التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّـٰمِينَ بِٱلۡقِسۡطِ شُهَدَآءَ لِلَّهِ وَلَوۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۡ أَوِ ٱلۡوَٰلِدَيۡنِ وَٱلۡأَقۡرَبِينَۚ إِن يَكُنۡ غَنِيًّا أَوۡ فَقِيرٗا فَٱللَّهُ أَوۡلَىٰ بِهِمَاۖ فَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلۡهَوَىٰٓ أَن تَعۡدِلُواْۚ وَإِن تَلۡوُۥٓاْ أَوۡ تُعۡرِضُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا} (135)

ثم وجه - سبحانه - بعد ذلك ندائين متتالين إلى المؤمنين أمرهم فيهما بالمداومة على التمسك بفضيلة العدل فى جميع الظروف والأحوال ، وبالثبات على الإِيمان الحق الذى ينالون به ثوابا لله ورضاه ، وتوعد الذين ينحرفون عن طريق الحق بسوء العاقبة فقال - تعالى - : { يَا أَيُّهَا الذين . . . . ضَلاَلاً بَعِيداً } .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ( 135 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ( 136 )

وقوله { قَوَّامِينَ } جمع قوام وهو صيغة مبالغة من قائم . والقوام : هو المبالغ فى القيام بالشئ وفى الإِتيان به على أتم وجه وأحسنه .

وقوله { شُهَدَآءَ } جمع شهيد بوزن فعيل . والأصل فى هذه الصغية أنها تدل على الصفات الراسخة فى النفس ككريم وحكيم .

والمعنى : يأيها الذين آمنوا بالحق إيمانا صادقا . كونوا مواظبين على إقامة العدل فيما بينكم فى جميع الظروف والأحوال دون أن يصرفكم عن ذلك صارف ، وكونوا " شهداء لله " أى : مقيمين للشهادة بالحق ابتغاء وجه الله لا لغرض من الأغراض الدنيوية . ولا لمطمع من المطامع الشخصية ، فإن الإِيمان الحق يسلتزم منكم أن تعدلوا فى أحكامكم وأن تؤدوا الشهادة على وجهها .

وفى ندائه - سبحانه - لهم بقوله { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ } تنبيه إلى الأمر الخير الذى ناداهم من أجله ودعاهم إلى تنفيذه وهو التزام العدالة فى كل أمورهم ، وتحريك لعاطفة الإِيمان فى قلوبهم بمقتضى وصفهم - بهذه الصفة الجليلة .

وعبر - سبحانه - بقوله { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ } بصيغة المبالغة الدالة على الكثرة والمداومة على الشئ ، لتمكين صفة العدالة فى نفوسهم ، وترسيخها فى قلوبهم .

فكأنه - سبحانه - يقول لهم : رضوا أنفسكم على التزام كلمة الحق ، وعودوها على نصرة المظلوم وخذلان الظلم ، وليكن ذلك خلقا من أخلاقكم . وسجية من سجاياكم ، فلا يكفى أن تعدلوا فى أحكامكم مرة أو مرتين ، وإنما الواجب عليكم أن تداوموا على إقامة العدل فى كل الأحوال ، ومع كل الأشخاص .

قال صاحب المنار : وهذه العبارة - وهى قوله - تعالى - { كُونُواْ قَوَّامِينَ بالقسط } أبلغ ما يمكن أن يقال فى تأكيد أمر العدل والعناية به فالأمر بالعدل والقسط مطلقا يكون بعبارات مختلفة بعضها آكد من بعض تقول : اعدلوا أو اقسطوا . وتقول : كونوا عادلين أو مقسطين . وهذه العبارة أبلغ ؛ لأنها أمر بتحصيل الصفة لا بمجرد الإِتيان بالقسط الذى يصدق بمرة .

وتقول : أقيموا القسط . وأبلغ منه : كونوا قائمين بالقسط . وأبلغ من هذا وذاك : كونوا قوامين بالقسط . أى : لتكن المبالغة والعناية بإقامة القسط على وجهه صفة من صفاتكم ، بأن تتحروه بالدقة التامة حتى تكون ملكة راسخة فى نفوسكم . والقسط يكون فى العمل كالقيام بما يجب من العدل بين الزوجات والأولاد ويكون فى الحكم بين الناس . . .

وقوله { شُهَدَآءَ } خبر ثان لكونوا . وقوله { للَّهِ } متعلق بمحذوف حال من ضمير { شُهَدَآءَ } .

أى : كونوا ملازمين للعدل فى كل أمروكم وكونوا مقيمين للشهادة على وجهها حالة كونها لوجه الله ، لا لعرض من أعراض الدنيا .

