التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنَّكَ تَرَى ٱلۡأَرۡضَ خَٰشِعَةٗ فَإِذَآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡهَا ٱلۡمَآءَ ٱهۡتَزَّتۡ وَرَبَتۡۚ إِنَّ ٱلَّذِيٓ أَحۡيَاهَا لَمُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰٓۚ إِنَّهُۥ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ} (39)

ثم بين - سبحانه - آية أخرى من آياته الدالة على وجوب إخلاص العبادة له فقال { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأرض خَاشِعَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ . . }

و { خَاشِعَةً } أى ، يابسة جدبة ، خشعت الأرض ، إذا أجدبت لعم نزول المطر عليها وقوله : { اهتزت } أى : تحركت بالنبات قبل بروزه منها وبعد ظهوره على سطحها و { وَرَبَتْ } أى : انفتخت وعلت ، لأن النبات إذا قارب الظهور ترى الأرض ، ارتفعت له ، ثم تشققت عنه . يقال : ربا الشئ إذا زاد وعلا وارتفع ، ومنه الربوة للمكان المرتفع من الأرض .

أى : ومن آياته - تعالى - الدالة على وجوب العبادة له وحده ، أنك - أيها العاقل - ترى الأرض يابسة جامدة ، فإذا أنزلنا عليها بقدرتنا المطر ، تحركت بالنبات ، وارتفعت بسببه ، ثم تصدعت عنه .

وعنى - سبحانه - هنا بقوله { خَاشِعَةً } لأن الحديث عن وجوب السجود لله - تعالى - وحده ، والحديث عن السجود والطاعة يناسبه الخشوع .

وفى سورة الحج قال - سبحانه - : { وَتَرَى الأرض هَامِدَةً . . } لأن الحديث هناك كان عن البعث ، وعن إمكانيته ، فناسب أن يعبر بالهمود الذى يدل على فقدان الحياة .

قال - تعالى - { ياأيها الناس إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ البعث فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ . . . } وقوله - تعالى - : { إِنَّ الذي أَحْيَاهَا لَمُحْىِ الموتى إِنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } بيان لمظاهر قدرته - عز وجل - .

أى : إن الذى أحياها بنزول المطر عليها ، ويخرج النبات منها ، لقادر عن أن يحيى الموتى عن طريق البعث والنشور ، إنه - سبحانه - على كل شئ قدير .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنَّكَ تَرَى ٱلۡأَرۡضَ خَٰشِعَةٗ فَإِذَآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡهَا ٱلۡمَآءَ ٱهۡتَزَّتۡ وَرَبَتۡۚ إِنَّ ٱلَّذِيٓ أَحۡيَاهَا لَمُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰٓۚ إِنَّهُۥ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ} (39)

37

ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة ، فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت . إن الذي أحياها لمحيي الموتي ، إنه على كل شيء قدير . .

ونقف لحظة أمام دقة التعبير القرآني في كل موضع . فخشوع الأرض هنا هو سكونها قبل نزول الماء عليها . فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت . وكأنما هي حركة شكر وصلاة على أسباب الحياة . ذلك أن السياق الذي وردت فيه هذه الآية سياق خشوع وعبادة وتسبيح ، فجيء بالأرض في هذا المشهد ، شخصاً من شخوص المشهد ، تشارك فيه بالشعور المناسب وبالحركة المناسبة . .

ونستعير هنا صفحة من كتاب " التصوير الفني في القرآن " عن التناسق الفني في مثل هذا التعبير :

" عبر القرآن عن الأرض قبل نزول المطر . وقبل تفتحها بالنبات ، مرة بأنها( هامدة ) ، ومرة بأنها( خاشعة ) . وقد يفهم البعض أن هذا مجرد تنويع في التعبير . فلننظر كيف وردت هاتان الصورتان :

" لقد وردتا في سياقين مختلفين على هذا النحو :

" وردت( هامدة )في هذا السياق : ( يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث ، فإنا خلقناكم من تراب ، ثم من نطفة ، ثم من علقة ، ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة . لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ؛ ثم نخرجكم طفلاً ، ثم لتبلغوا أشدكم ؛ ومنكم من يتوفى ، ومنكم من يرد إلى أرذل العمر ، لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً . وترى الأرض هامدة ، فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت ، وأنبتت من كل زوج بهيج ) . .

ووردت( خاشعة )في هذا السياق : ( ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر . لا تسجدوا للشمس ولا للقمر ، واسجدوا لله الذي خلقهن ، إن كنتم إياه تعبدون . فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار ، وهم لا يسأمون . ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة ، فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت ) .

" وعند التأمل السريع في هذين السياقين ، يتبين وجه التناسق في( هامدة )و( خاشعة ) . إن الجو في السياق الأول جو بعث وإحياء وإخراج ؛ فمما يتسق معه تصوير الأرض( هامدة )ثم تهتز وتربو وتنبت من كل زوج بهيج . وإن الجو في السياق الثاني هو جو عبادة وخشوع وسجود ، يتسق معه تصوير الأرض( خاشعة )فإذا نزل عليها الماء اهتزت وربت .

؛ ثم لا يزيد على الاهتزاز والإرباء هنا ، الإنبات والإخراج ، كما زاد هناك ، لأنه لا محل لها في جو العبادة والسجود . ولم تجىء ( اهتزت وربت )هنا للغرض الذي جاءتا من أجله هناك . إنهما تخيلان حركة للأرض بعد خشوعها . وهذه الحركة هي المقصودة هنا ، لأن كل ما في المشهد يتحرك حركة العبادة ، فلم يكن من المناسب أن تبقى الأرض وحدها خاشعة ساكنة ، فاهتزت لتشارك العابدين المتحركين في المشهد حركتهم ، ولكي لا يبقى جزء من أجزاء المشهد ساكناً ، وكل الأجزاء تتحرك من حوله . وهذا لون من الدقة في تناسق الحركة المتخيلة يسمو على كل تقدير ؛ الخ . الخ .

ونعود إلى النص القرآني فنجد أن التعقيب في نهاية الآية يشير إلى إحياء الموتى ، ويتخذ من إحياء الأرض نموذجاً ودليلاً :

( إن الذي أحياها لمحيي الموتى ، إنه على كل شيء قدير ) . .

ويتكرر في القرآن عرض مثل هذا المشهد واتخاذه نموذجاً للإحياء في الآخرة ، ودليلاً كذلك على القدرة . ومشهد الحياة في الأرض قريب من كل قلب ، لأنه يلمس القلوب قبل أن يلمس العقول ، والحياة حين تنبض من بين الموات ، توحي بالقدرة المنشئة إيحاء خفياً ينبض في أعماق الشعور . والقرآن يخاطب الفطرة بلغتها من أقرب طريق .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنَّكَ تَرَى ٱلۡأَرۡضَ خَٰشِعَةٗ فَإِذَآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡهَا ٱلۡمَآءَ ٱهۡتَزَّتۡ وَرَبَتۡۚ إِنَّ ٱلَّذِيٓ أَحۡيَاهَا لَمُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰٓۚ إِنَّهُۥ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ} (39)

ثم ذكر تعالى آية منصوبة ليعتبر بها في أمر البعث من القبور ، ويستدل بما شوهد من هذه على ما لم يشاهد بعد من تلك ، وهي آية يراها عياناً كل مفطور على عقل . وخشوع الأرض هو ما يظهر عليها من استكانة وشعث بالجدب وصيلم السموم{[10086]} فهي عابسة كما الخاشع عابس يكاد يبكي ، والماء المنزل : هو المطر ، واهتزاز الأرض : هو تخلخل أجزائها بالماء وتشققها للنبات . وربوها : هو انتفاخها بالماء وعلو سطحها به .

وقرأ الجمهور : «وربت » . وقرأ أبو جعفر بن القعقاع : «وربأت » : بألف مهموزة ، ورواها الرؤاسي عن أبي عمرو ، وهو أيضاً بمعنى : علت وارتفعت ، ومنه الربيئة ، وهو الذي يرتفع حتى يرصد للقوم ثم ذكر تعالى بالأمر الذي ينبغي أن يقاس على هذه الآية والعبرة ، وذلك إحياء الموتى .

وقوله تعالى : { إنه على كل شيء قدير } عموم ، والشيء في اللغة : الموجود .


[10086]:الصيلم: الأمر المستأصل، والسموم: الريح الحارة والحر الشديد الذي ينفذ في المسام، يريد أن ريح السموم تستأصل كل ما على وجه الأرض من زرع وخضرة.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنَّكَ تَرَى ٱلۡأَرۡضَ خَٰشِعَةٗ فَإِذَآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡهَا ٱلۡمَآءَ ٱهۡتَزَّتۡ وَرَبَتۡۚ إِنَّ ٱلَّذِيٓ أَحۡيَاهَا لَمُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰٓۚ إِنَّهُۥ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ} (39)

{ وَمِنْ ءاياته أَنَّكَ تَرَى الأرض خاشعة فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ }

عطف على جملة { ومِن آياته الليل والنهار } [ فصلت : 37 ] ، وهذا استدلال بهذا الصنع العظيم على أنه تعالى منفرد بفعله فهو دليل إلهيته دون غيره لأن من يفعل ما لا يفعله غيره هو الإِله الحق وإذا كان كذلك لم يجز أن يتعدد لكون من لا يفعل مثل فعله ناقص القدرة ، والنقص ينافي الإِلهية كما قال : { أفمن يخلق كمن لا يخلق } [ النحل : 17 ] .

والخطاب في قوله : { أَنَّكَ } لغير معيّن ليصلح لكل سامع .

والخشوع : التذلل ، وهو مستعار لحال الأرض إذا كانت مقحطة لا نبات عليها لأن حالها في تلك الخصاصة كحال المتذلّل ، وهذا من تشبيه المحسوس بالمعقول باعتبار ما يتخيله الناس من مشابهة اختلاف حالي القحولة والخصب بحالي التذلل والازدهاء .

والاهتزاز حقيقته : مطاوعة هزّهُ ، إذا حرَّكه بعد سكونه فتحرّك . وهو هنا مستعار لربّو وجه الأرض بالنبات ، شبّه حال إنباتها وارتفاعها بالماء والنبات بعد أن كانت منخفضة خامدة بالاهتزاز . ويؤخذ من مجموع ذلك أن هذا التركيب تمثيل ، شُبه حال قحولة الأرض ثم إنزال الماء عليها وانقلابها من الجدوبة إلى الخِصب والإنباتِ البهيج بحال شخص كان كاسف البال رثّ اللباس فأصابه شيء من الغنى فلبس الزينة واختال في مشيته زُهُوًّا ، ولذا يقال : هَز عطفيه ، إذا اختال في مشيته .

وفي قوله : { خاشعة } و { اهْتَزَّتْ } مكنية بأن شبهت بشخص كان ذليلاً ثم صار مهتزًّا لعطْفيْه ورمز إلى المشبه بهما بذكر رديفيهما . h فهذا من أحسن التمثيل وهو الذي يقبل تفريق أجزائه في أجزاء التشبيه .

وعطف { وَرَبَتْ } على { اهْتَزَّتْ } لأن المقصود من الاهتزاز هو ظهور النبات عليها وتحركه . والمقصود بالربوّ : انتفاخُها بالماء واعتلاؤها .

وقرأ أبو جعفر { وربأت } بهمزة بعد الموحدة من ( ربَأ ) بالهمز ، إذا ارتفع .

{ إِنَّ الذى أحياها لَمُحْىِ الموتى إِنَّهُ على كُلِّ شَىْءٍ قدير }

إدماج لإِثبات البعث في أثناء الاستدلال على تفرده تعالى بالخلق والتدبير ، ووقوعه على عادة القرآن في التفنن وانتهاز فرص الهدى إلى الحق .

والجملة استئناف ابتدائي والمناسبة مشابهة الإِحياءين ، وحرف التوكيد لمراعاة إنكار المخاطبين إحياء الموتى .

وتعريف المسند إليه بالموصولية لما في الموصول من تعليل الخبر ، وشُبه إمداد الأرض بماء المطر الذي هو سبب انبثاق البزور التي في باطنها التي تصير نباتاً بإحياء الميت ، فأطلق على ذلك { أحْيَاهَا } على طريق الاستعارة التبعية ، ثم ارتُقي من ذلك إلى جَعل ذلك الذي سمي إحياء لأنه شبيه الإحياء دليلاً على إمكان إحياء الموتى بطريقة قياس الشبه ، وهو المسمى في المنطق قياس التمثيل ، وهو يفيد تقريب المقيس بالمقيس عليه . وليس الاستدلال بالشبه والتمثيل بحجة قطعية ، بل هو إقناعي ولكنه هنا يصيرُ حجة لأن المقيس عليه وإن كان أضعف من المقيس إذ المشبه لا يبلغ قوة المشبه به ، فالمشبه به حيث كان لا يَقدر على فعله إلا الخالق الذي اتصف بالقدرة التامة لذاته فقد تساوى فيه قويُّه وضعيفه ، وهم كانوا يحيلون إحياء الأموات استناداً للاستبعاد العادي ، فلما نُظِّر إحياء الأموات بإحياء الأرض المشبه تم الدليل الإقناعي المناسب لشبهتهم الإِقناعية . وقد أشار إلى هذا تذييله بقوله : { إنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .