أعرض عنها فهو الذى ضيع على نفسه فرصة الانتفاع .

ورحم الله صاحب الكشاف فقد وضح هذا المعنى فقال : أرسل - صلى الله عليه وسلم - " رحمة للعالمين " لأنه جاء بما يسعدهم إن اتبعوه ، ومن خالف ولم يتبع ، فإنما أتى من عند نفسه ، حيث ضيع نصيبه منها . ومثاله : أن يفجر الله عينا عذيقة - أى : كبيرة عذبه - ، فيسقى ناس زرعهم ، ومواشيهم بمائها فيفلحوا ، ويبقى ناس مفرطون فيضيعوا . فالعين المفجرة فى نفسها نعمة من الله - تعالى - ورحمة للفريقين . ولكن الكسلان محنة على نفسه ، حيث حرمها ما ينفعها " .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا رَحۡمَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ} (107)

وقوله [ تعالى ]{[19929]} : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } : يخبر تعالى أن الله جَعَل محمدًا صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين ، أي : أرسله رحمة لهم كلّهم ، فمن قَبِل هذه الرحمةَ وشكَر هذه النعمةَ ، سَعد في الدنيا والآخرة ، ومن رَدّها وجحدها خسر في الدنيا والآخرة ، كما قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ{[19930]} الْقَرَارُ } [ إبراهيم : 28 ، 29 ] ، وقال الله تعالى في صفة القرآن : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } [ فصلت : 44 ] .

وقال مسلم في صحيحه : حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا مروان الفَزَاريّ ، عن يزيد بن كَيْسَان ، عن ابن أبي حازم ، عن أبي هريرة قال : قيل : يا رسول الله ، ادع على المشركين ، قال : " إني لم أبعَثْ لَعَّانًا ، وإنما بُعثْتُ رحمة " . انفرد بإخراجه مسلم{[19931]} .

وفي الحديث الآخر : " إنما أنا رحمة مهداة " . رواه عبد الله بن أبي عرابة ، وغيره ، عن وَكِيع ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة مرفوعا{[19932]} قال إبراهيم الحربي : وقد رواه غيره عن وكيع ، فلم يذكر أبا هريرة{[19933]} . وكذا قال البخاري ، وقد سئل عن هذا الحديث ، فقال : كان عند حفص بن غياث مرسلا .

قال الحافظ ابن عساكر : وقد رواه مالك بن سُعَير بن الْخِمْس ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة مرفوعا{[19934]} . ثم ساقه من طريق أبي بكر بن المقرئ وأبي أحمد الحاكم ، كلاهما عن بكر بن محمد بن إبراهيم الصوفي : حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري ، عن أبي أسامة ، عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس{[19935]} بن أبي حازم ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنما أنا رحمة مهداة " .

ثم أورده من طريق الصَّلْت بن مسعود ، عن سفيان بن عيينة ، عن مِسْعَر{[19936]} ، عن سعيد بن خالد ، عن رجل ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله بعثني رحمة مهداة ، بُعثْتُ برفع قوم وخفض آخرين " {[19937]} .

قال أبو القاسم الطبراني : حدثنا أحمد بن محمد بن نافع الطحان ، حدثنا أحمد بن صالح قال : وجدت كتابًا بالمدينة عن عبد العزيز الدّراوردي وإبراهيم بن محمد بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف ، عن محمد بن صالح التمار ، عن ابن [ شهاب ]{[19938]} عن محمد بن جُبَير بن مطعم ، عن أبيه قال : قال أبو جهل حين قدم [ مكة ]{[19939]} منصرفة عن حَمْزَة : يا معشر قريش ، إن محمدًا نزل يثرب وأرسل طلائعه ، وإنما يريد أن يصيب منكم شيئا ، فاحذروا أن تمروا طريقَه أو تقاربوه{[19940]} ، فإنه كالأسد الضاري ؛ إنه حَنِق عليكم ؛ لأنكم نفيتموه نفي القِرْدَان عن المناسم{[19941]} والله إن له لَسحْرَةً ، ما رأيته قط ولا أحدًا من أصحابه إلا رأيت معهم الشيطان ، وإنكم قد عرفتم عداوة ابني قَيلَةَ - يعني : الأوس والخزرج - لهو عدو استعان بعدو ، فقال له مطعم بن عدي : يا أبا الحكم ، والله ما رأيتُ أحدًا أصدقَ لسانًا ، ولا أصدق موعدًا ، من أخيكم الذي طردتم ، وإذ فعلتم الذي فعلتم فكونوا أكف الناس عنه . قال [ أبو سفيان ]{[19942]} بن الحارث : كونوا أشدّ ما كنتم عليه ، إن{[19943]} ابني قيلَةَ إن ظفَرُوا بكم لم يرْقُبوا فيكم إلا ولا ذمة ، وإن أطعتموني ألجأتموهم خير كنابة ، أو تخرجوا محمدًا

