ثم ساق - سبحانه - ما يدل على كمال قدرته ، حيث أوجد عيسى من غير أب وجعل أمه مريم تلده من غير أن يمسها بشر . فقال - تعالى - { وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً . . . } .
أى : وجعلنا نبينا عيسى - عليه السلام - ، كما جعلنا أمه مريم ، آية واضحة وحجة عظيمة ، فى الدلالة على قدرتنا النافذة التى لا يعجزها شىء .
قال أبو حيان : " قوله : { وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً } أى : جعلنا قصتهما ، وهى آية عظمى بمجموعها ، وهى آيات مع التفصيل ، ويحتمل أن يكون حذف من الأول " آية " لدلالة الثانى ، أى : وجعلنا ابن مريم آية ، وأمة آية " .
وقوله - تعالى - { وَآوَيْنَاهُمَآ إلى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ } بيان لجانب مما أنعم به سبحانه - على عيسى وأمه .
والربوة : المكان المرتفع من الأرض . واصلها من قولهم : ربا الشىء يربو ، إذا ازداد وارتفع ، ومنه الربا لأنه زيادة أخذت على أصل المال .
ومعين ؛ اسم مفعول من عانه إذا أدركه وأبصره بعينه ، فالميم زائدة ، وأصله معيون كمبيوع ثم دخله الإعلال . والكلام على حذف مضاف . أى : وماء معين .
أى : ومن مظاهر رعايتنا وإحساننا إلى عيسى وأمه أننا آويناهما وأسكناهما ، وأنزلناهما فى جهة مرتفعة من الأرض ، وهذه الجهة ذات قرار ، أى : ذات استقرار لاستوائها وصلاحيتها للسكن لما فيها من الزروع والثمار ، وهى فى الوقت ذاته ينساب الماء الظاهر للعيون فى ربوعها .
قالوا : والمراد بهذه الربوة : بيت المقدس بفلسطين ، أو دمشق ، أو مصر .
والمقصود من الآية الكريمة : الإشارة إلى إيواء الله - تعالى - لهما ، فى مكان طيب ، ينضر فيه الزرع ، وتطيب فيه الثمار ، ويسيل فيه الماء ويجدان خلال عيشهما به الأمان والراحة .
( ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يهتدون . وجعلنا ابن مريم وأمه آية ، وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين ) . .
وتختلف الروايات في تحديد الربوة المشار إليها في هذا النص . . أين هي ? أكانت في مصر ، أم في دمشق ، أم في بيت المقدس . . وهي الأماكن التي ذهبت إليها مريم بابنها في طفولته وصباه - كما تذكر كتبهم - وليس المهم تحديد موضعها ، إنما المقصود هو الإشارة إلى إيواء الله لهما في مكان طيب ، ينضر فيه النبت ، ويسيل فيه الماء ، ويجدان فيه الرعاية والإيواء .
و { ابن مريم } ، عيسى عليه السلام وقصتهما كلها آية عظمى بمجموعها وهي آيات مع التفصيل وأخذها من كلا الوجهين متمكن ، و «آوى » معناه ضم واستعمل اللفظة في الأماكن أي أقررناهما ، و «الربوة » المرتفع من الأرض ، وقرأ جمهور الناس «رُبوة » بضم الراء ، وقرأ عاصم وابن عامر بفتحها وهي قراءة الحسن وأبي عبد الرحمن ، وقرأ ابن عباس ونصر عن عاصم بكسرها ، وقرأ محمد بن إسحاق «رُباوة » بضم الراء ، وقرأ الأشهب العقيلي بفتحها ، وقرأت فرقة بكسرها وكلها لغات قرىء بها ، و «القرار » ، التمكن فمعنى هذا أَنها مستوية بسيطة للحرث والغراسة قاله ابن عباس ، وقال قتادة «القرار » هنا الحبوب والثمار{[8491]} ، ومعنى الآية أنها من البقاع التي كملت خصالها فهي أَهل أَن يستقر فيها وقد يمكن أَن يستقر على الكمال في البقاع التي ماؤها آبار فبين بعد أَن ماء هذه الربوة يرى معيناً جارياً على وجه الأرض قاله ابن عباس وهذا كمال الكمال ، و «المعين » ، الظاهر الجري للعين فالميم زائدة وهو الذي يعاين جريه لا كالبئر ونحوه ، وكذلك أدخل الخليل وغيره هذه اللفظة في باب . ع ، ي ، ن ، وقد يحتمل أن تكون من قولهم معن الماء : إذا كثر ، ومنه قولهم المعن المعروف والجود ، فالميم فاء الفعل ، وأنشد الطبري على هذا قول عبيد بن الأبرص :
واهية أو معين ممعن . . . وهضبة دونها لهوب{[8492]}
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يرحم الله هاجر لو تركت زمزم لكانت عيناً معيناً »{[8493]} ، وهذا يحتمل الوجهين ، وهذه الربوة هي الموضع الذي فرت إليه مريم حين استحيت في قصة عيسى عليه السلام وهو الذي قيل لها فيه { قد جعل ربك تحتك سريا }{[8494]} [ مريم : 24 ] هذا قول بعض المفسرين واختلف الناس في موضع الربوة فقال : ابن المسيب سعيد : هي الغوطة بدمشق وهذا أشهر الأقوال لأن صفة الغوطة أنها { ذات قرار ومعين } على الكمال ، وقال أبو هريرة هي الرملة من فلسطين وأسنده الطبري عن كريب البهزي عن النبي عليه السلام{[8495]} ، ويعارض هذا القول أن الرملة ليس يجري بها ماء البتة وذكره الطبري وضعف القول به ، وقال كعب الأحبار «الربوة » بيت المقدس وزعم أن في التوراة أن بيت المقدس أقرب الأرض إلى السماء وأنه يزيد على أَعلى الأرض ثمانية عشر ميلاً .
قال أبو محمد رحمه الله : ويترجح أن «الربوة » بيت لحم من بيت المقدس لأن ولادة عيسى هنالك كانت ، وحينئذ كان الإيواء ، وقال ابن زيد «الربوة » بأرض مصر وذلك أنها رُبا يجيء فيض النيل إليها فيملأ الأرض ولا ينال تلك الربى وفيها القرى وبها نجاتها .
قال أبو محمد رحمه الله :ويضعف هذا القول أنه لم يرو أَن عيسى عليه السلام ومريم كاناً بمصر ولا حفظت لهما بها قصة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.