انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن أيوب - عليه السلام - فذكرت نداءه لربه ، واستجابة الله - تعالى - له وما وهبه من نعم جزاء صبره ، فقال - تعالى - : { واذكر عَبْدَنَآ أَيُّوبَ . . . } .
قال الإِمام الرازى : اعلم أن قصة أيوب هى القصة الثالثة من القصص المذكورة فى هذه السورة ، واعلم أن داود وسيمان كانا ممن أفاض الله عليه أصناف الآلاء والنعماء ، وأيوب كان ممن خصه الله بأنواع البلاء ، والمقصود من جميع هذه القصص الاعتبار .
فكأن الله - تعالى - يقول لنبيه صلى الله لعيه وسلم : اصبر على سفاهة قومك ، فإنه ما كان فى الدنيا أكثر نعمة ومالا من داود وسليمان ، وما كان أكثر بلاء ومحنة من أيوب ، فتأمل فى أحوال هؤلاء لتعرف أن أحوال الدنيا لا تنتظم لأحد ، وأن العاقل لابد له من الصبر على المكاره . .
وأيوب - عليه السلام - هو ابن أموص بن برزاح ، وينتهى نسبه إلى إسحاق بن إبراهيم - عليهما السلام - وكانت بعثته على الراجح بين موسى ويوسف - عليهما السلام - . وكان صاحب أموال كثيرة ، وله أولاد . . فابتلى فى ماله وولده وجسده ، وصبر على كل ذلك صبرا جميلا . فكافأه الله - تعالى - على صبره ، بأن أجاب دعاءه ، وآتاه أهله ومثلهم معهم . .
وقوله - سبحانه - : { واذكر عَبْدَنَآ أَيُّوبَ . . } معطوف على قوله - تعالى - قبل ذلك : { واذكر عَبْدَنَا دَاوُودَ . . . } و " النًّصْب " - بضم فسكون - وقرأ حفص ونافع - بضم النون والصاد : - التعب والمشقة مأخوذ من قولهم أنصبنى الأمر ، إذا شق عليه وأتعبه . والعذاب : الآلام الشديدة التى يحس بها الإِنسان فى بدنه . أى : واذكر - أيها الرسول الكريم - حال أخيك أيوب - عليه السلام - حين دعا ربه - تعالى - فقال : يا رب أنت تعلم أنى مسنى الشيطان بالهموم الشديد ، وبالآلام المبرحة التى حلت بجسدى فجعلتنى فى نهاية التعب والمرض .
وجمع - سبحانه - فى بيان ما أصابه بين لفظى النصب والعذاب ، للإِشارة إلى أنه قد أصيب بنوعين من المكروه : الغم الشديد بسبب زوال الخيرات التى كانت يديه ، وهو ما يشير إليه لفظ { النصب } والألم الكثير الذى حل بجسده بسبب الأمراض والأسقام ، والعلل ، وهو ما يشيير إليه لفظ { العذاب } .
ونسب ما مسه من نصب وعذاب إلى الشيطان تأدبا منه مع ربه - عز وجل - حيث أبى أن ينسب الشر إليه - سبحانه - ، وإن كان الكل من خلق الله - تعالى - .
وفى هذا النداء من أيوب لربه ، أسمى ألوان الأدب والإِجلال ، إذا اكتفى فى تضرعه بشرح حاله دون أن يزيد على ذلك ، ودون أن يقترح على خالقه - عز وجل - شيئا معينا ، أو يطلب شيئا معينا .
قال صاحب الكشاف : ألطف أيوب - عليه السلام - فى السؤال حيث ذكر نفسه بما يوجب الرحمة .
ويحكى أن عجوزا تعرضت لسليمان بن عبد الملك فقالت له : يا أمير المؤمنين ، مشت جرذان - أى فئران - بيتى على العصا ! ! فقال لها : ألطفت فى السؤال ، لا جرم لأجعلنها تثب وثب الفهود ، وملأ بيتها حبا .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - فى سورة الأنبياء : { وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضر وَأَنتَ أَرْحَمُ الراحمين } وقد ذكر بعض المفسرين هنا قصصا وأقوالا فى غاية السقوط والفساد ، حيث ذكروا أن أيوب - عليه السلام - مرض زمنا طويلا ، وأن الديدان تناثرت من جسده ، وأن لحمه قد تمزق .
وهذه كلها أقوال باطلة ، لأن الله - تعالى - عصم أنبياءه من الأمراض المنفرة ، التى تؤدى إلى ابتعاد الناس عنهم ، سواء أكانت أمراضا جسدية أم عصبية أم نفسية . .
والذى يجب اعتقاده أن الله - تعالى - قد ابتلى عبده أيوب ببعض الأمراض التى لا تتنافى مع منصب النبوة ، وقد صبر أيوب على ذلك حتى ضرب به المثل فى الصبر ، فكانت عاقبة صبره أن رفع الله - تعالى - عنه الضر والبلاء ، وأعطاه من فضله الكثير من نعمه .
يذكر تعالى عبده ورسوله أيوب عليه السلام وما كان ابتلاه تعالى به من الضر في جسده وماله وولده حتى لم يبق من جسده مَغْرز إبرة سليما سوى قلبه ولم يبق له من حال الدنيا شيء يستعين به على مرضه وما هو فيه غير أن زوجته حفظت وده لإيمانها بالله ورسوله فكانت تخدم الناس بالأجرة وتطعمه وتخدمه نحوا من ثماني عشرة سنة . وقد كان قبل ذلك في مال جزيل وأولاد وسعة طائلة من الدنيا فَسُلبَ جميع ذلك حتى آل به الحال إلى أن ألقي على مزبلة من مزابل البلدة هذه المدة بكمالها ورفضه القريب والبعيد سوى زوجته رضي الله عنها فإنها كانت لا تفارقه صباحا و لا مساء إلا بسبب خدمة الناس ثم تعود إليه قريبًا . فلما طال المطال واشتد الحال وانتهى القدر المقدور وتم الأجل المقدر تضرع إلى رب العالمين وإله المرسلين فقال : { أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } [ الأنبياء : 83 ] وفي هذه الآية الكريمة قال : رب إني مسني الشيطان بنصب وعذاب ، قيل : بنصب في بدني وعذاب في مالي وولدي .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاذْكُرْ عَبْدَنَآ أَيّوبَ إِذْ نَادَىَ رَبّهُ أَنّي مَسّنِيَ الشّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وَاذْكُرْ أيضا يا محمد عَبْدَنا أيّوبَ إذْ نادَى رَبّهُ مستغيثا به فيما نزل به من البلاء : يا ربّ إنّي مَسّنِيَ الشّيْطانُ بِنُصْبٍ فاختلفت القرّاء في قراءة قوله : بنُصْبٍ فقرأته عامة قرّاء الأمصار خلا أبي جعفر القارىء : بِنُصْبٍ بضم النون وسكون الصاد ، وقرأ ذلك أبو جعفر : بضم النون والصاد كليهما ، وقد حُكي عنه بفتح النون والصاد والنّصْب والنّصَب بمنزلة الحُزْن والحَزَن ، والعُدم والعَدَم ، والرّشْد والرّشَد ، والصّلْب والصّلَب . وكان الفرّاء يقول : إذا ضُمّ أوّله لم يثقل ، لأنهم جعلوهما على سِمَتين : إذا فتحوا أوّله ثقّلوا ، وإذا ضموا أوّله خفّفوا . قال : وأنشدني بعض العرب :
لَئِنْ بَعَثَتْ أُمّ الحُمَيْدَيْنِ مائِرا *** لَقَدْ غَنَيَتْ في غَيرِ بُؤْسٍ ولا جُحدِ
من قولهم : جَحِد عيشه : إذا ضاق واشتدّ قال : فلما قال جُحْد خَفّف . وقال بعض أهل العلم بكلام العرب من البصريين : النّصُب من العذاب . وقال : العرب تقول : أنصبني : عذّبني وبرّح بي . قال : وبعضهم يقول : نَصَبَني ، واستشهد لقيله ذلك بقول بشر بن أبي خازم :
تَعَنّاكَ نَصْبٌ مِن أُمَيْمَةَ مُنْصِبُ *** كَذِي الشّجْوِ لَمّا يَسْلُه وسيَذْهَبُ
وقال : يعني بالنّصْب : البلاء والشرّ ومنه قول نابغة بني ذُبيان :
كِلِينِي لِهَمّ يا أمَيْمَةَ ناصِبِ *** وَلَيْلٍ أُقاسِيهِ بَطِيءِ الكَوَاكِبِ
قال : والنّصَب إذا فُتحت وحُرّكت حروفها كانت من الإعياء . والنّصْب إذا فُتح أوله وسكن ثانيه : واحد أنصاب الحرم ، وكلّ ما نصب علما وكأن معنى النّصب في هذا الموضع : العلة التي نالته في جسده والعناء الذي لاقى فيه ، والعذاب في ذهاب ماله .
والصواب من القراءة في ذلك عندنا ما عليه قرّاء الأمصار ، وذلك الضمّ في النون والسكون في الصاد .
وأما التأويل فبنحو الذي قلنا فيه قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيّوبَ حتى بلغ : بِنُصْبٍ وَعَذابٍ ) : ذهاب المال والأهل ، والضرّ الذي أصابه في جسده ، قال : ابتُلِي سبع سنين وأشهرا مُلقى على كُناسة لبني إسرائيل تختلف الدوابّ في جسده ، ففرّج الله عنه ، وعظّم له الأجر ، وأحسن عليه الثناء .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : مَسّنِيَ الشّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ قال : نصب في جسدي ، وعذاب في مالي .
حُدثت عن المحاربيّ ، عن جُوَيبر ، عن الضحاك : ( أنّي مَسّنِيَ الشّيْطانُ بنُصْبٍ ) يعني : البلاء في الجسد وَعَذابٍ قوله : ( وَما أصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أيْدِيكُمْ )
{ واذكر عبدنا أيوب } هو ابن عيص بن إسحاق وامرأته ليا بنت يعقوب صلوات الله عليه . { إذ نادى ربه } بدل من { عبدنا } و { أيوب } عطف بيان له . { أني مسني } بأن مسني ، وقرأ حمزة بإسكان الياء وإسقاطها في الوصل . { الشيطان بنصب } بتعب . { وعذاب } ألم وهي حكاية لكلامه الذي ناداه به ولولا هي لقال إنه مسه ، والإسناد إلى { الشيطان } إما لأن الله مسه بذلك لما فعل بوسوسته كما قيل إنه أعجب بكثرة ماله أو استغاثة مظلوم فلم يغثه ، أو كانت مواشيه في ناحية ملك كافر فداهنه ولم يغزه ، أو لسؤاله امتحانا لصبره فيكون اعترافا بالذنب أو مراعاة للأدب ، أو لأنه وسوس إلى أتباعه حتى رفضوه وأخرجوه من ديارهم ، أو لأن المراد بالنصب والعذاب ما كان يوسوس إليه في مرضه من عظم البلاء والقنوط من الرحمة ويغريه على الجزع ، وقرأ يعقوب بفتح النون على المصدر ، وقرئ بفتحتين وهو لغة كالرشد والرشد وبضمتين للتثقيل .