التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ وَٱسۡتَغۡفِرۡهُۚ إِنَّهُۥ كَانَ تَوَّابَۢا} (3)

وقوله { فَسَبِّحْ } جواب إذا .

والمعنى : إذا أتم الله عليك - أيها الرسول الكريم - وعلى أصحابك النصر ، وصارت لكم الكلمة العليا على أعدائكم ، وفتح لكم مكة ، وشاهدت الناس يدخلون فى دين الإِسلام ، جماعات ثم جماعات كثيرة بدون قتال يذكر .

إذا علمت ورأيت كل ذلك ، فداوم وواظب على تسبيح ربك ، وتنزيهه عن كل ما لا يليق به ، شكرا له على نعمه ، وداوم - أيضا - على طلب مغفرته لك وللمؤمنين .

{ إنه } عز وجل - { كان } وما زال { توابا } أي : كثير القبول لتوبة عباده التائبين إليه ، كما قال - سبحانه - : { وَهُوَ الذي يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُواْ عَنِ السيئات وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } نسأل الله - تعالى - أن يجعلنا من عباده التائبين توبة صادقة نصوحا .

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ وَٱسۡتَغۡفِرۡهُۚ إِنَّهُۥ كَانَ تَوَّابَۢا} (3)

وبناء على هذا الإيحاء وما ينشئه من تصور خاص لحقيقة الأمر يتحدد شأن الرسول [ ص ] ومن معه بإزاء تكريم الله لهم ، وإكرامهم بتحقيق نصره على أيديهم . إن شأنه - ومن معه - هو الإتجاه إلى الله بالتسبيح وبالحمد والاستغفار في لحظة الانتصار .

التسبيح والحمد على ما أولاهم من منة بأن جعلهم أمناء على دعوته حراسا لدينه . وعلى ما أولى البشرية كلها من رحمة بنصره لدينه ، وفتحه على رسوله ودخول الناس أفواجا في هذا الخير الفائض العميم ، بعد العمى والضلال والخسران .

والاستغفار لملابسات نفسية كثيرة دقيقة لطيفة المدخل : الاستغفار من الزهو الذي قد يساور القلب أو يتدسس إليه من سكرة النصر بعد طول الكفاح ، وفرحة الظفر بعد طول العناء . وهو مدخل يصعب توقيه في القلب البشري . فمن هذا يكون الاستغفار .

والاستغفار مما قد يكون ساور القلب أو تدسس إليه في فترة الكفاح الطويل والعناء القاسي ، والشدة الطاغية والكرب الغامر . . من ضيق بالشدة ، واستبطاء لوعد الله بالنصر ، وزلزلة كالتي قال عنها في موضع آخر : ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ? ألا إن نصر الله قريب ) فمن هذا يكون الاستغفار .

والاستغفار من التقصير في حمد الله وشكره . فجهد الإنسان ، مهما كان ، ضعيف محدود ، وآلاء الله دائمة الفيض والهملان . . ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) . . فمن هذا التقصير يكون الاستغفار . .

وهناك لطيفة أخرى للاستغفار لحظة الانتصار . . ففيه إيحاء للنفس واشعار في لحظة الزهو والفخر بأنها في موقف التقصير والعجز . فأولى أن تطامن من كبريائها . وتطلب العفو من ربها . وهذا يصد قوى الشعور بالزهو والغرور . .

ثم إن ذلك الشعور بالنقص والعجز والتقصير والإتجاه إلى الله طلبا للعفو والسماحة والمغفرة يضمن كذلك عدم الطغيان على المقهورين المغلوبين . ليرقب المنتصر الله فيهم ، فهو الذي سلطه عليهم ، وهو العاجز القاصر المقصر . وإنها سلطة الله عليهم تحقيقا لأمر يريده هو . والنصر نصره ، والفتح فتحه ، والدين دينه ، وإلى الله تصير الأمور .

إنه الأفق الوضيء الكريم ، الذي يهتف القرآن الكريم بالنفس البشرية لتتطلع إليه ، وترقى في مدارجه ، على حدائه النبيل البار . الأفق الذي يكبر فيه الإنسان لأنه يطامن من كبريائه ، وترف فيه روحه طليقة لانها تعنو لله !

إنه الانطلاق من قيود الذات ليصبح البشر أرواحا من روح الله . ليس لها حظ في شيء إلا رضاه . ومع هذا الانطلاق جهاد لنصرة الخير وتحقيق الحق ؛ وعمل لعمارة الأرض وترقية الحياة ؛ وقيادة للبشرية قيادة رشيدة نظيفة معمرة ، بانية عادلة خيرة ، . . الاتجاه فيها إلى الله .

وعبثا يحاول الإنسان الانطلاق والتحرر وهو مشدود إلى ذاته ، مقيد برغباته ، مثقل بشهواته . عبثا يحاول ما لم يتحرر من نفسه ، ويتجرد في لحظة النصر والغنم من حظ نفسه ليذكر الله وحده .

وهذا هو الأدب الذي اتسمت به النبوة دائما ، يريد الله أن ترتفع البشرية إلى آفاقه ، أو تتطلع إلى هذه الآفاق دائما . .

كان هذا هو أدب يوسف - عليه السلام - في اللحظة التي تم له فيها كل شيء ، وتحققت رؤياه : ( ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا ، وقال : يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا . وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي . إن ربي لطيف لما يشاء ، إنه هو العليم الحكيم ) . .

وفي هذه اللحظة نزع يوسف - عليه السلام - نفسه من الصفاء والعناق والفرحة والابتهاج ليتجه إلى ربه في تسبيح الشاكر الذاكر . كل دعوته وهو في أبهة السلطان وفي فرحة تحقيق الأحلام :

( رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث ، فاطر السماوات والأرض ، أنت وليي في الدنيا والآخرة ، توفني مسلما ، وألحقني بالصالحين ) . . وهنا يتوارى الجاه والسلطان ، وتتوارى فرحة اللقاء وتجمع الأهل ولمة الإخوان ، ويبدو المشهد الأخير مشهد إنسان فرد يبتهل إلى ربه أن يحفظ له إسلامه حتى يتوفاه إليه ، وأن يلحقه بالصالحين عنده . من فضله ومنه وكرمه . .

وكان هذا هو أدب سليمان عليه السلام وقد رأى عرش ملكة سبأ حاضرا بين يديه قبل أن يرتد إليه طرفه : ( فلما رآه مستقرا عنده قال : هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ، ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ، ومن كفر فإن ربي غني كريم ) . .

وهذا كان أدب محمد [ ص ] في حياته كلها ، وفي موقف النصر والفتح الذي جعله ربه علامة له . . انحنى لله شاكرا على ظهر دابته ودخل مكة في هذه الصورة . مكة التي آذته وأخرجته وحاربته ووقفت في طريق الدعوة تلك الوقفة العنيدة . . فلما أن جاءه نصر الله والفتح ، نسي فرحة النصر وانحنى انحناءة الشكر ، وسبح وحمد واستغفر كما لقنه ربه ، وجعل يكثر من التسبيح والحمد والاستغفار كما وردت بذلك الآثار . وكانت هذه سنته في أصحابه من بعده ، رضي الله عنهم أجمعين .

وهكذا ارتفعت البشرية بالإيمان بالله ، وهكذا أشرقت وشفت ورفرفت ، وهكذا بلغت من العظمة والقوة والانطلاق . .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ وَٱسۡتَغۡفِرۡهُۚ إِنَّهُۥ كَانَ تَوَّابَۢا} (3)

وقوله : { إنه كان تواباً } بعقب و{ استغفره } ترجية عظيمة للمستغفرين ، جعلنا الله منهم . وحكى النقاش عن ابن عباس أن «النصر » صلح الحديبية ، وأن { الفتح } فتح مكة . وقال ابن عمر : نزلت هذه السورة على النبي صلى الله عليه وسلم بمنى في وسط أيام التشريق في حجة الوداع ، وعاش بعدها ثمانين يوماً ، أو نحوها . صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم .