وبعد أن ذكر - سبحانه - عباده المؤمنين بما حباهم به من منن في عزوة بدر ، ليستمروا على طاعتهم له ولرسوله . . أتبع ذلك بتوجيه الخطاب إلى الكافرين الذين حملهم الرسوخ في الكفر على أن يدعو الله أن يجعل الدائرة في بدر على أضل الفريقين فقال - تعالى - : { إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ الله مَعَ المؤمنين } .
روى الإِمام أحمد والنسائى والحاكم وصححه ، عن ثعلبة ، أن أبا جهل قال حين التقى القوم - في بدر - : اللهم أقطعنا للرحم ، وأتانا بما لا نعرفه ، فأحنه - أي فأهلكه - الغداة . فكان المستفتح .
وعن السدى أن المشركين حين خرجوا من مكة إلى بدر أخذوا بأستار الكعبة فاستنصروا الله وقالوا : اللهم انصر أهدى الجندين ، وأكرم الفئتين ، وخير القبيلتين . فقال - تعالى - { إِن تَسْتَفْتِحُواْ . . . } الآية .
قال الراغب : وقوله : { إِن تَسْتَفْتِحُواْ } أى : إن طلبتم الظفر ، أو طلبتم لافتاح أي الحكم . . والفتح إزالة الإِغلاق والإِشكال . . ويقال : فتح القضية فتاحا . أي فصل الأمر فيها وأزال الإِغلاق عنها . قال - تعالى - : { وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ . . . } والمعنى : إن تطلبوا الفتح أى : القضاء والفصل بينكم وبين أعدائكم المؤمنين { فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح } أى : فقد جاءكم الفصل والقضاء فيما طلبتم حيث حكم الله وقضى بينكم وبين المؤمنين ، بأن أعزهم ونصرهم لأنهم على الحق ، وخذلكم وأذلكم لأنكم على الباطل .
فالخطاب مسوق للكفارين على سبيل التهكم بهم ، والتوبيخ لهم ، حيث طلبوا من الله - تعالى - القضاء بينهم وبين المؤمنين ، والنصر عليهم ، فكان الأمر على عكس ما أرادوا حيث حكم الله فيهم بحكمه العادل وهو خذلانهم لكفرهم وجحودهم ، وإعلاء كلمة المؤمنين ، لأنهم على الطريق القويم .
وقوله : { وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } أى : وأن تنتهوا عن الكفر وعداوة الحق ، يكن هذا الانتهاء خيراً لكم من الكفر ومحاربة الحق .
وقوله : { وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ . . . } تحذير لهم من التمادى في الباطل بعد ترغيبهم في الانقياد للحق .
أى : { وَإِن تَعُودُواْ } إلى محاربة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين وعداوتهم { نَعُدْ } عليكم بالهزيمة والذلة . وعلى المؤمنين بالنصر والعزة ، ولن تستطيع فئتكم وجماعتكم - ولو كثرت - أن تدفع عنكم شياً من تلك الهزيمة وهذه الذلة ، فإن الكثرة والقوة لا وزن لها ولا قيمة إذا لم يكن الله مع أصحابها بعونه وتأييده .
وقوله : { وَأَنَّ الله مَعَ المؤمنين } تذييل قصد به تثبيت المؤمنين ، وإلقاء الطمأنينة في نفوسهم .
أى : وأن الله مع المؤمنين بعونه وتأييده ، ومن كان الله معه فلن يغلبه غالب مهما بلغت قوته .
قال الجمل : " قرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم بفتح " أن " والباقون بكسرها فالفتح من أوجه :
أحدها : أنه على لام العلة والمعلل تقديره ، ولأن الله مع المؤمنين كان كيت وكيت .
والثانى : أن التقدير : ولأن الله مع المؤمنين امتنع عنادهم . والثالث أنه خبر مبتدأ محذوف . أى : والأمر أن الله مع المؤمنين .
