وبعد أن بين - سبحانه - جانبا من مظاهر قدرته في خلق السموات والأرض ، أتبع ذلك بذكر مظاهر أخرى لقدرته ، تتمثل في خلق الشمس والقمر والليل والنهار فقال - تعالى - :
{ هُوَ الذي جَعَلَ الشمس . . . } .
ففى هاتين الآيتين - كما يقول الآلوسى - تنبيه على الاستدلال على وجوده - تعالى - ووجدته وعلمه وقدرته وحكمته . بآثار صنيعه في النير بعد التنبيه على الاستدلال بما مر وبيان لبعض أفراد التدبير الذي أشير إليه إشارة إجمالية ، وإرشاد إلى أنه - سبحانه - حين دبر أمورهم المتعلقة بمعاشهم هذا التدبير البديع . فلأن يدبر مصالحهم المتعلقة بمعادهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب أولى وأحرى .
وقوله { جعل } يجوز أن يكون بمعنى أنشأ وأبدع ، فيكون لفظ { ضياء } حال من المفعول ، ويجوز أن يكون بمعنى صير فيكون اللفظ المذكور مفعولا ثانيا .
وقوله { ضياء } جمع ضوء كسوط وسياط ، وحياض ، وقيل هو مصدر ضاء يضوء ضياء كقام يقوم قياما ، وصام يصوم صياما ، وعلى كلا الوجهين فالكلام على حذف مضاف .
والمعنى : الله - تعالى - وحده هو الذي جعل لكم الشمس ذات ضياء ، وجعل لكم القمر ذا نور ، لكي تنتفعوا بهما في مختلف شئونكم .
قال الجمل : " وخص الشمس بالضياء لأنه أقوى وأكمل من النور ، وخص القمر بالنور لأنه أضعف من الضياء ولأنهما إذا تساويا لم يعرف الليل من النهار ، فدل ذلك على أن الضياء المختص بالشمس أكمل وأقوى من النور المختص بالقمر " .
هذا دليل ، ومما يدل على التفرقة بين الشمس والقمر في نورهما قوله - تعالى - : { وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشمس سِرَاجاً } وقوله - سبحانه - : { تَبَارَكَ الذي جَعَلَ في السمآء بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً } وقوله : { وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ } معطوف على ما قبله .
والتقدير : جعل الشيء أو الأشياء على مقادير مخصوصة في الزمان أو المكان أو غيرهما قال - تعالى - : { والله يُقَدِّرُ الليل والنهار } المنازل : جمع منزل ، وهى أماكن النزول ، وهى - كما يقول بعضهم - ثمانية وعشرون منزلا ، وتنقسم إلى اثني عشر برجا وهى : الحمل ، والثور ، والجوزاء ، والسرطان ، والأسد ، والسنبلة ، والميزان ، والعقرب ، والقوس ، والجدي ، والدلو ، والحوت ، لكل برج منها منزلان وثلث منزل ، وينزل القمر في كل ليلة منزلا منها إلى انقضاء ثمانية وعشرين .
ويستتر ليلتين إن كان الشهر ثلاثين يوما ، ويستتر ليلة واحدة إن كان الشهر تسعة وعشرين يوما .
والضمير في قوله : { قدرناه } يعود إلى القمر ، كما في قوله - تعالى - : { والقمر قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حتى عَادَ كالعرجون القديم } أي : والله - تعالى - هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا ، وقدر للقمر منازل ينزل فيها في كل ليلة على هيئة خاصة ، وطريقة بديعة تدل على قدرة الله وحكمته .
قالوا : وكانت عودة الضمير إلى القمر وحده ، لسرعة سيره بالنسبة إلى الشمس : ولأن منازله معلومة محسوسة ، ولأنه العمدة في تواريخ العرب ، ولأن أحكام الشرع منوطة به في الأغلب .
وجوز بعضهم أن يكون الضمير للشمس والقمر معا ، أى : وقدر لهما منازل ، أو قدر لسيرهما منازل لا يجاوزانها في السير ، ولا يتعدى أحدهما على الآخر كما قال - تعالى - : { لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر وَلاَ الليل سَابِقُ النهار وَكُلٌّ في فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } وإنما وحد الضمير للإيجاز كما في قوله - تعالى - : { والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } وقوله : { وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب } بيان للحكمة من الخلق والتقدير .