قال الفخر الرازى : وإنما قدم - سبحانه - الأمر بالقيام بالقسط على الأمر بالشهادة لوجوه :

الأول : أن أكثر الناس من عادتهم أنهم يأمرون غيرهم بالمعروف ، فإذا آل الأمر إلى أنفسهم تركوه حتى أن أقبح القبيح إذا صدر عنهم كان فى محل المسامحة وأحسن الحسن .

وإذا صدر عن غيرهم كان محل المنازعة . فالله - تعالى - نبه فى هذه الآية على سوء هذه الطريقة . وذلك أنه - سبحانه - أمرهم بالقيام بالقسط أولا ، ثم أمرهم بالشهادة على الغير ثانيا ، تنبيها على أن الطريقة الحسنة أن تكون مضايقة الإِنسان مع نفسه فوق مضايقته مع الغير .

الثانى : أن القيام بالشهادة عبارة عن دفع ضرر العقاب عن الغير ، وهو الذى عليه الحق . ودفع الضرر عن النفس مقدم على دفع الضرر عن الغير .

الثالث : أن القيام بالقسط فعل ، والشهادة قول والفعل أقوى من القول .

وقوله { وَلَوْ على أَنْفُسِكُمْ أَوِ الوالدين والأقربين } تأكيد للأمر بالتزام الحق فى الأحكام والشهادات .

أى : كونوا قوامين بالقسط ، وكونوا مقيمين للشهادة بالحق خالصة لوجه الله ، ولو كانت الشهادة على أنفسكم - بأن تقروا بأن الحق عليها إذا كان واقع الأمر كذلك - ولو كانت - أيضا . على والديكم وعلى أقرب الناس إليكم .

قال القرطبى : وشهادة المرء على نفسه إقراره بالحقوق عليها ثم ذكر الوالدين لوجوب برهما وعظم قدرهما . ثم ثنى بالأقربين إذهم مظنة المودة والتعصب فكان الأجنبى من الناس أحرى أن يقام عليه بالقسط ويشهد عليه . . . ولا خلاف بين أهل العلم فى صحة أحكام هذه الآية ، وأن شهادة الولد على الوالدين ماضية ، ولا يمنع ذلك من برهما ، بل أن يشهد عليهما ويخلصهما من الباطل . وكان من مضى من السلف الصالح يجيزون شهادة الوالدين والأخ ، لأنه لم يكن أحد يتهم فى ذلك من السلف . ثم ظهرت من الناس أمور حملت الولاة على اتهامهم ، فتركت شهادة من يتهم . وأجاز قوم شهادة بعضهم لبعض إذا كانوا عدولا .

و { لَوْ } فى قوله { وَلَوْ على أَنْفُسِكُمْ } شرطية . والجار والمجرور خبر لكان المحذوفة مع اسمها . وجواب لو محذوف . والتقدير : ولو كانت الشهادة على أنفسهم فاشهدوا علهيا بأن تقروا على أنفسكم بالحق ولا تكتموه .

وقوله - تعالى - { إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فالله أولى بِهِمَا } تأكيد لوجوب التزام الحق مع الغنى والفقير والصغير والكبير .

أى : إن يكن المشهود عليه غنيا يرجى فى العادة ويخشى أو فقيراً يترحم عليه فى الغالب ولا يخشى ، فلا تمتنعوا عن الشهادة ، لأن الله - تعالى - هو الأول والأجدر بحساب كل من الغنى والفقير ، وهو الأعلم بمصالح الناس ، والأرحم بهم منكم . وجواب الشرط محذوف ، أى : إن يكن المشهود عليه غنيا أو فقيرا فلا تتركوا الشهادة لأن الشهادة فى مصلحتهما .

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : لم ثنى الضمير فى " أولى بهما " وكان حقه أن يوحد ؛ لأن قوله : إن يكن غنيا أو فقيرا فى معنى إن يكن أحد هذين ؟

قلت قد رجع الضمير إلى ما دل عليه قوله : { إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً } لا إلى المذكور ، فلذلك ثنى ولم يفرد ، وهو جنس الغنى وجنس الفقير .

فكأنه قيل : فالله أولى بجنسى الغنى والفقير . أى : بالأغنياء والفقراء . وفى قراءة أبى : فالله أولى بهم وهى شاهدة على ذلك .

وقال ابن جرير : نزلت فى النبى صلى الله عليه وسلم إذا اختصم إليه رجلان : غنى وفقير : وكان ضعله - أى ميله - مع الفقير ؛ لأنه يرى أن الفقير لا يظلم الغنى . فأبى الله إلا أن يقوم بالقسط فى الغنى والفقير فقال : { إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فالله أولى بِهِمَا } .

