ثم وصف - سبحانه - المؤمنين الصادقين بخمس صفات ، وبشرهم بأعلى الدرجات ، فقال في بيان صفتهم الأولى : { إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } فالجملة الكريمة مستأنفة وهى مسوقة لبيان أحوال المؤمنين الذين هم أهل الرضا الله وحسن ثوابه ، حتى يتأسى بهم غيرهم .
وقوله { وَجِلَتْ } من الوجَل وهو استشعار الخوف . يقال : وجل يوجل وجلا فهو وجل ، إذا خاف وفزع .
والمراد بذكر الله : ذكر صفاته الجليلة ، وقدرته النافذة ، ورحمته الواسعة ، وعقابه الشديد ، وعلمه المحيط بكل شئ ، وما يستتبع ذلك من حساب واثواب وعقاب .
والمعنى : إنما المؤمنون الصادقون الذين إذا ذكر اسم الله وذكرت صفاته أمامهم ، خافت قلوبهم وفزعت ، استعظاماً لجلاله وتهيبا من سلطانه ، وحذراً من عقابه ، ورغبة في ثوابه ، وذلك لقوة إيمانهم ، وصفاء نفوسهم ، وشدة مراقبتهم لله - عز وجل - وقوفهم عند أمره ونهيه . .
وقد جاء التعبير عن صفاتهم بصيغة من صيغ القصر وهى " إنما " ، للإشعار بأن من هذه صفاتهم هم المؤمنون الصادقون في إيمانهم وإخلاصهم ، أما غيرهم ممن لم تتوفر به هذه الصفات ، فأمره غير أمرهم ، وجزاؤه غير جزائهم .
قال الفخر الرازى : فإن قيل : إنه - تعالى - قال ههنا : { وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } وقال في آية أخرى : { الذين آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله أَلاَ بِذِكْرِ الله } فكيف الجمع بينهما ؟
قلنا : الاطمئنان : إنما يكون عن ثلج اليقين ، وشرح الصدر بمعرفة التوحيد ، والوجل : إنما يكون من خوف العقوبة . ولا منافاة بين هاتين الحالتين . بل نقول : هذان الوصفان اجتمعا في آية واحدة وهى قوله - تعالى : { الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله } والمعنى تقشعر الجلود من خوف عذاب الله ، ثم تلين جلودهم وقلوبهم عند رجاء ثواب الله .
والصفة الثانية من صفات هؤلاء المؤمنين الصادقين عبر عنها - سبحانه - بقوله : { وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً } .
أى أن من صفات هؤلاء المؤمنين أنهم إذا قرئت عليهم آيات الله أى : حججه وهى القرآن ؛ زادتهم إيمانا ، أى : زادتهم قوة في التصديق ، وشدة في الإِذعان ، ورسوخا في اليقين ، ونشاطا في الأعمال الصالحة ، وسعة في العالم والمعرفة .
وجاء التعبير بصيغة الفعل المبنى للمعفول في قوله : { ذُكِرَ الله } و { وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ } ، للإِيذان بأن هؤلاء المؤمنين الصادقين إذا كانوا يخافون عندما يسمعون من غيرهم آيات الله . . فإنهم يكونون أشد خوفا وفزعا عند ذكرهم لله وعند تلاوتهم لآياته بألسنتهم وقلوبهم .
فالمقصود من هذه الصيغة : مدحهم ، والثناء عليهم ، وبيان الأثر الطيب الذي يترتب على ذكر الله وعلى تلاوة آياته .
والصفة الثالثة من صفاتهم قوله - تعالى - : { وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } .
أى : أن من صفات هؤلاء المؤمنين - أيضاً - أنهم يعتمدون على ربهم الذي خلقهم بقدرته ، ورباهم بنعمته ، فيفوضون أمورهم كلها إليه وحده - سبحانه - لا إلى أحد سواه ، كما يدل عليه تقديم المتعلق على عامله .