أي : جعل - سبحانه - الشمس ضياء ، والقمر نورا ، وقدره منازل ، لتعلموا عدد السنين التي يفيدكم علمها في مصالحكم الدينية والدنيوية ولتعلموا الحساب بالأوقات من الأشهر والأيام لضبط عباداتكم ومعاملاتكم .
قال الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية : يخبر الله - تعالى - عما خلق من الآيات الدالة على كمال قدرته ، وعظيم سلطانه ، أنه جعل الشعاع الصادر عن جرم الشمس ضياء ، وجعل شعاع القمر نورا ، هذا فن وهذا فن آخر ، ففاوت بينهما لئلا يشتبها ، وجعل سلطان الشمس بالنهار وسلطان القمر بالليل ، وقدر القمر منازل ، فأول ما يبدو القمر يكون صغيرا ثم يتزايد نوره وجرمه حتى يستوسق ويكمل إبداره ، ثم يشرع في النقص حتى يرجع إلى حالته الأولى . فبالشمس تعرف الأيام ، ويسير القمر تعرف الشهور والأعوام .
واسم الإِشارة في قوله { مَا خَلَقَ الله ذلك إِلاَّ بالحق } يعود إلى المذكور من جعل الشمس ضياء والقمر نورا وتقديره منازل .
أي : ما خلق الله ذلك الذي ذكره لكم إلا خلقا ملتبسا بالحق ، ومقترنا بالحكمة البالغة التي تقتضيها مصالحكم .
وقوله : { يُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } استئناف مسوق لبيان المنتفعين بهذه الدلائل الدالة على قدرة الله ووحدانيته ورحمته بعباده .
أى : يفصل - سبحانه - ويوضح البراهين الدالة على قدرته لقوم يعلمون الحق ، فيستجيبون له ، ويكثرون من طاعة الله وشكره على ما خلق وأنعم .
وبعد هذه اللفتة من آيات الله في خلق السماوات والأرض إلى عبادة الله وحده ، الذي إليه المرجع وعنده الجزاء . . يعود السياق إلى الآيات الكونية التالية في وجودها وضخامتها للسماوات والأرض :
( هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً ، وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب . ما خلق الله ذلك إلا بالحق . يفصل الآيات لقوم يعلمون ) . .
فهذان مشهدان بارزان من مشاهد الكون ، ننساهما لطول الألفة ، ونفقد وقعهما في القلب بطول التكرار .
وإلا فكيف وهلة الإنسان وهو يشاهد أول مرة أول شروق شمس وأول غروب ، وأول مطلع قمر وأول مغيب ?
هذان مشهدان مألوفان مكروران يردنا القرآن إليهما ، ليثير في مشاعرنا وهلة الجدة ، وليحيي في قلوبنا إحساس التطلع الحي ، والتأمل الذي لم يبلده التكرار ، والتيقظ لما في خلقهما وطبيعة تكوينهما من التدبير المحكم :
( هو الذي جعل الشمس ضياء ) . .
ينزل في كل ليلة منزلاً يكون فيه على هيئة خاصة ، كما هو مشهود في القمر ، بدون حاجة إلى علوم فلكية لا يدركها إلا المتخصصون .
( لتعلموا عدد السنين والحساب ) . .
وما تزال المواقيت والمواعيد تضبط بالشمس والقمر لكافة الناس .
هل هذا كله عبث ? هل هذا كله باطل ? هل هذا كله مصادفة ?
كلا ما يكون كل هذا النظام ، وكل هذا التناسق ، وكل هذه الدقة التي لا تتخلف معها حركة . ما يكون هذا كله عبثا ولا باطلا ولا مصادفة عابرة :
( ما خلق الله ذلك إلا بالحق ) . .
الحق قوامه . والحق أداته . والحق غايته . والحق ثابت راجح راسخ . وهذه الدلائل التي تشهد به واضحة قائمة دائمة :
( يفصل الآيات لقوم يعلمون ) . .