والذى يستفاد من هذه الرواية ومن ظاهر الآية أن الغنى أو الفقر لا يصح أن يكونا سببا فى التفاوت فى الحكم . ويقاس عليهما غيرهما من أحوال الناس ، لأن الله - تعالى هو الذى نظم الكون بحكمته ، وهو أعلم بمصالح الناس من أنفسهم ، وجعل فيهم الغنى والفقير لأن الغنى والفقر أمران ثابتان فى هذا الوجود ، ولا يمكن أن تخلو منهما الجماعة الإِنسانية ، لأن ذلك تنظيم الله - تعالى ، وإرادته الخالدة ، وهو الذى يتقف مع الطبيعة الإِنسانية ، إذ العقول متفاوتة ، والعزائم مختلفة ، والأعمال متنوعة ، ونتيجة لذلك كانت لثمار ليست متحدة .

والمراد بالهوى فى قوله : { فَلاَ تَتَّبِعُواْ الهوى أَن تَعْدِلُواْ } الخضوع للشهوات والميل مع نزعات النفس الأمارة بالسوء .

وقوله { أَن تَعْدِلُواْ } فى موضع المفعول لأجله ويحتمل أن يكون بمعنى العدل فيكون علة للمنهى عنه ، ويكون فى الجملة مضاف مقدر . والمعنى : فلا تتبعوا الهوى والميل مع الشهوات كراهة أن تعدلوا بين الناس ويحتمل أن يكون بمعنى العدول عن الحق فيكون علة للنهى بتقدير لا ، أى : أنهاكم عن اتباع الهوى لئلا تميلوا عن الحق وتتركوا العدل .

قال ابن كثير : أى : لا يحملنكم الهوى والعصبية وبغض الناس إليكم ، على ترك العدل فى شئونكم . بل ألزموا العدل على أى حال كان . كما قال - تعالى - { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ على أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى } ومن هذا قول عبد الله بن رواحة لما بعثه النبى صلى الله عليه وسلم يخرص على أهل خيبر ثمارهم وزروعهم ، فأرادوا أن يرشوه ليرفق بهم ، فقال : والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق إلى . ولأنتم أبغض الخلق إلى . وما يحملنى حيى إياه وبغضى لكم على أن لا أعدل فيكم . فقالوا : بهذا قامت السموات والأرض .

وقوله - تعالى - { وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } تذييل قصد به تهديدهم ووعيدهم على ترك العدل ، وعلى الامتناع عن الشهادة بالحق .

قال الفخر الرازى ما ملخصه : وفى الآية قراءتان . فقد قرأ الجمهور { تَلْوُواْ } - بواوين قبلهما لام ساكنة - بمعنى الدفع والإِعراض من قولهم : لواه حقه إذا مطله ودفعه .

أو بمعنى التحريف والتبديل من قولهم لوى الشئ إذا فتله .

وقرأ ابن عامر وحمزة { تلوا } بلام مضمومة بعدها واو ساكنة - من الولاية بمعنى مباشرة الشئ والاشتغال به .

والمعنى على قراءة الجمهور : وإن تلووا ألسنتكم عن الشهادة بالحق بأن تحرفوها وتقيموها على غير وجهتها أو تعرضوا عنها رأسا وتتركوها يعاقبكم الله عقابا شديدا فإنه - سبحانه - عليم بدقائق الأشياء ، خبير بخفايا النفوس ، وسيجازى كل إنسان بما يستحقه .

والمعنى على القراءة الثانية : وإن تلوا الشهادة فتباشروها على وجهها يعطكم الله أجرا حسنا ، ون تعرضوا عنها وتتركوها بعاقبكم الله عقابا أليما ، فإن الله - تعالى - خبير بكل أقوالكم وأعمالكم . وقيل : إن القراءتين بمعنى واحد لأن أصل ( تلوا ) - وهى قراءة حمزة وابن عامر - تلْووا - وهى قراءة الجمهور - نقلت حركة الواو - فى قراءة الجمهور - إلى الساكن قبلهما فالتقى واوان ساكنان فحذفت إحداهما فصارت الكلمة ( تلوا ) .

