ثم بين - سبحانه - مظهرا من مظاهر رحمته بالمؤمنين ، وتكريمهم ، فذكر أن حملة عرشه من وظائفهم الاستغفار للمؤمنين ، والدعاء لهم بالخير فقال - تعالى - :
{ الذين يَحْمِلُونَ العرش وَمَنْ حَوْلَهُ . . . }
المراد بالذين يحملون العرش : عدد من الملائكة المقربين إلى الله - تعالى - ولا يعلم عددهم أحد سوى الله - تعالى - لأنه لم يرد نص صحيح فى تحديد عددهم .
والمراد بمن حوله : عدد آخر من الملائكة يطوفون بالعرش مهللين مسبحين مكبرين لله - تعالى - كما قال - تعالى - : { وَتَرَى الملائكة حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ العرش يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ . . . } وعرش الله - تعالى - كما قال الراغب مما لا يعلمه البشر إلا بالاسم ، فعلينا أن نؤمن بان لله - تعالى - عرشا عظيما ، أما كيفيته وهيئته فنفوض معرفتها إلى الخالق - عز وجل - .
وقد ذكر هذا اللفظ فى القرآن الكريم فى إحدى وعشرين آية .
والاسم الموصول فى قوله - تعالى - : { الذين يَحْمِلُونَ العرش } مبتدأ . وخبره قوله { يُسَبِّحُونَ . . . } .
والجملة الكريمة مستأنفة ومسوقة لتسلية النبى صلى الله عليه وسلم ببيان أن هؤلاء الملائكة الذين هم أقرب الملائكة إلى الله - تعالى - يضمون إلى تسبيحهم لذاته - سبحانه - ، الاستغفار للمؤمنين ، والدعاء لهم .
وقد ذكر كثير من المفسرين كلاما طويلا فى صفة هؤلاء الملائكة وفى صفة العرش . رأينا أن نضرب عنه صفحا لضعفه وقلة فائدته .
أى : الملائكة الكرام المقربون إلينا ، والحاملون لعرشنا ، والحافون به ، من صفاتهم أنهم { يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ } أى : ينزهون الله - تعالى - عن كل نقص ، ويلهجون بحمده وبالثناء عليه بما يليق به .
{ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ } - تعالى - إيمانا تاما لا يشوبه ما يتنافى مع هذا الإِيمان والإذعان لله الواحد القهار .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما فائدة قوله - تعالى - : { وَيُؤْمِنُونَ بِهِ } ولا يخفى أن حملة العرش ومن حوله مؤمنون ؟
قلت : فائدته إظهار شرف الإِيمان وفضله ، والترغيب فيه ، كما وصف الأنبياء فى غير موضع من كتابه بالصلاح كذلك ، كما عقب أعمال الخير بقوله - تعالى - : { ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين آمَنُواْ } فأبان بذلك فضل الإِيمان .
ويستغفرون للذين آمنوا ، أى : أنهم بجانب تسبيحهم وحمدهم لربهم ، وإيمانهم به ، يتضرعون إليه - سبحانه - أن يغفر للذين آمنوا ذنوبهم .
وفى هذا الاستغفار منهم للمؤمنين ، إشعار بمحبتهم لهم ، وعنايتهم بشأنهم ، لأنهم مثلهم فى الإِيمان بوحدانية - الله تعالى - وفى وجوب إخلاص العبادة والطاعة له .
ثم حكى - سبحانه - كيفية استغفارهم للمؤمنين فقال : { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً } .
والجملة الكريمة على تقدير قول محذوف ، وهذا القول فى محل نصب على الحال من فاعل { وَيَسْتَغْفِرُونَ } وقوله { رَّحْمَةً وَعِلْماً } منصوبان على التمييز .
أى : إنهم يستغفرون للذين آمنوا ، حالة كونهم قائلين : يا ربنا يا من وسعت رحمتك ووسع علمك كل شئ ، تقبل دعاءنا .
{ فاغفر } بمقتضى سعة رحمتك وعلمك { لِلَّذِينَ تَابُواْ } إليك توبة صادقة نصوحا { واتبعوا سَبِيلَكَ } الحق ، وصراطك المستقيم .
{ وَقِهِمْ عَذَابَ الجحيم } أى : وصنهم يا ربنا واحفظهم من الوقوع فى جهنم لأن عذابها كرب عظيم .
