ثم ساق - سبحانه - ما يدل على كمال قدرته ، وشمول علمه ، فقال - تعالى - : { وَمَا نَتَنَزَّلُ . . . } .
التنزل : النزول على مهل . فإنه مطاوع نزل - بالتشديد - ، يقال : نزلته فتنزل ، إذا حدث النزول على مهل وتدرج . وقد يطلق التنزيل بمعنى النزول مطلقاً ، إلا أن المناسب هنا هو المعنى الأول .
والآية الكريمة حكاية لما قاله جبريل للنبى - صلى الله عليه وسلم - ، فقد ذكر كثير من المفسرين أن الوحى احتبس عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لفترة من الوقت بعد أن سأله المشركون أسئلة تتعلق بأصحاب الكهف . وبذى القرنين وبالروح ، حتى قال المشركون : إن رب محمد - صلى الله عليه وسلم - قد قلاه - أى : أبغضه وكرهه - فلما نزل جبريل على النبى - صلى الله عليه وسلم - بعد فترة من غياب - قيل خمسة عشر يوماً وقيل أكثر قال له : يا جبريل احتبست عنى حتى ساء ظنى واشتقت إليك فقال له جبريل : إنى كنت أشوق ولكنى عبد مأمور ، إذا بعثت جئت ، وإذا حبست احتبست ، وأنزل الله - تعالى - هذه الآية وسورة الضحى " .
وقال الآلوسى : " ولا يأبى ما تقدم فى سبب النزول ما أخرجه أحمد ، والبخارى والترمذى ، والنسائى ، وجماعة ، فى سببه عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لجبريل : ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا ؟ فنزلت : { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ . . } لجواز أن يكون - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك فى محاورته السابقة - أيضاً - ، واقتصر فى كل رواية على شىء مما وقع فى المحاورة . . . " .
والمعنى : قال جبريل للرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما سأله عن سبب احتباسه عنه لفترة من الوقت : يا محمد إنى ما أتنزل عليك وقتاً بعد وقت ، إلا بأمر ربك وإرادته ، فأنا عبده الذى لا يعصى له أمراً . . .
{ لَهُ } - سبحانه - { مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذلك } أى : له وحده جميع الجهات والأماكن ، وجميع الأزمان الحاضرة والماضية والمستقبلية ، وما بين ذلك ، فلا نقدر أن ننتقل من جهة إلى جهة ، أو من وقت إلى وقت إلا بأمر ربك ومشيئته .
فالجملة الكريمة مسوقة لبيان ملكية الله - تعالى - لكل شىء ، وقدرته على كل شىء وعلمه بكل شىء .
وقوله - تعالى - : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } مؤكد لما قبله من إثبات قدرة الله - تعالى - وعلمه .
أى : وما كان ربك - أيها الرسول الكريم - ناسيا أو تاركاً لك أو مهملاً لشأنك ، ولكنه - سبحانه - محيط بأحوالك وبأحوال جميع المخلوقات { لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }
قال ابن كثير : " قال ابن أبى حاتم : حدثنا يزيد بن محمد . . . عن أبى الدرداء يرفعه قال : " ما أحل الله فى كتابه فهو حلال ، وما حرمه هو حرام ، وما سكت عنه فهو عافية ، فاقبلوا من الله عافيته ، فإن الله لم يكن لينسى شيئاً " ثم تلا هذه الآية : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } .
قال الإمام أحمد : حدثنا يَعْلى ووكيع قالا حدثنا عمر بن ذَرّ ، عن أبيه ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل : " ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا ؟ " قال : فنزلت { وَمَا نَتَنزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ } إلى آخر الآية .
انفرد بإخراجه البخاري ، فرواه عند تفسير هذه الآية عن أبي نعيم ، عن عمر بن ذر به . ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير ، من حديث عمر بن ذر به{[18997]} وعندهما زيادة في آخر الحديث ، فكان
ذلك الجواب لمحمد صلى الله عليه وسلم .
وقال العَوْفي عن ابن عباس : احتبس جبريل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وحَزَن ، فأتاه جبريل وقال : يا محمد ، { وَمَا نَتَنزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا }
وقال مجاهد : لبث جبريل عن محمد صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة ليلة ، ويقولون [ قُلِيَ ]{[18998]} فلما جاءه قال : يا جبريل لقد رِثْتَ عليّ حتى ظن المشركون كل ظن . فنزلت : { وَمَا نَتَنزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ [ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ ]{[18999]} وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا } قال : وهذه الآية كالتي في الضحى .
وكذلك قال الضحاك بن مُزَاحم ، وقتادة ، والسدي ، وغير واحد : إنها نزلت في احتباس جبريل .
وقال الحكم بن أبان ، عن عكرمة قال : أبطأ جبريل النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين يومًا ، ثم نزل ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " ما نزلت حتى اشتقت إليك " فقال له جبريل : بل أنا كنت إليك أشوق ، ولكني مأمور ، فأوحِيَ إلى جبريل أن قل له : { وَمَا نَتَنزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ } الآية . رواه ابن أبي حاتم ، رحمه الله ، وهو غريب .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن مجاهد قال : أبطأت الرسلُ على النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم أتاه جبريل فقال له : ما حبسك يا جبريل ؟ فقال له جبريل : وكيف نأتيكم وأنتم لا تقصون أظفاركم ، ولا تُنْقُون براجمكم ، ولا تأخذون شواربكم ، ولا تستاكون ؟ ثم قرأ : { وَمَا نَتَنزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ } إلى آخر الآية .
وقد قال الطبراني : حدثنا أبو عامر النحوي ، حدثنا محمد بن إبراهيم الصوري ، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن [ الدمشقي ]{[19000]} حدثنا إسماعيل بن عياش ، أخبرني ثعلبة بن مسلم ، عن أبي كعب مولى ابن عباس ، عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم : أن جبريل أبطأ عليه ، فذكر ذلك له فقال : وكيف وأنتم لا تَسْتَنّون ، ولا تُقَلّمُون أظفاركم ، ولا تقصون شواربكم ، ولا تُنْقُون رواجبكم .
وهكذا رواه الإمام أحمد ، عن أبي اليمان ، عن إسماعيل بن عياش ، به نحوه{[19001]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا سَيَّار ، حدثنا جعفر بن سليمان ، حدثنا المغيرة بن حبيب - [ ختن ]{[19002]} مالك بن دينار - حدثني شيخ من أهل المدينة ، عن أم سلمة قالت : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أصلحي لنا المجلس ، فإنه ينزل{[19003]} ملك إلى الأرض ، لم ينزل إليها قط " {[19004]}
وقوله : { لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا } قيل : المراد ما بين أيدينا : أمر الدنيا ، وما خلفنا : أمر الآخرة ، { وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ } ما بين النفختين . هذا قول أبي العالية ، وعكرمة ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير . وقتادة ، في رواية عنهما ، والسدي ، والربيع بن أنس .
وقيل : { مَا بَيْنَ أَيْدِينَا } ما نستقبل من أمر الآخرة ، { وَمَا خَلْفَنَا } أي : ما مضى من الدنيا ، { وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ } أي : ما بين الدنيا والآخرة . يروى نحوه عن ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، والضحاك ، وقتادة ، وابن جريج ، والثوري . واختاره ابن جرير أيضًا ، والله أعلم .
وقوله : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا } قال مجاهد [ والسُّدِّيّ ]{[19005]} معناه : ما نسيك ربك .
وقد تقدم عنه أن هذه الآية كقوله : { وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى } [ الضحى : 1 - 3 ]
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا يزيد بن محمد بن عبد الصمد الدمشقي ، حدثنا محمد بن عثمان{[19006]} - يعني أبا الجماهر{[19007]} - حدثنا إسماعيل بن عياش ، حدثنا عاصم بن رجاء بن حيوة ، عن أبيه ، عن أبي الدرداء يرفعه قال : " ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت [ عنه ]{[19008]} فهو عافية ، فاقبلوا من الله عافيته ، فإن الله لم يكن لينسى{[19009]} شيئا " ثم تلا هذه الآية : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا }{[19010]}
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.