هذا ، والمتأمل فى هذه الآية الكريمة يراها تبنى المجتمع الإِسلامى على أقوى القواعد ، وأمتن الأسس وأشرف المبادئ . إنها تبنيه على قواعد العدل والقسط ، وتأمر المؤمنين أن يلتزموا كملة الحق مع أنفسهم ومع أقرب المقربين إليهم مهما تكلفوا فى ذلك من جهاد شاق يقتضيه التزام الحق ، فإن كلمة الحق كثيرا ما تجعل صاحبها عرضة للإِيذاء والاعتداء والاتهام بالباطل من الأشرار والفجار . بل إن كلمة الحق قد تفضى بصاحبها إلى الموت . ولكن لا بأس ، فإن الموت مع التمسك بالحق ، خير من الحياة فى ظلمات الباطل .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّـٰمِينَ بِٱلۡقِسۡطِ شُهَدَآءَ لِلَّهِ وَلَوۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۡ أَوِ ٱلۡوَٰلِدَيۡنِ وَٱلۡأَقۡرَبِينَۚ إِن يَكُنۡ غَنِيًّا أَوۡ فَقِيرٗا فَٱللَّهُ أَوۡلَىٰ بِهِمَاۖ فَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلۡهَوَىٰٓ أَن تَعۡدِلُواْۚ وَإِن تَلۡوُۥٓاْ أَوۡ تُعۡرِضُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا} (135)

135

( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله - ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين - إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما ؛ فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا . وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرًا ) . .

إنه نداء للذين آمنوا . نداء لهم بصفتهم الجديدة . وهي صفتهم الفريدة . صفتهم التي بها أنشئوا نشأة أخرى ؛ وولدوا ميلاد آخر . ولدت أرواحهم ، وولدت تصوراتهم ، وولدت مبادئهم وأهدافهم ، وولدت معهم المهمة الجديدة التي تناط بهم ، والأمانة العظيمة التي وكلت إليهم . . أمانة القوامة على البشرية ، والحكم بين الناس بالعدل . . ومن ثم كان للنداء بهذه الصفة قيمته وكان له معناه : يا أيها الذين آمنوا . . . فبسبب من اتصافهم بهذه الصفة ، كان التكليف بهذه الأمانة الكبرى . وبسبب من اتصافهم بهذه الصفة كان التهيؤ والاستعداد للنهوض بهذه الأمانة الكبرى . .

وهي لمسة من لمسات المنهج التربوي الحكيم ؛ تسبق التكليف الشاق الثقيل :

كونوا قوامين بالقسط ، شهداء لله - ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين . إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهمًا . .

إنها أمانة القيام بالقسط . . بالقسط على إطلاقه . في كل حال وفي كل مجال . القسط الذي يمنع البغي والظلم - في الأرض - والذي يكفل العدل - بين الناس - والذي يعطي كل ذي حق حقه من المسلمين وغير المسلمين . . ففي هذا الحق يتساوى عند الله المؤمنون وغير المؤمنين - كما رأينا في قصة اليهودي - ويتساوى الأقارب والأباعد . ويتساوى الأصدقاء والأعداء . ويتساوى الأغنياء والفقراء . .

( كونوا قوامين بالقسط ، شهداء لله ) . .

حسبة لله . وتعاملا مباشرا معه . لا لحساب أحد من المشهود لهم أو عليهم . ولا لمصلحة فرد أو جماعة أو أمة . ولا تعاملا مع الملابسات المحيطة بأي عنصر من عناصر القضية . ولكن شهادة لله ، وتعاملا مع الله . وتجردا من كل ميل ، ومن كل هوى ، ومن كل مصلحة ، ومن كل اعتبار .

( ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين ) . .

وهنا يحاول المنهج تجنيد النفس في وجه ذاتها ، وفي وجه عواطفها ، تجاه ذاتها أولا ، وتجاه الوالدين والأقربين ثانيا . . وهي محاولة شاقة . . أشق كثيرا من نطقها باللسان ، ومن إدراك معناها ومدلولها بالعقل . . إن مزاولتها عمليا شيء آخر غير إدركها عقليا . ولا يعرف هذا الذي نقوله إلا من يحاول أن يزاول هذه التجربة واقعيا . . ولكن المنهج يجند النفس المؤمنة لهذه التجربة الشاقة . لأنها لا بد أن توجد . لا بد ان توجد في الأرض هذه القاعدة . ولا بد أن يقيمها ناس من البشر .

ثم هو يجند النفس كذلك في وجه مشاعرها الفطرية أو الاجتماعية ؛ حين يكون المشهود له أو عليه فقيرا ، تشفق النفس من شهادة الحق ضده ، وتود أن تشهد له معاونة لضعفه . أو من يكون فقره مدعاة للشهادة ضده بحكم الرواسب النفسية الاجتماعية كما هو الحال في المجتمعات الجاهلية . وحين يكون المشهود له أو عليه غنيا ؛ تقتضي الأوضاع الاجتماعية مجاملته . أو قد يثير غناه وتبطره النفس ضده فتحاول أن تشهد ضده ! وهي مشاعر فطرية أو مقتضيات اجتماعية لها ثقلها حين يواجهها الناس في عالم الواقع . . والمنهج يجند النفس تجاهها كذلك كما جندها تجاه حب الذات ، وحب الوالدين والأقربين .

( إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما ) . .

وهي محاولة شاقة . . ولا نفتأ نكرر أنها محاولة شاقة . . وأن الإسلام حين دفع نفوس المؤمنين - في عالم الواقع - إلى هذه الذروة ، التي تشهد بها تجارب الواقع التي وعاها التاريخ - كان ينشى ء معجزة حقيقية في عالم البشرية . معجزة لا تقع إلا في ظل هذا المنهج الإلهي العظيم القويم .

( فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا ) . .

والهوى صنوف شتى ذكر منها بعضها . . حب الذات هوى . وحب الأهل والأقربين هوى . والعطف على الفقير - في موطن الشهادة والحكم - هوى . ومجاملة الغني هوى . ومضارته هوى . والتعصب للعشيرة والقبيلة والأمة والدولة والوطن - في موضع الشهادة والحكم - هوى . وكراهة الأعداء ولو كانوا أعداء الدين - في موطن الشهادة والحكم - هوى . . وأهواء شتى الصنوف والألوان . . كلها مما ينهي الله الذين آمنوا عن التأثر بها ، والعدول عن الحق والصدق تحت تأثيرها .

وأخيرًا يجيء التهديد والإنذار والوعيد من تحريف الشهادة ، والإعراض عن هذا التوجيه فيها . .

وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرًا . .

ويكفي أن يتذكر المؤمن أن الله خبير بما يعمل ، ليستشعر ماذا وراء هذا من تهديد خطير ، يرتجف له كيانه . . فقد كان الله يخاطب بهذا القرآن المؤمنين !

حدث أن عبدالله بن رواحة - رضي الله عنه - لما بعثه رسول الله [ ص ] يقدر على أهل خيبر محصولهم من الثمار والزروع لمقاسمتهم إياها مناصفة ، حسب عهد رسول الله [ ص ] بعد فتح خيبر . . أن حاول اليهود رشوته ليرفق بهم ! فقال لهم : " والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق إلي .

لقد كان - رضي الله عنه - قد تخرج في مدرسة الرسول [ ص ] على المنهج الرباني المنفرد . وكان إنسانا من البشر خاض هذه التجربة الشاقة ونجح ؛ وحقق - كما حقق الكثيرون غيره في ظل ذلك المنهج - تلك المعجزة التي لا تقع إلا في ظل ذلك المنهج !

ولقد مضت القرون تلو القرون بعد تلك الفترة العجيبة ؛ وحفلت المكتبات بكتب الفقه والقانون ؛ وحفلت الحياة بالتنظيمات والتشكيلات القضائية ؛ وضبط الإجراءات والشكليات التنظيمية . وامتلأت الرؤوس بالكلام عن العدالة ؛ وامتلأت الأفواه بالحديث عن إجراءاتها الطويلة . . ووجدت نظريات وهيئات وتشكيلات منوعة لضبط هذا كله . .

ولكن التذوق الحقيقي لمعنى العدالة ؛ والتحقق الواقعي لهذا المعنى في ضمائر الناس وفي حياتهم ؛ والوصول إلى هذه الذروة السامقة الوضيئة . . لم يقع إلا في ذلك المنهج . . في تلك الفترة العجيبة في ذروة القمة . . وبعدها على مدار التاريخ في الأرض التي قام فيها الإسلام . وفي القلوب التي عمرت بهذه العقيدة . وفي الجماعات والأفراد التي تخرجت على هذا المنهج الفريد .

وهذه حقيقة ينبغي أن يتنبه إليها الذين يؤخذون بالتشكيلات القضائية التي جدت ؛ وبالإجراءات القضائية التي استحدثت ؛ وبالأنظمة والاوضاع القضائية التي نمت وتعقدت . فيحسبون أن هذا كله أقمن بتحقيق العدالة وأضمن مما كان في تلك الإجراءات البسيطة في تلك الفترة الفريدة ! في تلك القرون البعيدة ! وأن الأمور اليوم أضبط وأحكم مما كانت على صورتها البسيطة !

هذا وهم تنشئه الأشكال والأحجام في تصورات من لا يدركون حقائق الأشياء والأوضاع . . إن المنهج الرباني وحده هو الذي يبلغ بالناس ما بلغ على بساطة الأشكال وبساطة الأوضاع . . وهو وحده الذي يمكن أن يبلغ بالناس هذا المستوى على ما استحدث من الأشكال والأوضاع !

وليس معنى هذا أن نلغي التنظيمات القضائية الجديدة . ولكن معناه أن نعرف أن القيمة ليست للتنظيمات . ولكن للروح التي وراءها . أيا كان شكلها وحجمها وزمانها ومكانها . . والفضل للأفضل بغض النظر عن الزمان والمكان ! ! !

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّـٰمِينَ بِٱلۡقِسۡطِ شُهَدَآءَ لِلَّهِ وَلَوۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۡ أَوِ ٱلۡوَٰلِدَيۡنِ وَٱلۡأَقۡرَبِينَۚ إِن يَكُنۡ غَنِيًّا أَوۡ فَقِيرٗا فَٱللَّهُ أَوۡلَىٰ بِهِمَاۖ فَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلۡهَوَىٰٓ أَن تَعۡدِلُواْۚ وَإِن تَلۡوُۥٓاْ أَوۡ تُعۡرِضُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا} (135)

انتقال من الأمر بالعدل في أحوال معيّنة من معاملات اليتامى والنساء إلى الأمر بالعدل الذي يعمّ الأحوال كلّها ، وما يقارنه من الشهادة الصادقة ، فإنّ العدل في الحكم وأداء الشهادة بالحقّ هو قوام صلاح المجتمع الإسلامي ، والانحراف عن ذلك ولو قيد أنملة يَجرّ إلى فساد متسلسل .

وصيغة { قوّامين } دالّة على الكثرة المراد لازمها ، وهو عدم الإخلال بهذا القيام في حال من الأحوال .

والقِسط العدل ، وقد تقدّم عند قوله تعالى : { قائماً بالقسط } في سورة آل عمران ( 18 ) . وعدل عن لفظ العدل إلى كلمة القسط لأنّ القسط كلمة معرّبَة أدخلت في كلام العرب لدلالتها في اللغة المنقولة منها على العدل في الحُكم ، وأمّا لفظ العدل فأعمّ من ذلك ، ويدلّ لذلك تعقيبه بقوله : { شُهداء لله } فإنّ الشهادة من علائق القضاء والحكممِ .

و { لله } ظرف مستقرّ حال من ضمير { شهداء } أي لأجل الله ، وليست لام تعدية { شهداء } إلى مفعوله ، ولم يذكر تعلّق المشهود له بمتعلَّقه وهو وصف { شهداء } لإشعار الوصف بتعيينه ، أي المشهود له بحقّ . وقد جمعت الآية أصليَ التحاكم ، وهما القضاء والشهادة .

وجملة { ولو على أنفسكم } حالية ، و ( لو ) فيها وصلية ، وقد مضى القول في تحقيق موقع ( لو ) الوصلية عند قوله تعالى : { فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به } في سورة آل عمران ( 91 ) .

ويتعلّق { على أنفسكم } بكلَ من { قوّامين } و { شُهداء } ليشمل القضاء والشهادة .

والأنفس : جمع نفس ؛ وأصلها أن تطلق على الذات ، ويطلقها العرب أيضاً على صميم القبيلة ، فيقولون : هو من بني فلان من أنفسهم .

فيجوز أن يكون { أنفسكم } هنا بالمعنى المستعمل به غالباً ، أي : قوموا بالعدل على أنفسكم ، واشهدوا لله على أنفسكم ، أي قضاء غالباً لأنفسكم وشهادة غالبة لأنفسكم ، لأنّ حرف ( على ) مؤذن بأنّ متعلّقة شديد فيه كلفة على المجرور بعلى ، أي ولو كان قضاء القاضي منكم وشهادة الشاهد منكم بما فيه ضرّ وكراهة للقاضي والشاهد ، وهذا أقصى ما يبالغ عليه في الشدّة والأذى ، لأنّ أشقّ شيء على المرء ما يناله من أذى وضرّ في ذاته ، ثمّ ذكر بعد ذلك الوالدان والأقربون لأنّ أقضية القاضي وشهادة الشاهد فيما يلحق ضرّاً ومشقّة بوالديه وقرابته أكثر من قضائه وشهادته فيما يؤول بذلك على نفسه .