فالمشاهد التي تعرض هنا في حاجة إلى العلم لإدراك التدبير الكامن وراء المشاهد والمناظر .
هذا استمرار على وصف آيات الله والتنبيه على صنعته الدالة على الصانع ، وهذه الآية تقتضي أن «الضياء » أعظم من «النور » وأبهى بحسب { الشمس } و { القمر } ، ويلحق ها هنا اعتراض وهو أنّا وجدنا الله تعالى شبه هداه ولطفه بخلقه بالنور فقال { الله نور السماوات والأرض }{[6015]} ، وهذا يقتضي أن النور أعظم هذه الأشياء وأبلغها في الشروق وإلا فلم ترك التشبيه إلا على الذي هو «الضياء » وعدل إلى الأقل الذي هو «النور » فالجواب عن هذا والانفصال : أن تقول إن لفظة النور أحكم وأبلغ في قوله { الله نور السموات والإرض } [ النور : 35 ] ، وذلك أنه تعالى شبه هداه ولطفه الذي نصبه لقوم يهتدون وآخرين يضلون مع النور الذي هو أبداً موجود في الليل وأثناء الظلام ، ولو شبهه بالضياء لوجب أن لا يضل أحد إذ كان الهدى يكون مثل الشمس التي لا تبقى معها ظلمة ، فمعنى الآية أن الله تعالى قد جعل هداه في الكفر كالنور في الظلام فيهتدي قوم ويضل آخرين ، ولو جعله كالضياء لوجب أن لا يضل أحد وبقي الضياء على هذا الانفصال أبلغ في الشروق كما اقتضت آيتنا هذه والله عز وجل هو ضياء السماوات والأرض ونورها وقيومها ، ويحتمل أن يعترض هذا الانفصال والله المستعان ، وقوله : { وقدره منازل } يريد البروج المذكورة في غير هذه الآية{[6016]} ، وأما الضمير الذي رده على { القمر } وقد تقدم ذكر { الشمس } معه فيحتمل أن يريد بال-ضمير «القمر » وحده لأنه هو المراعى في معرفة { عدد السنين والحساب } عند العرب ويحتمل أن يريدهما معاً بحسب أنهما يتصرفان في معرفة عدد السنين والحساب عند العرب . لكنه اجتزأ بذكر الواحد كما قال { والله ورسوله أحق أن يرضوه }{[6017]} وكما قال الشاعر [ أبو حيان ] : [ الطويل ]
رماني بذنب كنت منه ووالدي*** بريّاً ومن أجل الطويّ رماني{[6018]}
قال الزجّاج وكما قال الآخر : [ المنسرح ]
نحن بما عندنا وأنت بما عن*** دك راضٍ والرأي مختلفُ{[6019]}
وقوله { لتعلموا } المعنى قدر هذين النيرين ، { منازل } لكي { تعلموا } بها ، { عدد السنين والحساب } رفقاً بكم ورفعاً للالتباس في معاشكم وتجركم وإجاراتكم وغير ذلك مما يضطر فيه إلى معرفة التواريخ ، وقوله { ما خلق الله ذلك إلا بالحق } أي للفائدة : لا للعب والإهمال فهي إذاً يحق أن تكون كما هي ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية حفص «يفصل الآيات » ، وقرأ ابن كثير أيضاً وعاصم والباقون{[6020]} والأعرج وأبو جعفر وشيبة وأهل مكة والحسن والأعمش «نفصل » بنون العظمة ، وقوله { لقوم يعلمون } إنما خصهم لأن نفع التفصيل فيهم ظهر وعليهم أضاء وإن كان التفصيل إنما وقع مجملاً للكل معداً ليحصله الجميع ، وقرأ جمهور السبعة وقد رويت عن ابن كثير «ضياء » ، وقرأ ابن كثير وحده فيما روي أيضاً عنه{[6021]} «ضئاء » بهمزتين ، وأصله ضياء فقلبت{[6022]} فجاءت ضئائاً ، فقلبت الياء همزة لوقوعها بين ألفين ، وقال أبو علي : وهي غلط{[6023]} .