يخبر تعالى عن الملائكة المقربين من حَمَلة العرش الأربعة ، ومن حوله من الكروبيين ، بأنهم يسبحون بحمد ربهم ، أي : يقرنون بين التسبيح الدال على نفي النقائص ، والتحميد المقتضي لإثبات صفات المدح ، { وَيُؤْمِنُونَ بِهِ } أي : خاشعون له أذلاء بين يديه ، وأنهم { يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا } أي : من أهل الأرض ممن آمن بالغيب ، فقيض الله سبحانه ملائكته المقربين أن يَدْعُوا للمؤمنين بظهر الغيب ، ولما كان هذا من سجايا الملائكة عليهم الصلاة والسلام ، كانوا يُؤمِّنون على دعاء المؤمن لأخيه بظهر الغيب ، كما ثبت في صحيح مسلم : " إذا دعا المسلم لأخيه بظهر الغيب قال الملك : آمين ولك بمثله " {[25425]} .
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن محمد - هو ابن أبي شيبة - حدثنا عبدة بن سليمان ، عن محمد بن إسحاق ، عن يعقوب بن عتبة ، عن عكرمة عن ابن عباس {[25426]} [ رضي الله عنه ] {[25427]} أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صَدّق أمية في شيء من شعره ، فقال :
رَجُلٌ وَثَور تَحْتَ رِجْل يَمينه *** وَالنَّسْرُ للأخْرَى وَلَيْثٌ مُرْصَدُ
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " صدق " . فقال :
وَالشمس تَطلعُ كل آخر لَيْلةٍ*** حَمْراءُ يُصْبحُ لَونُها يَتَوَرّدُ
تَأبَى فَما تَطلُع لَنَا في رِسْلها***إلا معَذّبَة وَإلا تُجْلدُ
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " صدق " {[25428]} .
وهذا إسناد جيد : وهو يقتضي أن حملة العرش اليوم أربعة ، فإذا كان يوم القيامة كانوا ثمانية ، كما قال تعالى : { وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ } [ الحاقة : 17 ] .
وهنا سؤال وهو أن يقال : ما الجمع بين المفهوم من هذه الآية ، ودلالة هذا الحديث ؟ وبين الحديث الذي رواه أبو داود : حدثنا محمد بن الصباح البزار ، حدثنا الوليد بن أبي ثور ، عن سِماك ، عن عبد الله بن عَمِيرة {[25429]} ، عن الأحنف بن قيس ، عن العباس بن عبد المطلب ، قال : كنت بالبطحاء في عصابة فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فمرت بهم سحابة ، فنظر إليها فقال : " ما تسمون هذه ؟ " قالوا : السحاب . قال : " والمزن ؟ " قالوا : والمزن . قال : " والعَنَان ؟ " قالوا : والعنان - قال أبو داود : ولم أتقن العنان جيدًا - قال : " هل تدرون بُعْدَ ما بين السماء والأرض ؟ " قالوا : لا ندري . قال : " بُعد ما بينهما إما واحدة ، أو اثنتان ، أو ثلاث {[25430]} وسبعون سنة ، ثم السماء فوقها كذلك " حتى عَدّ سبع سموات " ثم فوق السماء السابعة بحر {[25431]} ، بين {[25432]} أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء ، ثم فوق ذلك ثمانية أوْعَال ، بين أظلافهن ورُكبهن مثل ما بين سماء إلى سماء ، ثم على ظهورهن العرش بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء ، ثم الله ، عز وجل ، فوق ذلك " ثم رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه ، من حديث سماك بن حرب ، به {[25433]} . وقال الترمذي : حسن غريب .
وهذا يقتضي أن حملة العرش ثمانية ، كما قال شَهْر بن حَوْشَب : حملة العرش ثمانية ، أربعة يقولون : " سبحانك اللهم وبحمدك ، لك الحمد على حلمك بعد علمك " . وأربعة يقولون : " سبحانك اللهم وبحمدك ، لك الحمد على عفوك بعد قدرتك " .
ولهذا يقولون إذا استغفروا {[25434]} للذين آمنوا : { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا } أي : إن رحمتك تَسَع ذنوبهم وخطاياهم ، وعلمك محيط بجميع أعمالهم [ وأقوالهم ] {[25435]} وحركاتهم وسكناتهم ، { فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ } أي : فاصفح عن المسيئين {[25436]} إذا تابوا وأنابوا وأقلعوا عما كانوا فيه ، واتبعوا ما أمرتهم به ، من فعل الخيرات وترك المنكرات ، { وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ } أي : وزحزحهم عن عذاب الجحيم ، وهو العذاب الموجع الأليم {[25437]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.