بعد أن تحدثت سورة آل عمران ، عن المعرضين عن الحق أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم كما أمر كل مؤمن أن يتوجه إليه بالضراعة . فقال تعالى : { قُلِ اللهم . . . } .
قال القرطبي : قال ابن عباس وأنس بن مالك : " لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ، ووعد أمته ملك فارس والروم ، قال المنافقون واليهود : هيهات هيهات ! من أين لمحمد ملك فارس والروم وهم أعز وأمنع من ذلك ، ألم يكف محمداً مكة والمدينة حتى طمع في ملك فارس والروم . فأنزل الله هذه الآية .
والأمر بقوله { قُلِ } للنبى صلى الله عليه وسلم ولكل من يتأتى له الخطاب من المؤمنين .
وكلمة { اللهم } يرى الخليل وسيبويه أن أصلها يا الله فلما استعملت دون حرف النداء الذى هو " يا " جعلوا هذه الميم المشددة التى فى آخرها عوضا عن حرف النداء ، وهذا التعويض من خصائص الاسم الجليل ، كما اختص بجواز الجمع فيه بين " يا " و " أل " وبقطع همزته ، ودخول تاء القسم عليه .
والمعنى . قل أيها المخاطب على سبيل التعظيم لربك ، والشكر له ، والتوكل عليه والضراعة إليه ، قل : يا الله يا مالك الملك أنت وحدك صاحب السلطان المطلق في هذا الوجود ، بحيث تتصرف فيه كيف تشاء ، إيجادا وإعداما ، وإحياء وإماتة ، وتعذيبا وإثابة ، من غير أن ينازعك في ذلك أي منازع .
فكأن في هذه الجملة الكريمة { قُلِ اللهم مَالِكَ الملك } دعاءين خاشعين :
أما الدعاء الأول فهو بلفظ الجلالة المعبر عنه بقوله { اللهم } أى يا الله ، وفى هذا النداء كل معانى العبودية والتنزيه والتقديس والخضوع .
وأما الدعاء الثاني فهو المعبر عنه بقوله { مَالِكَ الملك } أى يا مالك الملك ، وفى هذا النداء كل معانى الإحساس بالربوبية ، والضعف أمام قدرة الله وسلطانه .
فقوله { مَالِكَ } منصوب بحرف النداء المحذوف . كما في قوله { قُلِ اللهم فَاطِرَ السماوات والأرض } أى يا فاطر السموات والأرض .
ثم فصل - سبحانه - بعض مظاهر خلقه التي تدل على أنه هو مالك الملك على الحقيقة فقال - تعالى - { تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ } .
أى أنت وحدك الذي تعطى الملك من تشاء إعطاءه من عبادك ، وتنزعه ممن تشاء ، نزعه منهم ، فأنت المتصرف في شئون خلقك لا راد لقضائك ولا معقب لحكمك .
وعبر بالإيتاء الذى هو مجرد لإعطاء دون التمليك المؤذن بثبوت المالكية ، للتنبيه على أن المالكية على الحقيقة إنما هي مختصة بالله رب العالمين ، أما ما يعطيه لغيره من ملك فهو عارية مستردة ، وهو شىء زائل لا يدوم .
والتعبير عن إزالة الملك بقوله { وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ } يشعر بأنه - سبحانه - فى قدرته أن يسلب هذا العطاء من أى مخلوق مهما بلغت سعة ملكه ، ومهما اشتدت ، قوته ، وذلك لأن لفظ النزع يدل على أن المنزع منه الشىء كان متمسكا به ، فسلبه الله منه بمقتضى قدرته وحكمته .
والمراد بالملك هنا السلطان ، وقيل النبوة ، وقيل غير ذلك .
قال الفخر الرازي : وقوله { تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ } محمول على جميع أنواع الملك فيدخل فيه ملك النبوة ، وملك العقل ، والصحة ، والأخلاق الحسنة . وملك النفاذ والقدرة ، وملك المحبة ، وملك الأموال ، وذلك لأن اللفظ عام فالتخصيص من غير دليل لا يجوز " .
ومفعول المشيئة في الجملتين محذوف أى : تؤتى الملك من تشاء إيتاءه وتنزعه ممن تشاء نزعه منه .
أما الأمر الثاني الذي يدل على أنه - سبحانه - هو مالك الملك على الحقيقة فهو قوله { وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ } .
العزة - كما يقول الراغب - حالة مانعة للإنسان من أن يغلب ، من قولهم : أرض عزاز : أى صلبة ، وتعزز اللحم : اشتد وعز ، كأنه حصل في عزاز يصعب الوصول إليه . . . . والعزيز الذى يقهر ولا يغلب .