من بين ظهرانيهم ، فيكون وحيدا مطرودا ، وأما [ ابنا قَيْلة فوالله ما هما ]{[19944]} وأهل [ دهلك ]{[19945]} في المذلة إلا سواء وسأكفيكم حدهم ، وقال :

سَأمْنَحُ جَانبًا منّي غَليظًا *** عَلَى مَا كَانَ مِنْ قُرب وَبُعْد

رجَالُ الخَزْرَجيَّة أهْلُ ذُل *** إذا مَا كَانَ هَزْل بَعْدَ جد .

فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال : " والذي نفسي بيده ، لأقتلنهم ولأصلبَنَّهم ولأهدينهم وهم كارهون ، إني رحمة بعثني الله ، ولا يَتَوفَّاني حتى يظهر الله دينه ، لي خمسة أسماء : أنا محمد ، وأحمد ، وأنا الماحي الذي يمحي الله بي الكفر ، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي ، وأنا العاقب " {[19946]} .

وقال أحمد بن صالح : أرجو أن يكون الحديث صحيحًا .

وقال الإمامُ أحمد : حدثنا معاوية بن عمرو ، حدثنا زائدة ، حدثني عَمْرو بن قَيس ، عن عمرو بن أبي قُرّة الكِنْديّ قال : كان حُذيفةُ بالمدائن ، فكان يذكر أشياء قالها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء حذيفةُ إلى سَلْمان فقال سلمان : يا حذيفةَ ، إنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم [ كان يغضب فيقول ، ويرضى فيقول : لقد علمت أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ]{[19947]} خطَب فقال : " أيما رجل من أمتي سَبَبتُه [ سَبَّةً ]{[19948]} في غَضَبي أو لعنته لعنةً ، فإنما أنا رجل من ولد آدم ، أغضب كما يغضبون ، وإنما بعثني رحمةً للعالمين ، فاجعلها صلاة عليه يوم القيامة " .

ورواه أبو داود ، عن أحمد بن يونس ، عن زائدة{[19949]} .

فإن قيل : فأيّ رحمة حصلت لمن كَفَر به ؟ فالجواب ما رواه أبو جعفر بن جرير : حدثنا إسحاق بن شاهين ، حدثنا إسحاق الأزرق ، عن المسعودي ، عن رجل يقال له : سعيد ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس في قوله : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } قال : من آمن بالله واليوم الآخر ، كُتِبَ له الرحمة في الدنيا والآخرة ، ومن لم يؤمن بالله ورسوله عُوِفي مما أصاب الأمم من الخسف والقذف{[19950]} .

وهكذا رواه ابن أبي حاتم ، من حديث المسعودي ، عن أبي سعد - وهو سعيد بن المرزبان البقّال - عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، فذكره بنحوه ، والله أعلم .

وقد رواه أبو القاسمُ الطبراني عن عبدان بن أحمد ، عن عيسى بن يونس الرَمْلِي ، عن أيوب ابن سُوَيد ، عن المسعودي ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } قال : من تبعه كان له رحمة في الدنيا والآخرة ، ومن لم يتبعه عُوفِي مما كان يبتلى به سائر الأمم من الخسف والقذف{[19951]} .