ورحم الله الإِمام ابن كثير فقد قال عند تفسيره لهذه الجملة : أى : أنهم لا يرجون سواه ، ولا يقصدون إلا إياه ، ولا يلوذون إلا بجنابه ، لا يطلبون الحوائج إلى منه ، ولا يرغبون إلا إليه ، ويعلمون أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، وأنه المتصرف في الملك لا شريك له ، ولا معقب لحكمه وهو سريع الحساب .
ولهذا قال سعيد بن جبير : " التوكل على الله جماع الإِيمان " .
ومن الواضح عند ذوى العقول السليمة أن التوكل على الله لا ينافى الأخذ بالأسباب التي شرعها - سبحانه - بل إن الأخذ بالأسباب التي شعرها الله وأمر بها لبلوغ الغايات ، لدليل على قوة الإِيمان ، وعلى حسن طاعته - سبحانه - فيما شرعه وفيما أمر به .
وليس من الإِيمان ولا من العقل ولا من التوكل على الله أن ينتظر الإِنسان ثماراً بدون غرس ، أو شبعا بدون أكل ، أو نجاحا بدون جهد ، أو ثواباً بدون عمل صالح .
إنما المؤمن العاقل المتوكل على الله ، هو الذي يباشر الأسباب التي شرعها الله لبلوغ الأهداف مباشرة سليمة . ثم بعد ذلك يترك النتائج له - سبحانه - يُسيِّرها كيف يشاء ، وحسبما يريد . .
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } قال : المنافقون لا يدخل قلوبهم شيء من ذكر الله عند أداء فرائضه ، ولا يؤمنون بشيء من آيات الله ، ولا يتوكلون ، ولا يصلون إذا غابوا ، ولا يؤدون زكاة أموالهم ، فأخبر الله تعالى أنهم ليسوا بمؤمنين ، ثم وصف المؤمنين فقال : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } فأدوا فرائضه . { وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا } يقول : تصديقا { وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } يقول : لا يرجون غيره .
وقال مجاهد : { وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } فرقت ، أي : فزعت وخافت . وكذا قال السدي وغير واحد .
وهذه صفة المؤمن حق المؤمن ، الذي إذا ذكر الله وجل قلبه ، أي : خاف منه ، ففعل أوامره ، وترك زواجره . كقوله تعالى : { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [ آل عمران : 135 ]وكقوله تعالى : { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } [ النازعات : 40 ، 41 ]ولهذا قال سفيان الثوري : سمعت السدي يقول في قوله تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ }
قال : هو الرجل يريد أن يظلم - أو قال : يهم بمعصية - فيقال له : اتق الله فَيجل{[12652]} قلبه .
وقال الثوري أيضًا : عن عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن شهر بن حوشب ، عن أم الدرداء في قوله : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } قالت : الوجل في القلب إحراق{[12653]} السعفة ، أما تجد له قشعريرة ؟ قال : بلى . قالت لي : إذا وجدت ذلك فادع الله عند ذلك ، فإن الدعاء يذهب ذلك .
وقوله : { وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ] }{[12654]} كقوله : { وَإِذَا مَا أُنزلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } [ التوبة : 124 ]
وقد استدل البخاري وغيره من الأئمة بهذه الآية وأشباهها ، على زيادة الإيمان وتفاضله في القلوب ، كما هو مذهب جمهور الأمة ، بل قد حكى الإجماع على ذلك غير واحد من الأئمة ، كالشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وأبي عبيد ، كما بينا ذلك مستقصى في أول الشرح{[12655]} البخاري ، ولله الحمد والمنة .
{ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } أي : لا يرجون سواه ، ولا يقصدون إلا إياه ، ولا يلوذون إلا بجنابه ، ولا يطلبون الحوائج إلا منه ، ولا يرغبون إلا إليه ، ويعلمون أنه ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ، وأنه المتصرف في الملك ، وحده لا شريك له ، ولا معقب لحكمه ، وهو سريع الحساب ؛ ولهذا قال سعيد بن جبير : التوكل على الله جماع الإيمان .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.