التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَلَا تَتَمَنَّوۡاْ مَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بِهِۦ بَعۡضَكُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖۚ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٞ مِّمَّا ٱكۡتَسَبُواْۖ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٞ مِّمَّا ٱكۡتَسَبۡنَۚ وَسۡـَٔلُواْ ٱللَّهَ مِن فَضۡلِهِۦٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٗا} (32)

ثم نهى - سبحانه - عن التحاسد وعن تمنى ما فضل الله به بعض الناس على بعض من المال ونحوه مما يجرى فيه التنافس ، وبين - سبحانه - أنه قد جعل لكم إنسان حقا معينا فيما تركه الوالدان والأقربون فقال - تعالى - : { وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ . . . شَهِيداً } .

وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ( 32 ) وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآَتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا ( 33 )

روى المفسرون فى سبب نزول الآية الأولى روايات منها ما رواه الإِمام أحمد والترمذى عن مجاهد قال : قالت أم سلمة : يا رسول الله يغزو الرجال ولا نغزو ، ولنا نصف الميراث فأنزل الله - تعالى - { وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ } .

وقال قتادة : كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصبيان ، فلما ورثوا وجعل للذكر مثل حظ الأنثيين تمنى النساء أن لو جعل أنصباؤهن كأنصباء الرجال . وقال الرجال : إنا لنرجوا أن نفضل على النساء بحسناتنا فى الآخرة كما فضلنا عليهن فى الميراث فنزلت { وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ } .

والتمنى المنهى عنه هنا : هو الذى يتضمن معنى الطمع فيما فى يد الغير ، والحسد له على ما أعطاه الله من مال أو جاه أو غير ذلك مما يجرى فيه التنافس بين الناس وذلك لأن التمنى بهذه الصورة يؤدى إلى شقاء النفس ، وفساد الخلق والدين ، ولأنه أشبه ما يكون بالاعتراض على قسمة الخالق العليم الخبير بأحوال خلقه وبشئون عباده .

ولا يدخل فى التمنى المنهى عنه ما يسميه العلماء بالغبطة ، وهى أن يتمنى الرجل أن يكون له مثل ما عند غيره من خير دون أن ينقص شئ مما عند ذلك الغير .

قال صاحب الكشاف : قوله { وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ } نهوا عن التحاسد وعن تمنى ما فضل الله به بعض الناس على بعض من الجاه والمال ، لأن ذلك التفضيل قسمة من الله صادرة عن حكمة وتدبير وعلم بأحوال العباد ، وبما يصلح المقسوم له من بسط فى الرزق أو قبض { وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأرض } فعلى كل أحد أن يرضى بما قسم الله به ، علماً بأن ما قسم له هو مصلحته ، ولو كان خلافه لكان مفسدة له ، ولا يحسد أخاه على حظه .

وقوله - تعالى - { بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكتسبوا وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكتسبن } تعليل للنهى السابق . أى لكل من فريقى الرجال والنساء حظ مقدر مما اكتسبوه من أعمال ، ونصيب معين فيما ورثوه أو أصابوه من أموال ، وإذا كان الأمر كذلك فلا يليق بعاقل أن يتمنى خلاف ما قسم الله له من رزق ، بل عليه أن يرضى بما قسم الله له . فالله - تعالى - هو الذى قدر أرزاق الرجال والنساء على حسب ما تقتضيه حكمته وعلمه ، وهو الذى كلف كل فريق منهم بواجبات وأعمال تليق باستعداده وتكوينه .

وقوله { واسألوا الله مِن فَضْلِهِ } عطف على النهى . فكأنه قيل : لا تتمنوا ولا تتطلعوا إلى ما فى أيدى غيركم ، ولا تحسدوه على ما رزقه الله ، بل اجعلوا تجاهكم إلى الله وحده ، والتمسوا منه ما تشاءوه من نعمه الجليلة ، ومن حظوظ الدنيا والآخرة ، فهو القائل

{ مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ العزيز الحكيم } وحذف المفعول من الجملة الكريمة لإِفادة العموم . أى : واسألوا الله ما شئتم من إحسانه الزائد ، وإنعامه المتكاثر حتى تطمئن نفوسكم ، ويبتعد عنها الطمع والقلق والألم .

قال ابن كثير : قوله { واسألوا الله مِن فَضْلِهِ } أى لا تتمنوا ما فضلنا به بعضكم على بعض ؛ فإن التمنى لا يجدى شيئاً ، ولكن سلونى من فضلى أعطكم فإنى كريم وهاب . روى أبو نعيم وابن مردويه عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسأل ، وإن أحب عباد الله إلى الله للذى يحب الفرج " .

ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { إِنَّ الله كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } أى إن الله - تعالى - كان وما زال عليما بكل شئ من شئون هذا الكون ، وقد وزع - سبحانه - أرزاقه ومواهبه على عباده بمقتضى علمه وحكمته ، فجعل فيهم الغنى والفقير ، فيحتاج بعضهم إلى بعض ، وليتبادلوا المنافع التى لا غنى لهم عنها ، وكلف كل فريق منهم بما يتناسب مع تكونيه واستعداده { صُنْعَ الله الذي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ }

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَلَا تَتَمَنَّوۡاْ مَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بِهِۦ بَعۡضَكُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖۚ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٞ مِّمَّا ٱكۡتَسَبُواْۖ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٞ مِّمَّا ٱكۡتَسَبۡنَۚ وَسۡـَٔلُواْ ٱللَّهَ مِن فَضۡلِهِۦٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٗا} (32)

قال الإمام أحمد : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد قال : قالت أم سلمة : يا رسول الله ، يغزو الرجال ولا نغزو ، ولنا نصف الميراث . فأنزل الله عز وجل : { وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ }

ورواه الترمذي عن ابن أبي عمر ، عن سفيان ، عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد ، عن أمّ سلمة أنها قالت : قلت : يا رسول الله . . . فذكره ، وقال : غريب{[7384]} ورواه بعضهم عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، أن أم سلمة قالت . . .

ورواه ابن أبي حاتم ، وابن جرير وابن مَرْدُويه ، والحاكم في مستدركه ، من حديث الثوري ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : قالت أم سلمة : يا رسول الله ، لا نقاتل فنستشهد ، ولا نقطع الميراث ! فنزلت : { وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ } ثم نزلت : { أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى }{[7385]} [ آل عمران : 195 ] .

ثم قال ابن أبي حاتم : وكذا روى سفيان بن عيينة ، يعني عن ابن أبي نجيح بهذا اللفظ . وروى يحيى القطان ووكيع بن الجراح ، عن الثوري ، وعن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن أم سلمة قالت : قلت : يا رسول الله . . . وروي عن مقاتل بن حَيّان وخُصَيف نحوُ ذلك .

وروى ابن جرير من حديث ابن جريج ، عن عكرمة ومجاهد أنهما قالا أنزلت في أم سلمة .

وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن شيخ من أهل مكة قال : نزلت هذه الآية في قول النساء : ليتنا الرجال فنجاهد كما يجاهدون ونغزو في سبيل الله عز وجل .

وقال ابن أبي حاتم أيضا : حدثنا أحمد بن القاسم بن عطية ، حدثني أحمد بن عبد الرحمن ، حدثني أبي ، حدثنا الأشعث بن إسحاق ، عن جعفر - يعني ابن أبي المغيرة - عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في ] قوله[ {[7386]} { وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ } قال : أتت امرأةٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقالت : يا نبي الله ، للذكر مثل حظ الأنثيين ، وشهادة امرأتين برجل ، فنحن{[7387]} في العمل هكذا ، إن عملت امرأة حسنة كتبت لها نصف حسنة . فأنزل الله هذه الآية : { وَلا تَتَمَنَّوْا } فإنه عدل مني ، وأنا صنعته .

وقال السدي : قوله : في الآية { وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ } فإن الرجال قالوا : نريد أن يكون لنا من الأجر الضعف على أجر النساء ، كما لنا في السهام سهمان . وقالت النساء : نريد أن يكون لنا أجر مثل أجر الرجال الشهداء ، فإنا لا نستطيع أن نقاتل ، ولو كتب علينا القتال لقاتلنا فأبى الله ذلك ، ولكن قال لهم : سلوني من فضلي قال : ليس بعرض الدنيا .

وقد روي عن قتادة نحو ذلك . وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : قوله : { وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ } قال{[7388]} ولا يتمنى الرجل فيقول : " ليت لو أن لي مال فلان وأهله ! " فنهى الله عن ذلك ، ولكن يسأل الله من فضله .