ويجوز أن يراد : ولو على قبيلتكم أو والديكم وقرابتكم . وموقع المبالغة المستفادة من ( لو ) الوصلية أنّه كان من عادة العرب أن ينتصروا بمواليهم من القبائل ويدفعوا عنهم ما يكرهونه ، ويرون ذلك من إباء الضيم ، ويرون ذلك حقّاً عليهم ، ويعدّون التقصير في ذلك مسبّة وعاراً يقضي منه العجب . قال مرّة بن عداء الفقسي :

رأيت مواليّ الآلَى يخذلونَني *** على حدثان الدهر إذ يتقلب

ويعدّون الاهتمام بالآباء والأبناء في الدرجة الثانية ، حتّى يقولون في الدعاء : ( فذاك أبي وأمي ) ، فكانت الآية تبطل هذه الحميّة وتبعث المسلمين على الانتصار للحقّ والدفاع عن المظلوم .

فإن أبيتَ إلاّ جعل الأنفس بمعنى ذوات الشاهديِنَ فاجعل عطف « الوالدين والأقربين » بعد ذلك لقصد الاحتراس لئلاّ يظنّ أحد أنّه يشهد بالحقّ على نفسه لأنّ ذلك حقّه ، فهو أمير نفسه فيه ، وأنّه لا يصلح له أن يشهد على والديه أو أقاربه لما في ذلك من المسبّة والمعرّة أو التأثمّ ، وعلى هذا تكون الشهادة مستعملة في معنى مشترك بين الإقرار والشهادة ، كقوله : { شهد الله أنّه لا إله إلاّ هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط } [ آل عمران : 18 ] .

وقوله { إن يكن غنياً أو فقيراً } استئناف واقع موقع العلّة لمجموع جملة { كونوا قوّامين بالقسط شهداء لله } : أي إن يكن المُقْسَط في حقّه ، أو المشهودُ له ، غنيّاً أو فقيراً ، فلا يكن غناه ولا فقره سبباً للقضاء له أو عليه والشهادة له أو عليه . والمقصود من ذلك التحذير من التأثّر بأحوال يَلتبس فيها الباطل بالحقّ لما يحفّ بها من عوارض يتوهّم أنّ رعيها ضرب من إقامة المصالح ، وحراسة العدالة ، فلمّا أبطلت الآية التي قبلها التأثّر للحميّة أعقبت بهذه الآية لإبطال التأثّر بالمظاهر التي تستجلب النفوسَ إلى مراعاتها فيتمحّض نظرها إليها . وتُغضي بسببها عن تمييز الحقّ من الباطل . وتذهل عنه ، فمن النفوس من يَتوهّم أنّ الغنى يربأ بصاحبه عن أخذ حقّ غيره ، يقول في نفسه : هذا في غنية عن أكل حقّ غيره ، وقد أنعم الله عليه بعدم الحاجة . ومن الناس من يميل إلى الفقير رقّة له ، فيحسبه مظلوماً ، أو يحسب أنّ القضاء له بمال الغنيّ لا يضرّ الغنيّ شيئاً ؛ فنهاهم الله عن هذه التأثيرات بكلمة جامعة وهي قوله : { إن يكن غنياً أو فقيراً فاللهُ أولى بهما } . وهذا الترديد صالح لكلّ من أصحاب هذين التوهّمين ، فالذي يعظّم الغنيّ يَدحض لأجله حقّ الفقير ، والذي يَرقّ للفقير يَدحض لأجله حقّ الغنيّ ، وكِلاَ ذلك باطل ، فإنّ الذي يراعي حال الغنيّ والفقير ويقدّر إصلاح حال الفريقين هو الله تعالى .

فقوله : { فالله أولى بهما } ليس هو الجواب ، ولكنّه دليله وعلّته ، والتقدير : فلا يهمّكم أمرهما عند التقاضي ، فالله أولى بالنظر في شأنهما ، وإنّما عليكم النظر في الحقّ .

ولذلك فرّع عليه قوله : { فلا تتّبعوا الهوى أن تعدلوا } فجعل الميل نحو الموالي والأقارب من الهوى ، والنظر إلى الفقر والغنى من الهوى .

والغنيّ : ضد الفقير ، فالغِنَى هو عدم إلى الاحتياج إلى شيء ، وهو مقول عليه بالتفاوت ، فيُعْرَف بالمتعلّق كقوله : « كلانا غَنيّ عَن أخيه حياتَه » ، ويُعْرف بالعرف يقال : فلان غني ، بمعنى له ثروة يستطيع بها تحصيل حاجاته من غير فضل لأحد عليه ، فوجدان أجور الأجرَاء غنى ، وإن كان المستأجر محتاجاً إلى الأجراء ، لأنّ وجدان الأجور يجعله كغير المحتاج ، والغنى المطلق لا يكون إلاّ الله تعالى .

والفقير : هو المحتاج إلاّ أنه يقال افتقر إلى كذا ، بالتخصيص ، فإذا قيل : هو فقير ، فمعناه في العرف أنّه كثير الاحتياج إلى فضل الناس ، أو إلى الصبر على الحاجة لقلّة ثروته ، وكلّ مخلوق فقيرٌ فقراً نسبياً ، قال تعالى : { والله الغني وأنتم الفقراء } [ محمد : 38 ] .