والوجه الأخير يقرب في المعنى من قراءة الكسر لأنه استئناف .
هذا وما جرينا عليه من أن الخطاب في قوله - تعالى - { إِن تَسْتَفْتِحُواْ .
. } للمشركين هو رأى جمهور المفسرين .
ومنهم من يرى أن الخطاب في الآية الكريمة للمؤمنين ، وعليه يكون المعنى : { إِن تَسْتَفْتِحُواْ . . . } أي تطلبوا - أيها المؤمنون - النصر على أعدائكم { فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح } أى : فقد جاءكم النصر من عند الله كما طلبتم .
{ وَإِن تَنتَهُواْ } أي عن المنازعة في أمر الانفال ، وعن التكاسل في طاعة الله ورسوله ، { فَهُوَ } أي هذا الانتهاء { خَيْرٌ لَّكُمْ } .
{ وَإِن تَعُودُواْ } إلى المنازعات والتكاسل { نَعُدْ } عليكم بالإِنكار وتهييج الأعداء .
{ وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ } أى : ولن تفيدكم كثرتكم شيئاً مهما كثرت إن لم يكن الله معكم بنصره .
وأن الله - تعالى - مع المؤمنين الصادقين في إيمانهم وطاعتهم له .
والذى يبدو لنا أن كون الخطاب للكافرين أرجح ، لأن أسباب النزول تؤيده ، فقد سبق أن بينا أن الكافرين عند خروجهم إلى بدر تعلقوا بأستار الكعبة وقالوا : اللهم انصر اهدى الجندين . . وأن أبا جهل قال حين التقى القوم :
اللهم أينا أقطع للرحم . . فأحنه الغداة . قال ابن جرير : فكان ذلك استفتاحه ، فأنزل الله في ذلك { إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح . . } .
ولعل مما يرجح أن الخطاب في قوله - تعالى - { إِن تَسْتَفْتِحُواْ . . . } للكافرين ، أن بعض المفسرين - كان جرير وابن كثير - ساروا في تفسيرهم للآية على ذلك ، وأهملوا الرأى القائل بأن الخطاب للمؤمنين فلم يذكروه أصلا .
أما صاحب الكشاف فقد ذكره بصيغة " وقيل " وصدر كلامه بكون الخطاب للكافرين فقال : قوله - تعالى - : { إِن تَسْتَفْتِحُواْ . . } خطاب لأهل مكة على سبيل التهكم . وذلك أنهم حين أرادوا أن ينفروا تعلقوا بأستار الكعبة وقالوا : اللهم انصر أقرانا للضيف ، وأوصلنا للرحم ، وأفكنا للعانى . . .
وبذلك نرى هذه الآيات الكريمة التي افتتحت بنداء المؤمنين ، قد أمرتهم بالثبات عند لقاء الأعداء . . وبينت لهم جوانب من مظاهر فضل الله عليهم ، ورعايته لهم . . وغربت المشركين في الانتهاء عن شركهم وعن محاربتهم للحق ، وحذرتهم من التمادى في باطلهم وطغيانهم . . وأخبرتهم في ختامها بأن الله - تعالى - مع المؤمنين بتأييده ونصره .
يقول تعالى للكفار { إِنْ تَسْتَفْتِحُوا } أي : تستنصروا وتستقضوا الله وتستحكموه أن يفصل بينكم وبين أعدائكم المؤمنين ، فقد جاءكم ما سألتم ، كما قال محمد بن إسحاق وغيره ، عن الزهري ، عن عبد الله بن ثعلبة بن صُغَيْر ؛ أن أبا جهل قال يوم بدر : اللهم أَقْطَعُنَا للرحم وآتانا بما لا نعرف{[12782]} فأحنه الغداة - وكان ذلك استفتاحا منه - فنزلت : { إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ } إلى آخر الآية .
