ثم بين - سبحانه - بعد ذلك جانبا من مظاهر قدرته وحكمته ، وابتلائه لعباده بشتى أنواع الابتلاء ، ليتميز قوى الإِيمان من ضعيفه .
{ وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ النار إِلاَّ مَلاَئِكَةً . . . } .
قال الإِمام ابن كثير : يقول الله - تعالى - : { وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ النار } أى : خزانها { إِلاَّ مَلاَئِكَةً } أى : غلاظا شدادا . وذلك رد على مشركى قريش حين ذكر عدد الخزنة . فقال أبو جهل : يا معشر قريش ، أما يستطيع كل عشرة منكم لواحد منهم فتغلبونهم ؟ فقال الله - تعالى - :
{ وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ النار إِلاَّ مَلاَئِكَةً } أى : شديدى الخلق لا يقاومون ولا يغالبون .
وقد قيل : إن أبا الأشد - واسمه : كلدة بن أسيد بن خلف - قال : يا معشر قريش ، اكفونى منهم اثنين وأنا أكفيكم سبعة عشر ، إعجابا منه بنفسه ، وكان قد بلغ من القوة - فيما يزعمون - أنه كان يقف على جلد البقرة ، ويجاذبه عشرة لينتزعوه من تحت قدميه ، فيتمزق الجلد ، ولا يتزحزح عنه . .
وقال الجمل فى حاشيته : قال ابن عباس : لما نزلت هذه الآية { عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } قال أبو جهل لقريش : ثكلتكم أمهاتكم ! محمد صلى الله عليه وسلم يخبر أن خزنة النار تسعة عشر ، وأنتم الشجعان ، أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد منكم ؟
فقال أبو الأشد : أنا أكفيكم منهم سبعة عشر ، عشرة على ظهرى ، وسبعة على بطنى .
وأكفونى أنتم اثنين . . فأنزل الله - تعالى - : { وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ النار إِلاَّ مَلاَئِكَةً . . } .
والمقصود من هذه الآية الكريمة الرد على المشركين ، الذين سخروا من النبى صلى الله عليه وسلم عندما عرفوا منه أن على سقر تسعة عشر ملكا يتولون أمرها . .
أى : أننا أوجدنا النار لعذاب الكافرين ، وما جعلنا خزنتها إلا من الملائكة الغلاظ الشداد ، الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، والذين لا قدرة لأحد من البشر على مقاومتهم أو مخالفة أمرهم ، لأنهم أشد بأسا ، وأقوى بطشا من كافة الإِنس والجن . .
والاستثناء من عموم الأنواع . أى : وما جعلنا أصحاب النار إلا من نوع الملائكة ، الذين لا قدرة لأحد من البشر على مقاومتهم . .
وقوله - سبحانه - : { وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ } بيان لحكمة أخرى من ذكر هذا العدد . .
والفتنة بمعنى الاختبار والامتحان . تقول : فتنت الذهب بالنار ، أى : اختبرته بها ، لتعلم جودته من رداءته . وقوله : { إِلاَّ فِتْنَةً } مفعول ثان لقوله { جَعَلْنَا } والكلام على حذف مضاف . .
أى : وما جعلنا عدة خزنة النار تسعة عشر ، إلا ليكون هذا العدد سبب فتنة واختبار للذين كفروا ، ولقد زادهم هذا الامتحان والاختبار جحودا وضلالا ، ومن مظاهر ذلك أنهم استهزأوا بالنبى صلى الله عليه وسلم عندما قرأ عليهم القرآن ، فحق عليهم عذابنا ووعيدنا . .
قال الإِمام الرازى : وإنما صار هذا العدد سببا لفتنة الكفار من وجهين : الأول أن الكفار كانوا يستهزئون ويقولون : لم لا يكونون عشرين - بدلا من تسعة عشر - وما المقتضى لتخصيص هذا العدد ؟
والثانى أن الكفار كانوا يقولون : هذا العدد القليل ، كيف يكون وافيا بتعذيب أكثر العالم من الجن والإِنس .
وأجيب عن الأول : بأن هذا السؤال لازم على كل عدد يفرض ، وأفعال الله - تعالى - لا تعلل ، فلا يقال فيها لم كان هذا العدد ، فإن ذكره لحكمة لا يعلمها إلا هو - سبحانه - .
وأجيب عن الثانى : بأنه لا يبعد أن الله - تعالى - يعطى ذلك العدد القليل قوة تفى بذلك ، فقد اقتلع جبريل وحده ، مدائن قوم لوط على أحد جناحيه ، ورفعها إلى السماء . . ثم قلبها ، فجعل عاليها سافلها . .
- وأيضا - فأحوال القيامة ، لا تقاس بأحوال الدنيا ، وليس للعقل فيها مجال . .
وقوله - سبحانه - : { لِيَسْتَيْقِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب وَيَزْدَادَ الذين آمنوا إِيمَاناً . . . } علة أخرى ، لذكر هذا العدد . والاستيقان : قوة اليقين ، فالسين والتاء للمبالغة .