[19929]:- زيادة من ت ، وفي ف ، أ : "عز وجل".
[19930]:- في ت ، ف ، أ : "فبئس".
[19931]:- صحيح مسلم برقم (2559).
[19932]:- رواه أبو الحسن السكري في "الفوائد المنتقاة" (157/2). كما في السلسلة الصحيحة (1/803) للألباني - حدثنا عبد الله بن محمد ابن أسد ، حدثنا حاتم بن منصور الشاشي قال : حدثنا عبد الله بن أبي عرابة الشاشي به. ورواه غيره متصلا : فرواه عبد الله بن نصر الأصم عن وكيع عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا. خرجه ابن عدي في الكامل (4/231) من طريق عمر بن سنان عن عبد الله بن نصر.وقال : "هكذا حدثناه عمر بن سنان عن عبد الله بن نصر عن وكيع عن الأعمش، وهذا غير محفوظ عن وكيع عن الأعمش ، إنما يرويه مالك بن سعيد عن الأعمش ، وعبد الله بن نصر هذا له غير ما ذكرت مما أنكرت عليه".
[19933]:- رواه ابن أبي شيبة في المصنف (11/504) عن وكيع مرسلا ، ورواه ابن سعد في الطبقات (1/182) عن وكيع مرسلا ، ورواه البيهقي في دلائل النبوة (1/157) من طريق إبراهيم بن عبد الله عن وكيع مرسلا.
[19934]:- ورواه البزار في مسنده برقم (2369) "كشف الأستار" والبيهقي في دلائل النبوة (1/158) من طريق زياد بن يحيى عن مالك بن سعيد به ، وقال البزار : "لا نعلم أحدا وصله إلا مالك بن سعيد ، وغيره يرسله".
[19935]:- في ت ، أ : "حسن".
[19936]:- في أ : "عن شعبة".
[19937]:- وذكره السيوطي في الجامع الصغير ورمز له الألباني بالضعف.
[19938]:- زيادة من أ.
[19939]:- زيادة من أ.
[19940]:- في ت : "أو تحاربوه".
[19941]:- في أ : "الناس".
[19942]:- زيادة من أ.
[19943]:- في ت : "فإن".
[19944]:- زيادة من ت ، أ.
[19945]:- زيادة من ت ، أ.
[19946]:- المعجم الكبير (2/123).
[19947]:- زيادة من ت ، أ ، والمسند.
[19948]:- زيادة من ت ، أ ، والمسند.
[19949]:المسند (5/437) وسنن أبي داود برقم (4659).-
[19950]:- تفسير الطبري (17/83).
[19951]:- المعجم الكبير (12/23).
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا رَحۡمَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ} (107)

وقوله : وَما أرْسَلْناكَ إلاّ رَحْمَةً للْعَالَمِينَ يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وما أرسلناك يا محمد إلى خلقنا إلا رحمة لمن أرسلناك إليه من خلقي .

ثم اختلف أهل التأويل في معنى هذه الاَية ، أجميع العالم الذي أرسل إليهم محمد أُريد بها مؤمنهم وكافرهم ؟ أم أريد بها أهل الإيمان خاصة دون أهل الكفر ؟ فقال بعضهم : عُني بها جميع العالم المؤمن والكافر . ذكر من قال ذلك :

حدثني إسحاق بن شاهين ، قال : حدثنا إسحاق بن يوسف الأزرق ، عن المسعوديّ ، عن رجل يقال له سعيد ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس ، في قول الله في كتابه : وَما أرْسَلْناكَ إلاّ رَحْمَةً للْعَالَمِينَ قال : من آمن بالله واليوم الاَخر كُتب له الرحمة في الدنيا والاَخرة ، ومن لم يؤمن بالله ورسوله عُوفِيَ مما أصاب الأمم من الخَسْف والقذف .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا عيسى بن يونس ، عن المسعوديّ ، عن أبي سعيد ، عن سعيد جُبير ، عن ابن عباس ، في قوله : وَما أرْسَلْناكَ إلاّ رَحْمَةً للْعَالَمِينَ قال : تمت الرحمة لمن آمن به في الدنيا والاَخرة ، ومن لم يؤمن به عُوفيَ مما أصاب الأمم قبل .

وقال آخرون : بل أريد بها أهل الإيمان دون أهل الكفر . ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَما أرْسَلْناكَ إلاّ رَحْمَةً للْعَالَمِينَ قال : العالمون : من آمن به وصدّقه . قال : وَإنْ أدْرِي لَعَلّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إلى حِينِ قال : فهو لهؤلاء فتنة ولهؤلاء رحمة ، وقد جاء الأمر مجملاً رحمة للعالمين . والعالَمون ههنا : من آمن به وصدّقه وأطاعه .

وأولى القولين في ذلك بالصواب القول الذي رُوي عن ابن عباس ، وهو أن الله أرسل نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم رحمة لجميع العالم ، مؤمنهم وكافرهم . فأما مؤمنهم فإن الله هداه به ، وأدخله بالإيمان به وبالعمل بما جاء من عند الله الجنة . وأما كافرهم فإنه دفع به عنه عاجل البلاء الذي كان ينزل بالأمم المكذّبة رسلها من قبله .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا رَحۡمَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ} (107)

{ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } لأن ما بعثت به سبب لإسعادهم وموجب لصلاح معاشهم ومعادهم ، وقيل كونه رحمة للكفار أمنهم به من الخسف والمسخ وعذاب الاستئصال .