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد - يعني ابن هارون - أخبرنا محمد بن إسحاق ، حدثني الزهري ، عن عبد الله بن ثعلبة : أن أبا جهل قال حين التقى القوم : اللهم ، أقطعنا للرحم ، وآتانا بما لا نعرف ، فأحنه الغداة ، فكان المستفتح .
وأخرجه النسائي في التفسير من حديث ، صالح بن كيسان ، عن الزهري ، به وكذا رواه الحاكم في مستدركه من طريق الزهري ، به{[12783]} وقال : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه . وروي [ نحو ]{[12784]} هذا عن ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، ويزيد بن رُومَان ، وغير واحد .
وقال السُّدِّي : كان المشركون حين خرجوا من مكة إلى بَدْر ، أخذوا بأستار الكعبة فاستنصروا الله وقالوا : اللهم انصر أعلى الجندين ، وأكرم الفئتين ، وخير القبيلتين . فقال الله : { إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ } يقول : قد نصرت ما قلتم ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هو قوله تعالى إخبارا عنهم : { وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ [ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ] } [ الأنفال : 32 ] . {[12785]}
وقوله : { وَإِنْ تَنْتَهُوا } أي : عما أنتم فيه من الكفر بالله والتكذيب لرسوله ، { فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } أي : في الدنيا والآخرة . [ وقوله ]{[12786]} { وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ } كقوله{[12787]} { وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا } [ الإسراء : 8 ]معناه : وإن عدتم إلى ما كنتم فيه من الكفر والضلالة ، نعد لكم بمثل هذه الواقعة .
وقال السدي : { وَإِنْ تَعُودُوا } أي : إلى الاستفتاح { نعد } إلى الفتح لمحمد صلى الله عليه وسلم ، والنصر له ، وتظفيره على أعدائه ، والأول أقوى .
{ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ } أي : ولو جمعتم من الجموع ما عسى أن تجمعوا ، فإن من كان الله معه فلا غالب له ، فإن الله مع المؤمنين ، وهم الحزب النبوي ، والجناب المصطفوي .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنّ اللّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ } . .
يقول تعالى ذكره للمشركين الذين حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر : إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ يعني : إن تستحكموا الله على أقطع الحزبين للرحم وأظلم الفئتين ، وتستنصروه عليه ، فقد جاءكم حكم الله ونصره المظلوم على الظالم ، والمحقّ على المبطل . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك : إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ قال : إن تستقضوا فقد جاءكم القضاء .
قال : حدثنا سويد بن عمرو الكلبي ، عن حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن عكرمة : إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ قال : إن تستقضوا فقد جاءكم القضاء .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ يعني بذلك المشركين ، إن تستنصروا فقد جاءكم المدد .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عبد الله بن كثير ، عن ابن عباس ، قوله : إنْ تَسْتَفْتِحُوا قال : إن تستقضوا القضاء ، وإنه كان يقول : وَإنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئا قلت : للمشركين ؟ قال : لا نعلمه إلاّ ذلك .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ قال : كفار قريش في قولهم : ربنا افتح بيننا وبين محمد وأصحابه ، ففتح بينهم يوم بدر .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، نحوه .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الزهري : إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ قال : استفتح أبو جهل ، فقال : اللهمّ يعني محمدا ونفسه أينا كان أفجر لك اللهمّ وأقطع للرحم فأَحِنْهُ اليوم قال الله : إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، في قوله : إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ قال : استفتح أبو جهل بن هشام ، فقال : اللهمّ أينا كان أفجر لك وأقطع للرحم فأحنه اليوم يعني محمدا عليه الصلاة والسلام ونفسه . قال الله عزّ وجلّ : إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ فضربه ابنا عفراء : عوف ومعوّذ ، وأجهز عليه ابن مسعود .