أى : وما جعلنا عدتهم كذلك - أيضا - إلا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى ، بأن الرسول صلى الله عليه وسلم صادق فيما يبلغه عن ربه ، إذ أن الكتب السماوية التى بين أيديهم قد ذكرت هذا العدد ، كما ذكره القرآن الكريم ، وإذا ليزداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم ، بصدق نبيهم صلى الله عليه وسلم ، إذ أن الإِخبار عن المغيبات عن طريق القرآن الكريم ، من شأنها أن تجعل الإِيمان فى قلوب المؤمنين الصادقين ، يزداد رسوخا وثباتا .
قال الإِمام ابن كثير : قوله : { لِيَسْتَيْقِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب } أى : يعلمون أن هذا الرسول حق ، فإنه نطق بمطابقة ما بأيديهم من الكتب السماوية المنزلة على الأنبياء قبله . .
وقال الآلوسى : وأخرج الترمذى وابن مردويه عن جابر قال : " قال ناس من اليهود ، لأناس من المسلمين : هل يعلم نبيكم عدد خزنة جهنم ؟ فأخبروا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " هكذا وهكذا " فى مرة عشرة . وفى مرة تسعة " .
وقال الآلوسى : واستشعر من هذا أن الآية مدنية ، لأن اليهود إنما كانوا فيها ، وهو استشعار ضعيف ، لأن السؤال لصحابى فلعله كان مسافرا فاجتمع بيهودى حيث كان - وأيضا - لا مانع إذ ذاك من إتيان بعض اليهود نحو مكة . .
وقوله - تعالى - : { وَلاَ يَرْتَابَ الذين أُوتُواْ الكتاب والمؤمنون } معطوف على قوله : { لِيَسْتَيْقِنَ . . } وهو مؤكد لما قبله ، من الاستيقان وازدياد الإِيمان ، ونفى لما قد يعترى المستيقن من شبهة عارضة .
أى : فعلنا ما فعلنا ليكتسب أهل الكتاب اليقين من نبوته صلى الله عليه وسلم وليزداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم . ولتزول كل ريبة أو شبهة قد تطرأ على قلوب الذين أوتوا الكتاب ، وعلى قلوب المؤمنين . .
وقوله - سبحانه - : { وَلِيَقُولَ الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ والكافرون مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً } بيان لعلة أخرى لكون خزنة سقر تسعة عشر .
أى : ما جعلنا عدتهم كذلك إلا فتنة للذين كفروا ، وإلا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب من صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وإلا ليزداد الذين آمنوا إيمانا ، وإلا لنزول الريبة من قلوب الفريقين ، وإلا ليقول الذين فى قلوبهم مرض ، أى : شك وضعف إيمان ، وليقول الكافرون المصرون على التكذيب : ما الأمر الذى أراده الله بهذا المثل ، وهو جعل خزنة سقر تسعة عشر ؟ فالمقصود بالاستفهام فى قوله - تعالى - : { مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً } الإِنكار . والإِشارة بهذا مرجعها إلى قوله - تعالى - قبل ذلك : { عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } وقوله : { مثلا } حال من اسم الإِشارة ، والمراد به العدد السابق . وسموه مثلا لغرابته عندهم . أى : ما الفائدة فى أن تكون عدة خزنة سقر تسعة عشر ، وليسوا أكثر أو أقل ؟ وهم يقصدون بذلك نفى أن يكون هذا العدد من عنده - تعالى - .
قال الآلوسى : قوله - تعالى - : { مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً } أى : أى شئ أراده الله - تعالى - ، أو ما الذى أراده الله - تعالى - بهذا العدد المستغرب استغراب المثل .
وعلى الأول تكون { ماذا } بمنزلة اسم واحد . . وعلى الثانى : هى مؤلفة من كلمة { ما } اسم استفهام مبتدأ ، و { ذا } اسم موصول خبره ، والجملة بعده صلة ، والعائد فيها محذوف ، { ومثلا } نصب على التمييز أو على الحال . . وعنوا بالإِشارة : التحقير ، وغرضهم : نفى أن يكون ذلك من عند الله - تعالى - . .
واسم الإِشارة فى قوله - تعالى - : { كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَن يَشَآءُ } يعود إلى ما تضمنه الكلام السابق ، من استيقان أهل الكتاب ، وازدياد المؤمنين إيمانا ، واستنكار الكافرين ومن فى قلوبهم مرض لهذا المثل .
أى : مثل ذلك الضلال الحاصل للذين فى قلوبهم مرض للكافرين ، يضل الله - تعالى - من يشاء إضلاله من خلقه ، ومثل ذلك الهدى الحاصل فى قولب المؤمنين ، يهدى الله من يشايء هدايته من عباده ، إذ هو - سبحانه - الخالق لكل شئ ، وهو على كل شئ قدير .
ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك ما يخرس ألسنة الكافرين ، الذين أنكروا هذا العدد الذى جعله الله - تعالى - على سقر ، ليتصرف فيها على حسب إرادته - تعالى - ومشيئته ، فقال : { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ } والجنود : جمع جند ، وهو اسم لما يتألف منه الجيش من أفراد .
والمراد بهم هنا : مخلوقاته - تعالى - الذين سخرهم لتنفيذ أمره ، وسموا جنودا ، تشبيها لهم بالجنود فى تنفيذ مراده - سبحانه - .
أى : وما يعلم عدد جنود ربك - أيها الرسول الكريم - ولا مبلغ قوتهم ، إلا هو - عز وجل - وما هذا العدد الذى ذكرناه لك إلا جزء من جنودنا ، الذين حجبنا علم عددهم وكثرتهم .
قال الإِمام ابن كثير : قوله - تعالى - : { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ } أى : وما يعلم عددهم وكثرتهم إلا هو - تعالى - ، لئلا يتوهم متوهم أنماهم تسعة عشر فقط .
وقد ثبت فى حديث الإِسراء المروى فى الصحيحين وغيرهما ، " عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال فى صفة البيت المعمور ، الذى فى السماء السابعة : فإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك . . "
والضمير فى قوله : { وَمَا هِيَ إِلاَّ ذكرى لِلْبَشَرِ } يعود إلى سقر . . أى : وما سقر التى ذكرت لكم أن عليها تسعة عشر ملكا يلون أمرها ، إلا تذكرة وعظة للبشر ، لأن من يتذكر حرها وسعيرها وشدة عذابها . . من شأنه ، أن يخلص العبادة لله - تعالى - ، وأن يقدم فى دنياه العمل الصالح الذى ينفعه فى أخراه .
وقيل : الضمير للآيات الناطقة بأحوال سقر . أى : وما هذه الآيات التى ذكرت بشأن سقر وأهوالها إلا ذكرى للبشر .
فأما المؤمنون فقد تلقوا كلمات الله بالتسليم اللائق بمن وثق بربه ، وتأدب معه أدب العبد مع الرب فلم يعد يماري في خبره وقوله . وأما المشركون فتلقفوا هذا العدد بقلوب خاوية من الإيمان ، عارية من التوقير لله ، خالية من الجد في تلقي هذا الأمر العظيم . وراحوا يتهكمون عليه ويسخرون منه ، ويتخذونه موضعا للتندر والمزاح . . . قال قائل منهم : أليس يتكفل كل عشرة منكم بواحد من هؤلاء التسعة عشر ! ? وقال قائل : لا بل اكفوني أنتم أمر اثنين منهم وعلي الباقي أنا أكفيكموهم ! وبمثل هذه الروح المطموسة المغلقة الفاضية تلقوا هذا القول العظيم الكريم .
عندئذ نزلت الآيات التالية تكشف عن حكمة الله في الكشف عن هذا الجانب من الغيب ، وذكر هذا العدد ، وترد علم الغيب إلى الله ، وتقرر ما وراء ذكر سقر وحراسها من غاية ينتهي الموقف إليها :
( وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة . وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ، ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ، ويزداد الذين آمنوا إيمانا ، ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون ، وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون : ماذا أراد الله بهذا مثلا ? كذلك يضل الله من يشاء ، ويهدي من يشاء ، وما يعلم جنود ربك إلا هو ، وما هي إلا ذكرى للبشر ) . . .
تبدأ الآية بتقرير حقيقة أولئك التسعة عشر الذين تمارى فيهم المشركون :
( وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة ) . .
فهم من ذلك الخلق المغيب الذي لا يعلم طبيعته وقوته إلا الله ؛ وقد قال لنا عنهم : إنهم ( لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون )فقرر أنهم يطيعون ما يأمرهم به الله ، وأن بهم القدرة على فعل ما يأمرهم . فهم إذن مزودون بالقوة التي يقدرون بها على كل ما يكلفهم الله إياه . فإذا كان قد كلفهم القيام على سقر ، فهم مزودون من قبله سبحانه بالقوة المطلوبة لهذه المهمة ، كما يعلمها الله ، فلا مجال لقهرهم أو مغالبتهم من هؤلاء البشر المضعوفين ! وما كان قولهم عن مغالبتهم إلا وليد الجهل الغليظ بحقيقة خلق الله وتدبيره للأمور .
( وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ) . .
فهم الذين يثير ذكر العدد في قلوبهم رغبة الجدل ؛ ولا يعرفون مواضع التسليم ومواضع الجدل . فهذا الأمر الغيبي كله من شأن الله ، وليس لدى البشر عنه من علم كثير ولا قليل ، فإذا أخبر الله عنه خبرا فهو المصدر الوحيد لهذا الطرف من الحقيقة ، وشأن البشر هو تلقي هذا الخبر بالتسليم ، والاطمئنان إلى أن الخير في ذكر هذا الطرف وحده ، بالقدر الذي ذكره ، وأن لا مجال للجدل فيه ، فالإنسان إنما يجادل فيما لديه عنه علم سابق يناقض الخبر الجديد أو يغايره . أما لماذا كانوا تسعة عشر [ أيا كان مدلول هذا العدد ] فهو أمر يعلمه الله الذي ينسق الوجود كله ، ويخلق كل شيء بقدر . وهذا العدد كغيره من الأعداد . والذي يبغي الجدل يمكنه أن يجادل وأن يعترض على أي عدد آخر وعلى أي أمر آخر بنفس الاعتراض . . لماذا كانت السماوات سبعا ? لماذا كان خلق الإنسان من صلصال كالفخار وخلق الجان من مارج من نار ? لماذا كان حمل الجنين تسعة أشهر ? لماذا تعيش السلاحف آلاف السنين ? لماذا ? لماذا ? لماذا ? والجواب : لأن صاحب الخلق والأمر يريد ويفعل ما يريد ! هذا هو فصل الخطاب في مثل هذه الأمور . .
( ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ، ويزداد الذين آمنوا إيمانا ، ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون ) . .
فهؤلاء وهؤلاء سيجدون في عدد حراس سقر ما يدعو بعضهم إلى اليقين ويدعو البعض إلى ازدياد الإيمان . فأما الذين أوتوا الكتاب فلا بد أن لديهم شيئا عن هذه الحقيقة ، فإذا سمعوها من القرآن استيقنوا أنه مصدق لما بين يديهم عنها . وأما الذين آمنوا فكل قول من ربهم يزيدهم إيمانا . لأن قلوبهم مفتوحة موصولة تتلقى الحقائق تلقيا مباشرا ؛ وكل حقيقة ترد إليها من عند الله تزيدها أنسا بالله . . وستشعر قلوبهم بحكمة الله في هذا العدد ، وتقديره الدقيق في الخلق ، فتزيد قلوبهم إيمانا . وتثبت هذه الحقيقة في قلوب هؤلاء وهؤلاء فلا يرتابون بعدها فيما يأتيهم من عند الله .
( وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون : ماذا أراد الله بهذا مثلا ? ) . .
وهكذا تترك الحقيقة الواحدة أثرين مختلفين في القلوب المختلفة . . فبينما الذين أوتوا الكتاب يستيقنون ، والذين آمنوا يزيدون إيمانا ، إذا بالذين كفروا وضعاف القلوب المنافقون في حيرة يتساءلون : ( ماذا أراد الله بهذا مثلا ? ) . . فهم لا يدركون حكمة هذا الأمر الغريب . ولا يسلمون بحكمة الله المطلقة في تقدير كل خلق . ولا يطمئنون إلى صدق الخبر والخير الكامن في إخراجه من عالم الغيب إلى عالم الشهادة . .
( كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء ) . .
كذلك . بذكر الحقائق وعرض الآيات . فتتلقاها القلوب المختلفة تلقيا مختلفا . ويهتدي بها فريق وفق مشيئة الله ؛ ويضل بها فريق حسب مشيئة الله . فكل أمر مرجعه في النهاية إلى إرادة الله المطلقة التي ينتهي إليها كل شيء . وهؤلاء البشر خرجوا من يد القدرة باستعداد مزدوج للهدى وللضلال ؛ فمن اهتدى ومن ضل كلاهما يتصرف داخل حدود المشيئة التي خلقتهم بهذا الاستعداد المزدوج ، ويسرت لهم التصرف في هذا أو ذاك ، في حدود المشيئة الطليقة ، ووفق حكمة الله المكنونة .
وتصور طلاقة المشيئة وانتهاء كل ما يقع في هذا الوجود إليها تصورا كاملا واسع المدلول ، يعفي العقول من الجدل الضيق حول ما يسمونه الجبر والإرادة . وهو الجدل الذي لا ينتهي إلى تصور صحيح ، بسبب أنه يتناول المسألة من زاوية ضيقة ، ويضعها في أشكال محددة نابعة من منطق الإنسان وتجاربه وتصوراته المحدودة ! بينما هو يعالج قضية من قضايا الألوهية غير المحدودة !
لقد كشف الله لنا عن طريق الهدى وطريق الضلال . وحدد لنا نهجا نسلكه فنهتدي ونسعد ونفوز . وبين لنا نهوجا ننحرف إليها فنضل ونشقى ونخسر . ولم يكلفنا أن نعلم وراء ذلك شيئا ، ولم يهبنا القدرة على علم شيء وراء هذا . وقال لنا : إن إرادتي مطلقة وإن مشيئتي نافذة . . فعلينا أن نعالج - بقدر طاقتنا - تصور حقيقة الإرادة المطلقة والمشيئة النافذة . وأن نلتزم النهج الهادئ ونتجنب النهوج المضللة . ولا ننشغل في جدل عقيم حول ما لم نوهب القدرة على إدراك كنهه من الغيب المكنون . ومن ثم ننظر فنرى كل ما أنفقه المتكلمون في مسألة القدر على النحو الذي تكلموا به جهدا ضائعا لا طائل وراءه لأنه في غير ميدانه . .
إننا لا نعلم مشيئة الله المغيبة بنا ، ولكننا نعلم ماذا يطلب الله منا لنستحق فضله الذي كتبه على نفسه . وعلينا إذن أن ننفق طاقتنا في أداء ما كلفنا ، وأن ندع له هو غيب مشيئته فينا . والذي سيكون هو مشيئته ، وعندما يكون سنعرف أن هذه مشيئته لا قبل كونه ! والذي سيكون وراءه حكمة يعرفها العليم بالكل المطلق . . وهو الله وحده . . وهذا هو طريق المؤمن في التصور ومنهجه في التفكر . .
( وما يعلم جنود ربك إلا هو ) . .
فهي غيب . حقيقتها . ووظيفتها . وقدرتها . . وهو يكشف عما يريد الكشف عنه من أمرها ، وقوله هو الفصلفي شأنها . وليس لقائل بعده أن يجادل أو يماحك أو يحاول معرفة ما لم يكشف الله عنه ، فليس إلى معرفة هذا من سبيل . .
( وهي )إما أن تكون هي جنود ربك ، وإما أن تكون هي سقر ومن عليها . وهي من جنود ربك . وذكرها جاء لينبه ويحذر ؛ لا لتكون موضوعا للجدل والمماحكة ! والقلوب المؤمنة هي التي تتعظ بالذكرى ، فأما القلوب الضالة فتتخذها مماحكة وجدلا !
{ وَمَا جَعَلْنَآ أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا وليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين ءامنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا } } .
روى الطبري عن ابن عباس وجابر بن زيد : « أن أبا جهل لما سمع قوله تعالى : { عليها تسعة عشر } [ المدثر : 30 ] قال لقريش : ثكلتكم أمهاتكم إن ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة النار تسعة عشر وأنتم الدَّهْم أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل من خزنة جهنم ؟ فقال الله تعالى : { وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة } ، أي ما جعلناهم رجالاً فيأخذ كل رجل رجلاً ، فمن ذا يغلب الملائكة اه .
وفي « تفسير القرطبي » عن السدي : أن أبا الأشَدَّ بنَ كَلَدَة الجمحِي قال مستهزئاً : لا يَهُولَنَّكم التسعةَ عشر ، أنا أدفع بمنكبي الأيمننِ عشرة وبمنكبي الأيسر تسعة ثم تمرون إلى الجنة ، وقيل : قال الحارث بن كَلَدة : أنا أكفيكم سبعة عشر واكفوني أنتم اثنين ، يريد التهكم مع إظهار فرط قوته بين قومه .
فالمراد مِن { أصحاب النار } خزنتها ، وهم المتقدم ذكرهم بقوله : { عليها تسعةَ عشر } [ المدثر : 30 ] .
والاستثناء من عموم الأنواع ، أي ما جعلنا خزنة النار من نوع إلاّ من نوع الملائكة .
وصيغة القصر تفيد قلب اعتقاد أبي جهل وغيره مَا توهموه أو تظاهروا بتوهمه أن المراد تسعة عشر رجلاً فطمع أن يخلص منهم هو وأصحابه بالقوة فقد قال أبو الأشدِّ بن أُسَيد الجُمحِي : لا يَبلغون ثوبي حتى أُجْهضَهم عن جهنم ، أي أنحِّيهم .
وقوله تعالى : { وما جعلنا عدّتهم إلا فتنة للذين كفروا } تتميم في إبطال توهم المشركين حقارة عدد خزنة النار ، وهو كلام جار على تقدير الأسلوب الحكيم إذ الكلام قد أثار في النفوس تساؤلاً عن فائدة جعل خزنة جهنم تسعةَ عشر وهلاّ كانوا آلافاً ليكون مرآهم أشد هولاً على أهل النار ، أو هلاَّ كانوا ملكاً واحداً فإن قُوى الملائكة تأتي كل عمل يسخرها الله له ، فكان جواب هذا السؤال : أن هذا العدد قد أظهر لأصناف الناس مبلغ فَهم الكفار للقرآن . وإنما حصلت الفتنة من ذكر عددهم في الآية السابقة . فقوله : { وما جعلنا عدتهم } تقديره : وما جعلنا ذكر عدتهم إلاّ فتنة ، ولاستيقان الذين أوتوا الكتاب ، وازدياد الذين آمنوا إيماناً ، واضطراب الذين في قلوبهم مرض فيظهر ضلال الضالين واهتداء المهتدين . فالله جعل عدة خزنة النار تسعة عشر لحكمة أخرى غير ما ذكر هنا اقتضت ذلك الجعل يعلمها الله .
والاستثناء مفرغ لمفعول ثان لفعل { جعلنا } تقديره جعلنا عدتهم فتنة لا غير ، ولما كانت الفتنة حالاً من أحوال الذين كفروا لم تكن مراداً منها ذاتها بل عروضها للذين كفروا فكانت حالاً لهم .
والتقدير : ما جعلنا ذكر عدتهم لعلة وغرض إلاّ لغرض فتنة الذين كفروا ؛ فانتصب { فتنة } على أنه مفعول ثان لفعل { جعلنا } على الاستثناء المفرغ ، وهو قصر قلب للردّ على الذين كفروا إذ اعتقدوا أن عدتهم أمر هيّن .
وقوله : { ليستيقن الذين أُوتوا الكتاب } الخ . علة ثانية لفعل { وما جعلنا عدتهم إلا فتنة } . ولولا أن كلمة { فتنة } منصوبة على المفعول به لِفعل { جعلنا } . لكان حق { ليستيقن } أن يعطف على { فتنة } ولكنه جاء في نظم الكلام متعلقاً بفعل : { وما جعلنا عدتهم إلا فتنة .
ويجوز أن يكون { للذين كفروا } متعلقاً بفعل { جعلنا } وب { فتنة } ، على وجه التنازع فيه ، أي ما جعلنا عدتهم للذين كفروا إلاّ فتنةً لهم إذ لم يحصل لهم من ذكرها إلاّ فساد التأويل ، وتلك العِدة مجعولة لفوائد أخرى لغير الذين كفروا الذين يفوضون معرفة ذلك إلى علم الله وإلى تدبر مفيد .
والاستيقان : قوة اليقين ، فالسين والتاء فيه للمبالغة . والمعنى : ليستيقنوا صدق القرآن حيث يجدون هذا العدد مصدقاً لما في كتبهم .
والمراد ب { الذين أُوتوا الكتاب } اليهود حين يبلغهم ما في القرآن من مثل ما في كتبهم أو أخبارهم . وكان اليهود يترددون على مكة في التجارة ويتردد عليهم أهل مكة للميرة في خيبر وقريظة ويثرب فيسأل بعضهم بعضاً عما يقوله محمد صلى الله عليه وسلم ويودّ المشركون لو يجدون عند اليهود ما يكذبون به أخبار القرآن ولكن ذلك لم يجدوه ولو وجدوه لكان أيسر ما يطعنون به في القرآن .
والاستيقان من شأنه أن يعقبه الإِيمان إذا صادف عقلاً بريئاً من عوارض الكفر كما وقع لعبد الله بن سَلاَم وقد لا يعقبه الإِيمان لمكابرة أو حسد أو إشفاق من فوات جاه أو مال كما كان شأن كثير من اليهود الذي قال الله فيهم { يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن كثيراً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون } [ البقرة : 146 ] ولذلك اقتصرت الآية على حصول الاستيقان لهم .
روى الترمذي بسنده إلى جابر بن عبد الله قال : قال ناس من اليهود لأناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هل يعلم نبيئكم عدد خزنة النار ؟ ، قالوا : لا ندري حتى نسأل نبيئنا . فجاء رجل إلى النبي فقال : يا محمد غُلب أصحابكم اليوم ، قال : وبم غلبوا قال : سألهم يهودُ : هل يعلم نبيئكم عدد خزنة النار ، قال : فما قالوا ؟ قال : قالوا لا ندري حتى نسأل نبيئنا ، قال : أفغُلب قوم سُئلوا عما لا يعلمون ؟ فقالوا : لا نعلم حتى نسأل نبيئنا إلى أن قال جابر : فلما جاءوا قالوا : يا أبا القاسم كم عدد خزنة جهنم ؟ قال . هكذا وهكذا في مرة عشرة وفي مرة عشرة وفي مرة تسع ( بإشارة الأصابع ) قالوا : نعم الخ . وليس في هذا ما يُلجىء إلى اعتبار هذه الآية نازلة بالمدينة كما روي عن قتادة لأن المراجعة بين المشركين واليهود في أخبار القرآن مألوفة من وقت كون النبي صلى الله عليه وسلم في مكة .
قال أبوبكر ابن العربي في « العارضة » : حديث جابر صحيح والآية التي فيها { عليها تسعةَ عشر } [ المدثر : 30 ] مكية بإجماع ، فكيف تقول اليهود هذا ويدعوهم النبي للجواب وذلك كان بالمدينة ، فيحتمل أن الصحابة قالوا : لا نعلم ، لأنهم لم يكونوا قرأوا الآية ولا كانت انتشرت عندهم ( أي لأنهم كانوا من الأنصار الذين لم يتلقوا هذه الآية من سورة المدثر لبعد عهد نزولها بمكة وكان الذين يجتمعون باليهود ويسألهم اليهود هم الأنصار . قال : ويحتمل أن الصحابة لم يمكنهم أن يعينوا أن التسعة عشر هم الخزنة دون أن يعيِّنهم الله حتى صرح به النبي صلى الله عليه وسلم اه . فقد ظهر مصداق قوله تعالى : { ليستيقن الذين أُوتوا الكتاب } بعد سنين من وقت نزوله .
ومعنى { ويزداد الذين ءامنوا إيماناً } أنهم يؤمنون به في جملة ما يؤمنون به من الغيب فيزداد في عقولهم جُزئيّ في جزئيات حقيقة إيمانهم بالغيب ، فهي زيادة كمية لا كيفية لأن حقيقة الإِيمان التصديق والجزم وذلك لا يقبل الزيادة ، وبمثل هذا يكون تأويل كل ما ورد في زيادة الإِيمان من أقوال الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة .
وقوله : { ولا يرتاب الذين أُوتوا الكتاب والمؤمنون } عطف على { ليستيقن الذين أوتوا الكتاب } ، أي لينتفي عنهم الريب فلا تعتورهم شبهة من بعد علمه لأنه إيقان عن دليل . وإن كان الفريقان في العمل بعلمهم متفاوتين ، فالمؤمنون علموا وعَملوا ، والذين أُوتوا الكتاب علموا وعاندوا فكان علمهم حجة عليهم وحسرة في نفوسهم .
والمقصود من ذكره التمهيد لذكر مكابرة الذين في قلوبهم مرض والكافرين في سوء فهمهم لهذه العِدة تمهيداً بالتعريض قبل التصريح ، لأنه إذا قيل { ولا يرتاب الذين أُوتوا الكتاب والمؤمنون } شعر الذين في قلوبهم مرض والكافرون بأنهم لما ارتابوا في ذلك فقد كانوا دون مرتبة الذين أوتوا الكتاب لأنهم لا ينازعون في أن الذين أوتوا الكتاب أرجح منهم عقولاً وأسد قولاً ، ولذلك عطف عليه { وليقولَ الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلاً } ، أي ليقولوا هذا القول إعراباً عما في نفوسهم من الطعن في القرآن غير عالمين بتصديق الذين أوتوا الكتاب .
واللام لام العاقبة مثل التي في قوله تعالى : { فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً } [ القصص : 8 ] .
والمرض في القلوب : هو سوء النية في القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم وهؤلاء هم الذين لم يزالوا في تردد بين أن يسلموا وأن يبقوا على الشرك مثل الأخنس بن شَرِيق والوليد بن المغيرة ، وليس المراد بالذين في قلوبهم مرض المنافقون لأن المنافقين ما ظهروا إلاّ في المدينة بعد الهجرة والآية مكية .
و { ماذا أراد الله } استفهام إنكاري فإن ( ما ) استفهامية ، و ( ذا ) أصله اسم إشارة فإذا وقع بعد ( ما ) أو ( مَن ) الاستفهاميتين أفاد معنى الذي ، فيكون تقديره : ما الأَمر الذي أراده الله بهذا الكلام في حال أنه مثل ، والمعنى : لم يرد الله هذا العدد الممثل به ، وقد كُنّي بنفي إرادة الله العدد عن إنكار أن يكون الله قال ذلك ، والمعنى : لم يرد الله العدد الممثل به فكنَّوا بنفي إرادة الله وصفَ هذا العددِ عن تكذيبهم أن يكون هذا العدد موافقاً للواقع لأنهم ينفون فائدته ، وإنما أرادوا تكذيب أن يكون هذا وحياً من عند الله .
والإِشارة بهذا إلى قوله : { عليها تسعةَ عشر } [ المدثر : 30 ] .
و { مثلاً } منصوب على الحال من هذا ، والمثل : الوصف ، أي بهذا العدد وهو تسعة عشر ، أي ما الفائدة في هذا العدد دون غيره مثل عشرين .
والمثل : وصف الحالة العجيبة ، أي ما وصَفه من عدد خزنة النار كقوله تعالى : { مثل الجنّة التي وعد المتقون } [ محمد : 15 ] الآية .
وتقدم نظير هذا عند قوله تعالى : { وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلاً } في سورة [ البقرة : 26 ] .
{ كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء }
اسم الإِشارة عائد إلى ما تضمنه الكلام المتقدم من قوله : { ليستيقن الذين أوتوا الكتاب } إلى قوله : { مثلاً } بتأويل ما تضمنه الكلام ، بالمذكور ، أي مثل ذلك الضلال الحاصل للذين في قلوبهم مرض وللكافرين ، والحاصل للذين أوتوا الكتاب بعد أن استيقنوا فلم يؤمنوا يُضل الله من يشاء أن يضله من عباده ، ومثل ذلك الهُدى الذي اهتداه المؤمنون فزادهم إيماناً مع إيمانهم يَهدي الله من يشاء .
والغرض من هذا التشبيهِ تقريبُ المعنى المعقول وهو تصرف الله تعالى بخلق أسباب الأحوال العارضة للبشر ، إلى المعنى المحسوس المعروف في واقعة الحال ، تعليماً للمسلمين وتنبيهاً للنّظر في تحصيل ما ينفع نفوسهم .
ووجه الشبه هو السببية في اهتداء من يهتدي وضَلال من يَضِل ، في أن كُلاًّ من المشبَّه والمشبه به جعله الله سبباً وإرادة لحكمة اقتضاها علمه تعالى فتفاوتَ الناسُ في مدى إفهامهم فيه بين مهتدٍ ومرتاببٍ مُختلف المرتبةِ في ريبه ، ومكابرٍ كافر وسَيّىءِ فهمٍ كافر .
وهذه كلمة عظيمة في اختلاف تلقي العقول للحقائق وانتفاعهم بها أو ضده بحسب اختلاف قرائحهم وفهومهم وتراكيب جبلاتهم المتسلسلة من صواب إلى مثله ، أو من تردد واضطراب إلى مثله ، أو من حَنق وعناد إلى مثله ، فانطوى التشبيه من قوله : { كذلك } على أحوال وصور كثيرة تظهر في الخارج .
وإسناد الإِضلال إلى الله تعالى باعتبار أنه موجِد الأسباب الأصلية في الجبلات ، واقتباس الأهواء وارتباط أحوال العالم بعضها ببعض ، ودعوة الأنبياء والصلحاء إلى الخير ، ومقاومة أيمة الضلال لتلك الدعوات . تلك الأسباب التي أدت بالضالين إلى ضلالهم وبالمهتدين إلى هداهم . وكلٌّ من خلق الله . فما على الأنفس المريدة الخير والنجاة إلاّ التعرض لأحد المهيعين بعد التجرد والتدبر { لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت } [ البقرة : 286 ] .
ومشيئة الله ذلك تعلق علمه بسلوك المهتدين والضالّين .
ومحل { كذلك } نصب بالنيابة عن المفعول المطلق لأن الجار والمجرور هنا صفة لمصدر محذوف دلّت عليه الصفة ، والتقدير : يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء إضلالاً وهدياً كذلك الإِضلال والهدي .
وليس هذا من قبيل قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً } [ البقرة : 143 ] .
وقدم وصف المفعول المطلق للاهتمام بهذا التشبيه لما يرشد إليه من تفصيل عند التدبر فيه ، وحصل من تقديمه محسّن الجمع ثم التقسيم إذ جاء تقسيمه بقوله { يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء .
كلمة جامعة لإِبطال التخرصَات التي يتخرصها الضالون ومرضى القلوب عند سماع الأخبار عن عالم الغيب وأمور الآخرة من نحو : ما هَذَا به أبو جهل في أمر خزنة جهنم يشمل ذلك وغيره ، فلذلك كان لهذه الجملة حكم التذييل .
والجنودُ : جمع جند وهو اسم لجماعة الجيش واستعير هنا للمخلوقات التي جعلها الله لتنفيذ أمره لمشابهتها الجنود في تنفيذ المراد .
وإضافة رب إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم إضافة تشريف ، وتعريض بأن من شأن تلك الجنود أن بعضها يكون به نصرُ النبي صلى الله عليه وسلم ونفي العلم هنا نفي للعلم التفصيلي بأعدادها وصفاتها وخصائصها بقرينة المقام ، فإن العلم بعدد خزنة جهنم قد حصل للناس بإعلام من الله لكنهم لا يعلمون ما وراء ذلك .
فيه معان كثيرة أعلاها أن يكون هذا تتمة لقوله : { وما جعلنا عدتهم إلاّ فتنة للذين كفروا } على أن يكون جارياً على طريقة الأسلوب الحكيم ، أي أن النافع لكم أن تعلموا أن الخبر عن خزنة النار بأنهم تسعة عشر فائدته أن يكون ذكرى للبشر ليتذكروا دار العقاب بتوصيف بعض صفاتها لأن في ذكر الصفة عوناً على زيادة استحضار الموصوف ، فغرض القرآن الذكرى ، وقد اتخذه الضالّون ومرضى القلوب لهواً وسخرية ومِراء بالسؤال عن جعلهم تسعة عشر ولِمَ لم يكونوا عشرين أو مئات أو آلافاً .
وضمير { هي } على هذا الوجه إلى { عدتهم .
ويجوز أن يرجع الضمير إلى الكلام السابق وتأنيث ضميره لتأويله بالقصّة أو الصفة أو الآيات القرآنية .
والمعنى : نظير المعنى على الاحتمال الأول .
ويحتمل أن يرجع إلى { سَقَر } [ المدثر : 26 ] وإنما تكون { ذِكْرى } باعتبار الوعيد بها وذكرِ أهوالها .
والقصرُ متوجه إلى مضاف محذوف يدل عليه السياق تقديره : وما ذكرها أو وصفها أو نحو ذلك .
ويحتمل أن يرجع ضمير { هي } إلى { جنود ربّك } والمعنَى المعنى ، والتقديرُ التقديرُ ، أي وما ذكرها أو عِدة بعضها .
وجوّز الزجاج أن يكون الضمير راجعاً إلى نار الدنيا ، أي أنها تذكر للناس بنار الآخرة ، يريد أنه من قبيل قوله تعالى : { أفرأيتم النار التي تورون أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون نحن جعلناها تَذْكرة } [ الواقعة : 71 73 ] . وفيه محسن الاستخدام .
وقيل : المعنى : وما عدتهم إلاّ ذكرى للناس ليعلموا غنى الله عن الأعوان والجند فلا يظلوا في استقلال تسعة عشر تجاه كثرة أهل النار .
وإنما حَمَلَت الآية هذه المعانيَ بحسن موقعها في هذا الموضع وهذا من بلاغة نظم القرآن . ولو وقعت إثر قوله : { لواحة للبشر } [ المدثر : 29 ] لتمحض ضمير { وما هي إلاّ ذكرى } للعود إلى سقر ، وهذا من الإعجاز بمواقع جمل القرآن كما في المقدمة العاشرة من مقدمات هذا التفسير .
وبين لفظ البشر المذكور هنا ولفظ البشَر المتقدم في قوله : { لوّاحة للبشر } التّجنيس التام .