وكذا قال محمد بن سيرين والحسن والضحاك وعطاء نحو ذلك{[7389]} وهو الظاهر من الآية ولا يرد على هذا ما ثبت في الصحيح : " لا حَسَد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله مالا فسَلَّطَه على هَلَكَتِهِ في الحق ، فيقول رجل : لو أن لي مثل ما لفلان لعَمِلْتُ مثله . فهما في الأجر سواء " {[7390]} فإن هذا شيء غير ما نهت الآية عنه ، وذلك أن الحديث حَضَّ على تمني مثل نعمة هذا ، والآية نهت عن تمني عين نعمة هذا ، فقال : { وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ } أي : في الأمور الدنيوية ، وكذا الدينية أيضا لحديث أم سلمة ، وابن عباس . وهكذا قال عطاء بن أبي رباح : نزلت في النهي عن تمني ما لفلان ، وفي تمني النساء أن يكن رجالا فيغزون . رواه ابن جرير .

ثم قال : { لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ } أي : كل له جزاء على عمله بحسبه ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر . وهو{[7391]} قول ابن جرير .

وقيل : المراد بذلك في الميراث ، أي : كل يرث بحسبه . رواه الترمذي{[7392]} عن ابن عباس :

ثم أرشدهم إلى ما يصلحهم فقال : { وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ } ] أي[ {[7393]} لا تتمنوا ما فضل{[7394]} به بعضكم على بعض ، فإن هذا أمر محتوم ، والتمني لا يجدي شيئًا ، ولكن سلوني من فضلي أعطكم ؛ فإني كريم وهاب .

وقد روى الترمذي ، وابن مردويه من حديث حماد بن واقد : سمعت إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سلُوا الله من فَضْلِه ؛ فإن{[7395]} الله يحب أن يسأل وإن أفضل العبادة انتظار الفرج " .

ثم قال الترمذي : كذا رواه حماد بن واقد ، وليس بالحافظ ، ورواه أبو نُعَيم ، عن إسرائيل ، عن حكيم بن جبير ، عن رجل ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وحديث أبي نعيم أشبه أن يكون أصح{[7396]}

وكذا رواه ابن مردويه من حديث وَكِيع ، عن إسرائيل . ثم رواه من حديث قيس بن الربيع ، عن حكيم بن جُبَير ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله : " سَلُوا الله من فَضْلِه ، فإن الله{[7397]} يحب أن يُسأل ، وإن أحبَّ عباده إليه الذي يُحب الفرج " {[7398]} .

ثم قال : { إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا } أي : هو عليم بمن يستحق الدنيا فيعطيه منها ، وبمن يستحق الفقر فيفقره ، وعليم بمن يستحق الآخرة فيقيضه{[7399]} لأعمالها ، وبمن يستحق الخذلان فيخذله عن تعاطي الخير وأسبابه ؛ ولهذا قال : { إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا } .


[7384]:المسند (6/322) وسنن الترمذي برقم (3022).
[7385]:تفسير الطبري (8/262) والمستدرك (2/305).
[7386]:زيادة من و.
[7387]:في أ: "أفنحن".
[7388]:في ر، أ: "يقول".
[7389]:في أ: "هذا".
[7390]:صحيح البخاري برقم (5026).
[7391]:في أ: "هذا".
[7392]:في أ: "الوالبى".
[7393]:زيادة من أ.
[7394]:في د، ر: "ما فضلنا".
[7395]:في أ: "فإنه".
[7396]:سنن الترمذي برقم (3571).
[7397]:في أ: "فإنه".
[7398]:وفي إسناده حكيم بن جبير ضعيف، واتهمه الجوزجاني بالكذب، وإنما ذلك لتشيعه.
[7399]:في أ: "فيقيض".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَلَا تَتَمَنَّوۡاْ مَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بِهِۦ بَعۡضَكُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖۚ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٞ مِّمَّا ٱكۡتَسَبُواْۖ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٞ مِّمَّا ٱكۡتَسَبۡنَۚ وَسۡـَٔلُواْ ٱللَّهَ مِن فَضۡلِهِۦٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٗا} (32)

القول في تأويل قوله { وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبوُا وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ إنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيماً }

يعني بذلك جلّ ثناؤه : ولا تتشهّوا ما فضّل الله به بعضكم على بعض ، وذكر أن ذلك نزل في نساء تَمَنِّين منازل الرجال ، وأن يكون لهم ما لهم ، فنهى الله عباده عن الأمانيّ الباطلة ، وأمرهم أن يسألوه من فضله إذ كانت الأمانيّ تورِث أهلها الحسد ، والغي بغير الحقّ .

حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا مؤمل ، قال : ثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : قالت أمّ سلمة : يا رسول الله لا نعطى الميراث ، ولا نغزو في سبيل الله فنقتل ، فنزلت { وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْض } .

حدثناأبو كريب ، قال : ثنا معاوية بن هشام ، عن سفيان الثوريّ ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : قالت أمّ سلمة : يا رسول الله : تغزو الرجال ، ولا نغزو ، وإنما لنا نصف الميراث ، فنزلت { وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبوُا وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ } ، ونزلت : { إنَّ المُسْلِمِينَ والمُسْلِماتِ } .

حدثني المثنى ، قال : ثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثنى معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : { وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ } يقول : لا يتمنى الرجل يقول : ليت أن لي مال فلان وأهله ، فنهى الله سبحانه عن ذلك ، ولكن ليسأل الله من فضله .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ } قال : قول النساء : ليتنا رجال فنغزو ، ونبلغ ما يبلغ الرجال .

حدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حذيفة ، قال : ثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ } قول النساء يتمنين ، ليتنا رجال فنغزو ، ثم ذكر مثل حديث محمد بن عمرو .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عُيينة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : قالت أمّ سلمة : أيْ رسولَ الله ، أتغزو الرجال ولا نغزو ، وإنما لنا نصف الميراث ، فنزلت وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ } .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن شيخ من أهل مكة ، قوله : { وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ } قال : كان النساء يقلن : ليتنا رجال فنجاهد كما يجاهد الرجال ، ونغزو في سبيل الله ! فقال الله : { وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ } .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن ، قال : تتمنى مال فلان ومال فلان ، وما يدريك لعلّ هلاكه في ذلك المال .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين قال : ثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة ومجاهد أنهما قالا : نزلت في أمّ سلمة ابنة أبي أمية بن المغيرة .

وبه قال : ثنى حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، قال : هو الإنسان يقول : وددت أن لي مال فلان ! قال : واسألوا الله من فضله ، وقول النساء : ليتنا رجال فنغزو ، ونبلغ ما يبلغ الرجال .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : لا يتمنّ بعضكم ما خصّ الله بعضاً من منازل الفضل . ذكر من قال ذلك : حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن مفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : { وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ } فإن الرجال قالوا : نريد أن يكون لنا من الأجر الضعف على أجر النساء ، كما لنا في السهام سهمان ، فنريد أن يكون لنا في الأجر أجران ، وقال النساء : نريد أن يكون لنا أجر مثل الرجال ، فأنا لا نستطيع أن نقاتل ، ولو كتب علينا القتال لقاتلنا .

فأنزل الله تعالى الآية ، وقال لهم : سلوا الله من فضله ، يرزقكم الأعمال ، وهو خير لكم .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن علية ، عن أيوب ، عن محمد ، قال : نهيتم عن الأمانيّ ، ودُللتم على ما هو خير منه ، واسألوا الله من فضله .

حدثني المثنى ، قال : ثنا عارم ، قال : ثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، قال : كان محمد إذا سمع الرجل يتمنى في الدنيا ، قال : قد نهاكم الله عن هذا ، { وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ } ودلكم على خير منه ، واسألوا الله من فضله .

قال أبو جعفر : فتأويل الكلام على هذا التأويل : ولا تتمنوا أيها الرجال والنساء الذي فضل الله به بعضكم على بعض من منازل الفضل ، ودرجات الخير وليرض أحدكم بما قسم الله له من نصيب ، ولكن سلو الله من فضله .

القول في تأويل قوله تعالى : { لّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ } .

اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : للرجال نصيب مما اكتسبوا من الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية ، وللنساء نصيب من ذلك مثل ذلك . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ } كان أهل الجاهلية لا يورثون المرأة شيئاً ولا الصبيّ شيئاً ، وإنما يجعلون الميراث لمن يحترف وينفع ويدفع ، فلما لحق للمرأة نصيبها وللصبيّ نصيبه ، وجعل للذكر مثل حظّ الأنثيين ، قال النساء : لو كان جعل أنصباءنا في الميراث كأنصباء الرجال ! وقال الرجال : إنا لنرجو أن نفضل على النساء بحسناتنا في الآخرة ، كما فضلنا عليهنّ في الميراث ! فأنزل الله : { لّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ } ، يقول : المرأة تجزى بحسنتها عشر أمثالها كما يجزي الرجل ، قال الله تعالى : { وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ } .

حدثني المثنى ، قال : ثنا عبد الرحمن بن أبي حماد ، قال : ثنى أبو ليلى ، قال : سمعت أبا جرير يقول : لما نزل : { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ } قالت النساء : كذلك عليهم نصيبان من الذنوب ، كما لهم نصيبان من الميراث ! فأنزل الله : { لّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ } يعني الذنوب ، واسألوا الله يا معشر النساء من فضله .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : للرجال نصيب مما اكتسبوا من ميراث موتاهم ، وللنساء نصيب منهم .

ذكر من قال ذلك : حدثنا المثنى ، قال : ثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثنى معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : { لّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ } يعني : ما ترك الوالدان والأقربون ، يقول :

{ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأُنْثَيَيْنِ }

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن أبي إسحاق ، عن عكرمة أو غيره ، في قوله : { بَعْضٍ لّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ } قال : في الميراث كانوا لا يورّثون النساء .

قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بتأويل الآية قول من قال معناه : للرجال نصيب من ثواب الله وعقابه مما اكتسبوا ، فعملوه من خير أو شرّ ، وللنساء نصيب مما اكتسبن من ذلك كما للرجال .

وإنما قلنا إن ذلك أولى بتأويل الآية من قول من قال تأويله : للرجال نصيب من الميراث ، وللنساء نصيب منه ، لأن الله جلّ ثناؤه أخبر أن لكلّ فريق من الرجال والنساء نصيباً مما اكتسب ، وليس الميراث مما اكتسبه الوارث ، وإنما هو مال أورثه الله عن ميته بغير اكتساب ، وإنما الكسب العمل ، والمكتسب : المحترف ، فغير جائز أن يكون معنى الآية ، وقد قال الله : { لّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ } للرجال نصيب مما ورثوا ، وللنساء نصيب مما ورثن ؛ لأن ذلك لو كان كذلك لقيل : للرجال نصيب مما لم يكتسبوا ، وللنساء نصيب مما لم يكتسبن .

القول في تأويل قوله تعالى : { وَاسْئَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ } . يعني بذلك جلّ ثناؤه : واسألوا الله من عونه وتوفيقه للعمل بما يرضيه عنكم من طاعته ، ففضله في هذا الموضع : توفيقه ومعونته . كما : حدثنا محمد بن مسلم الرازي ، قال : ثنا أبو جعفر النفيلي ، قال : ثنا يحيى بن يمان ، عن أشعث ، عن سعيد : { وَاسْئَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ } قال : العبادة ليست من أمر الدنيا .

حدثنا محمد بن مسلم ، قال : ثنى أبو جعفر ، قال : ثنا موسى ، عن ليث ، قال : فضله العبادة ليس من أمر الدنيا .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا هشام ، عن ليث ، عن مجاهد ، في قوله : { وَاسْئَلُواْ مِن فَضْلِهِ } قال : ليس بعرض الدنيا . حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن مفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ : { وَاسْئَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ } يرزقكم الأعمال ، وهو خير لكم . حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، قال : ثنا إسرائيل ، عن حكيم بن جبير ، عن رجل لم يسمه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سَلُوا اللّهَ مِنْ فَضْلِهِ فإنَّهُ يُحِبُّ أنْ يُسألَ ، وإنَّ مِنْ أفْضَلِ العِبادَةِ انْتِظارَالفَرَج "

القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلّ شَىْء عَلِيماً } .

يعني بذلك جلّ ثناؤه : إن الله كان بما يصلح عباده فيما قسم لهم من خير ، ورفع بعضهم فوق بعض في الدين والدنيا ، وبغير ذلك من قضائه وأحكامه فيهم { عَلِيماً } يقول : ذا علم ، ولا تتنموا غير الذي قضى لكم ، ولكن عليكم بطاعته والتسليم لأمره ، والرضا بقضائه ومسئلته من فضله .