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني الليث ، قال : ثني عقيل ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني عبد الله بن ثعلبة بن صعير العدويّ حليف بني زهرة ، أن المستفتح يومئذٍ أبو جهل ، وأنه قال حين التقى القوم : أينا أقطع للرحم وآتانا بما لا يُعرف فأَحِنْهُ الغداة فكان ذلك استفتاحه ، فأنزل الله في ذلك : إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ . . . الاَية .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ . . . الاَية ، يقول : قد كانت بدر قضاء وعبرة لمن اعتبر .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : كان المشركون حين خرجوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم من مكة ، أخذوا بأستار الكعبة ، واستنصروا الله ، وقالوا : اللهمّ انصر أعزّ الجندين ، وأكرم الفئتين ، وخير القبيلتين فقال الله : إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ يقول : نصرت ما قلتم ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ . . . إلى قوله : وأنّ اللّهَ مَعَ المُؤْمِنِينَ وذلك حين خرج المشركون ينظرون عيرهم ، وإن أهل العير أبا سفيان وأصحابه أرسلوا إلى المشركين بمكة يستنصرونهم ، فقال أبو جهل : أينا كان خيرا عندك فانصره وهو قوله : إنْ تَسْتَفْتِحُوا يقول : تستنصروا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ قال : إن تستفتحوا العذاب ، فعذّبوا يوم بدر ، قال : وكان استفتاحهم بمكة ، قالوا : اللّهُمّ إنْ كانَ هَذَا هُوَ الحَقّ مِنْ عِنْدِكَ فَأمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السّماءِ أوِ ائْتِنا بِعَذَابٍ ألِيمِ قال : فجاءهم العذاب يوم بدر . وأخبر عن يوم أُحد : وَإنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئا وَلَوْ كَثُرَتْ وأنّ اللّهَ مَعَ المُؤْمِنِينَ .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن مطرف ، عن عطية ، قال : قال أبو جهل يوم بدر : اللهمّ انصر أهدى الفئتين ، وخير الفئتين وأفضل فنزلت : إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ .
قال : حدثنا عبد الأعلى ، عن معمر ، عن الزهريّ ، أن أبا جهل هو الذي استفتح يوم بدر وقال : اللهمّ أينا كان أفجر وأقطع لرحمه ، فأحِنْهُ اليوم فأنزل الله : إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ .
قال : حدثنا يزيد بن هارون ، عن ابن إسحاق ، عن الزهريّ ، عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير : أن أبا جهل ، قال يوم بدر : اللهمّ أقطعنا لرحمه ، وآتانا بما لا نعرف ، فأحِنْه الغداة وكان ذلك استفتاحا منه ، فنزلت : إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ . . . الاَية .
قال : حدثنا يحيى بن آدم ، عن إبراهيم بن سعد ، عن صالح بن كيسان ، عن الزهريّ ، عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير ، قال : كان المستفتح يوم بدر أبا جهل ، قال : اللهمّ أقطعنا للرحم ، وآتانا بما لا نعرف ، فأحنه الغداة فأنزل الله : إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني محمد بن مسلم الزهري ، عن عبد الله بن ثعلبة بن صُعَير ، حليف بني زهرة ، قال : لما التقى الناس ، ودنا بعضهم من بعض ، قال أبو جهل : اللهمّ أقطعنا للرحم ، وآتانا بما لا نعرف ، فأحنه الغداة فكان هو المستفتح على نفسه .
قال ابن إسحاق : فقال الله : إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ لقول أبي جهل : اللهمّ أقطعنا للرحم ، وآتانا بما لا نعرف ، فأحنه للغداة قال : الاستفتاح : الإنصاف في الدعاء .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو معشر ، عن يزيد بن رومان وغيره ، قال أبو جهل يوم بدر : اللهمّ انصر أحبّ الدينين إليك ، ديننا العتيق ، أم دينهم الحديث فأنزل الله : إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ . . . إلى قوله : وَأنّ اللّهَ مَعَ المُؤْمِنِينَ .