واسم { يكن } ضمير مستتر عائد إلى معلوم من السياق ، يدلّ عليه قوله : { قوّامين بالقسط شهداء لله } من معنى التخاصم والتقاضي . والتقدير : أن يكن أحد الخصمين من أهل هذا الوصف أو هذا الوصف ، والمراد الجنسان ، و ( أو ) للتقسيم ، وتثنية الضمير في قوله : { فالله أولى بهما } لأنّه عائد إلى « غنياً وفقيراً » باعتبار الجنس ، إذ ليس القصد إلى فرد معيّن ذي غني ، ولا إلى فرد معيّين ذي فقر ، بل فرد شائع في هذا الجنس وفي ذلك الجنس .

وقوله : { أن تعدلوا } محذوف منه حرف الجرّ ، كما هو الشأن مع أن المصدرية ، فاحتمل أن يكون المحذوف لام التعليل فيكون تعليلاً للنهي ، أي لا تتّبعوا الهوى لتعدلوا ، واحتمل أن يكون المحذوف ( عن ) ، أي فلا تتّبعوا الهوى عن العدل ، أي معرضين عنه . وقد عرفتُ قاضياً لا مطعن في ثقته وتنزّهه ، ولكنّه كان مُبتلًى باعتقاد أنّ مظنّة القدرة والسلطان ليسوا إلاّ ظلمة : من أغنياء أو رجال . فكان يعتبر هذين الصنفين محقوقين فلا يستوفي التأمّل من حججهما .

وبعد أن أمر الله تعالى ونهى وحذّر ، عقّب ذلك كلّه بالتهديد فقال : { وإن تَلْوا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً } .

وقرأ الجمهور : { تَلْوُوا } بلام ساكنة وواوين بعدها ، أولاهما مضمومة فهو مضارع لَوَى ، واللّي : الفَتل والثَّنْي . وتفرّعت من هذا المعنى الحقيقي معان شاعت فساوت الحقيقة ، منها : عدول عن جانب وإقبالٌ على جانب آخر فإذا عُدّي بعن فهو انصراف عن المجرور بعن ، وإذا عديّ بإلى فهو انصراف عن جانب كان فيه ، وإقبالٌ على المجرور بعلى ، قال تعالى : { ولا تَلْوُون على أحد } [ آل عمران : 153 ] أي لا تعطفون على أحد . ومن معانيه : لوى عن الأمر تثاقل ، ولوى أمره عنّي أخفاه ، ومنها : ليّ اللسان ، أي تحريف الكلام في النطق به أو في معانيه ، وتقدّم عند قوله تعالى : { يَلْوُون ألسنتهم بالكتاب } في سورة آل عمران ( 78 ) ، وقولِه : { ليَّا بألسنتهم } في هذه السورة ( 46 ) . فموقع فعل { تَلووا } هنا موقع بليغ لأنّه صالح لتقدير متعلِّقِه المحذوففِ مجروراً بحرف ( عن ) أو مجروراً بحرف ( على ) فيشمل معاني العدول عن الحقّ في الحكم ، والعدول عن الصدق في الشهادة ، أو التثاقل في تمكين المحقّ من حقّه وأداء الشهادة لطالبها ، أو الميْل في أحد الخصمين في القضاء والشهادة . وأمّا الإعراض فهو الامتناع من القضاء ومن أداء الشهادة والمماطلة في الحكم مع ظهور الحقّ ، وهو غير الليّ كما رأيت . وقرأه ابن عامر ، وحمزة ، وخلف : { وأن تَلُوا } بلام مضمومة بعدها واو ساكنة فقيل : هو مضارع وَلِيَ الأمرَ ، أي باشره . فالمعنى : وإن تلوا القضاء بين الخصوم ، فيكون راجعاً إلى قوله : { أن تعدلوا } ولا يتّجه رجوعه إلى الشهادة ، إذ ليس أداء الشهادة بولاية . والوجه أنّ هذه القراءة تخفيف { تَلْوُوا } نقلت حركة الواو إلى الساكن قبلها فالتقى واوان ساكنان فحذف أحدهما ، ويكون معنى القراءتين واحداً .

وقوله : { فإنّ الله كان بما تعملون خبيراً } كناية عن وعيد ، لأنّ الخبير بفاعل السوء ، وهو قدير ، لا يعوزه أن يعذبّه على ذلك . وأكّدت الجملةُ ب« إنّ » و« كَانَ » .