وتذل ، من الذل ، وهو ما كان عن قهر ، يقال : ذل يذل ذلا إذا قهر وغلب والعزة صفة نفسية يحس بها المؤمن الصادق في إيمانه ، لأنه يشعر دائما بأنه عبد الله وحده وليس عبدا لأحد سواه ، قال - تعالى - { وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } فالمؤمنون الصادقون أعزاء ولو كانوا في المال والجاه فقراء . أما الكافرون أذلاء ، لأنهم خضعوا لغير الله الواحد القهار .
والمعنى : أنت يا الله يا ملك الملك ، أنت وحدك الذى تؤتى الملك لمن تشاء أن تؤتيه له ، وتنزعه ممن تريد نزعه منه ، وأنت وحدك الذي تعز من تشاء إعزازه بالنصر والتوفيق ، وتذل من تشاء إذلاله بالهزيمة والخذلان ، ثم ختم - سبحانه - الآية بهذا التسليم المطلق من المؤمنين لذته فقال - تعالى - : { بِيَدِكَ الخير إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
أى أنت وحدك الذى تملك الخير كله ، وتتصرف فيه حسب إرادتك ومشيئتك ، لأنك على كل شىء قدير .
وأل في الخير للاستغراق الشامل ، إذ كل خير فهو بيده - سبحانه - وقدرته ، وتقديم الجار والمجرور { بِيَدِكَ } لإفادة الاختصاص ، أى بيدك وحدك على الحقيقة لا بيد غيرك ، وجملة " إنك على كل شيء قدير " تعليلية .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : " كيف قال { بِيَدِكَ الخير } فذكر الخير دون الشر ؟ قلت : لأن الكلام إنما وقع في الخير الذى يسوقه إلى المؤمنين وهو الذى أنكرته الكفرة فقال بيدك الخير ، تؤتيه أولياءك على رغم من أعدائك ، ولأن أفعال الله - تعالى - من نافع وضار صادر عن الحكمة والمصلحة فهو خير كله كإيتاء الملك ونزعه " .
يقول تعالى : { قُلْ } يا محمد ، معظما لربك ومتوكلا عليه ، وشاكرًا له ومفوضًا إليه : { اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ } أي : لك الملك كله { تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنزعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ } أي : أنت المعطي ، وأنت المانع ، وأنت الذي ما شئت كان وما لم تشأ لم يكن .
وفي هذه الآية تنبيه وإرشاد إلى شكر نعمة الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم وهذه الأمة ؛ لأن الله حول النبوة من بني إسرائيل إلى النبي العربي القرشي المكي الأمي خاتم الأنبياء على الإطلاق ، ورسول الله إلى جميع الثقلين الإنس والجن ، الذي جمع الله فيه محاسن من كان قبله ، وخصه بخصائص لم يُعْطهَا نبيًا من الأنبياء ولا رسولا من الرسل ، في العلم بالله وشريعته وإطلاعه على الغيوب الماضية والآتية ، وكشفه عن حقائق الآخرة ونشر أمته في الآفاق ، في مشارق الأرض ومغاربها ، وإظهار دينه وشرعه على سائر الأديان ، والشرائع ، فصلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين ، ما تعاقب الليل والنهار . ولهذا قال تعالى : { قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ [ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنزعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ]{[4924]} } أي : أنت المتصرف في خلقك ، الفعال لما تريد ، كما رد تبارك وتعالى على من يتحكم{[4925]} عليه في أمره ، حيث قال : { وَقَالُوا لَوْلا نزلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] .
قال الله تعالى ردًا عليهم : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ [ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ ] {[4926]} } الآية [ الزخرف : 32 ] أي : نحن نتصرف في خلقنا كما نريد ، بلا ممانع ولا مدافع ، ولنا الحكمة والحجة في ذلك ، وهكذا نعطي النبوة لمن نريد ، كما قال تعالى : { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [ الأنعام : 124 ] وقال تعالى : { انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ
[ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا ]{[4927]} } [ الإسراء : 21 ] وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة " إسحاق بن أحمد " من تاريخه عن المأمون الخليفة : أنه رأى في قَصْرٍ ببلاد الروم مكتوبا بالحميرية ، فعرب له ، فإذا هو : باسم الله ما اختلف الليل والنهار ، ولا دارت نجوم السماء في الفلك إلا بنقل النعيم عن مَلِك قد زال سلطانه إلى ملك . ومُلْكُ ذي العرش دائم أبدًا ليس بِفَانٍ ولا بمشترك{[4928]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.