وأما قوله : وَإنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ فإنه يقول : وإن تنتهوا يا معشر قريش وجماعة الكفار عن الكفر بالله ورسوله ، وقتال نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به ، فهو خير لكم في دنياكم وآخرتكم . وَإنْ تَعُودُوا نَعُدْ يقول : وإن تعودوا لحربه وقتاله وقتال أتباعه المؤمنين ، نَعُدْ : أي بمثل الواقعة التي أُوقعت بكم يوم بدر .
وقوله : وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئا وَلَوْ كَثُرَتْ يقول : وإن تعودوا نعد لهلاككم بأيدي أوليائي وهزيمتكم ، ولن تغني عنكم عند عودي لقتلكم بأيديهم وسبيكم وهزمكم فئتكم شيئا ولو كثرت ، يعني جندهم وجماعتهم من المشركين ، كما لم يغنوا عنهم يوم بدر مع كثرة عددهم وقلة عدد المؤمنين شيئا . وأنّ اللّهَ مَعَ المُؤْمِنِينَ يقول جلّ ذكره : وأن الله مع من آمن به من عباده على من كفر به منهم ، ينصرهم عليهم ، أو يظهرهم كما أظهرهم يوم بدر على المشركين .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، في قوله : وَإنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ قال : يقول لقريش : وإن تعودوا نعد لمثل الواقعة التي أصابتكم يوم بدر . وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئا وَلَوْ كَثُرَتْ وأنّ اللّهَ مَعَ المُؤْمِنِينَ : أي وإن كثر عددكم في أنفسكم لن يغني عنكم شيئا ، وأن الله مع المؤمنين ينصرهم على من خالفهم .
وقد قيل : إن معنى قوله : وَإنْ تَعُودُوا نَعُدْ وإن تعودوا للاستفتاح نعد لفتح محمد صلى الله عليه وسلم . وهذا القول لا معنى له لأن الله تعالى قد كان ضمن لنبيه عليه الصلاة والسلام حين أذن له في حرب أعدائه إظهار دينه وإعلاء كلمته من قبل أن يستفتح أبو جهل وحزبه ، فلا وجه لأن يقال والأمر كذلك إن تنتهوا عن الاستفتاح فهو خير لكم وإن تعودوا نعد لأن الله قد كان وعد نبيه صلى الله عليه وسلم الفتح بقوله : أُذنَ للّذينَ يُقاتَلُونَ بأنّهُمْ ظُلِمُوا وإنّ اللّهَ على نَصْرهِمْ لَقَديرٌ استفتح المشركون أو لم يستفتحوا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَإنْ تَعُودُوا نَعُدْ : إن تستفتحوا الثانية نفتح لمحمد صلى الله عليه وسلم . وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئا وَلَوْ كَثُرَتْ وأنّ اللّهَ مَعَ المُؤْمِنِينَ : محمد وأصحابه .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : وأنّ اللّهَ مَعَ المُؤْمِنِينَ ففتحها عامة قرّاء أهل المدينة ، بمعنى : ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت ، وأن الله مع المؤمنين . فعطف ب «أنّ » على موضع «ولو كثرت » كأنه قال : لكثرتها ، ولأن الله مع المؤمنين ويكون موضع «أن » حينئذٍ نصبا على هذا القول . وكان بعض أهل العربية يزعم أن فتحها إذا فتحت على : وأنّ اللّهَ مُوهِنُ كَيْدَ الكافِرِينَ ، وأنّ اللّهَ مَعَ المُؤْمِنِينَ عطفا بالأخرى على الأولى . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفيين والبصريين : «وإنّ اللّهَ » بكسر الألف على الابتداء ، واعتلوا بأنها في قراءة عبد الله : «وَإنّ اللّهَ لَمَعَ المُؤْمِنِينَ » .
وأولى القراءتين بالصواب ، قراءة من كسر «إن » للابتداء ، لتقضي الخبر قبل ذلك عما يقتضي قوله : وَإنّ اللّهَ مَعَ المُؤْمِنِينَ .