التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَقَالُوٓاْ أَءِذَا ضَلَلۡنَا فِي ٱلۡأَرۡضِ أَءِنَّا لَفِي خَلۡقٖ جَدِيدِۭۚ بَلۡ هُم بِلِقَآءِ رَبِّهِمۡ كَٰفِرُونَ} (10)

ثم حكى - سبحانه - شبهات المشركين ورد عليها ، وصور أحوالها الليمة عندما تقبض الملائكة أرواحهم ، فقال - تعالى - : { وقالوا أَإِذَا ضَلَلْنَا . . . بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } .

قال القرطبى : قوله - تعالى - : { وقالوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض } هذا قول منكرى البعث أى : هلكنا وبطلنا وصرنا ترابا . وأصله من قول العرب : ضل الماء فى اللبن إذا ذهب ، والعرب تقول للشئ غلب عليه غيره حتى خفى فيه أثره : قد ضل . .

أى : وقال الكافرون على سبيل الإِنكار ليوم القيامة وما فيه من حساب أئذا صارت أجسادنا كالتراب واختلطت به ، أنعاد إلى الحياة مرة أخرى ، ونخلق خلقاً جديداً . .

وقوله - سبحانه - : { هُم بِلَقَآءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ } إضراب وانتقال من حكاية كفرهم بالبعث والحساب إلى حكاية ما هو أشنع من ذلك وهو كفرهم بلقاء الله - تعالى - الذى خلقهم ورزقهم وأحياهم وأماتهم . . أى : بل هم لانطماس بصائرهم ، واستيلاء العناد والجهل عليهم ، بلقاء ربهم يوم القيامة ، كافرون جاحدون ، لأنهم قد استبعدوا إعادتهم إلى الحياة بعد موتهم ، مع أن الله - تعالى - قد أوجدهم ولم يكونوا شيئاً مذكوراً .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَقَالُوٓاْ أَءِذَا ضَلَلۡنَا فِي ٱلۡأَرۡضِ أَءِنَّا لَفِي خَلۡقٖ جَدِيدِۭۚ بَلۡ هُم بِلِقَآءِ رَبِّهِمۡ كَٰفِرُونَ} (10)

وفي ظل مشهد النشأة الأولى للإنسان ، وأطوار هذه النشأة العجيبة ، الخارقة لكل مألوف ، وإن كانت تتكرر في كل لحظة ، وتقع أمام الأنظار والأسماع . في ظل هذا المشهد يعرض اعتراضهم على النشأة الآخرة ، وشكهم في البعث والنشور . فيبدو هذا الشك وذلك الاعتراض غريبين كل الغرابة :

وقالوا : أإذا ضللنا في الأرض أإنا لفي خلق جديد ? بل هم بلقاء ربهم كافرون . .

إنهم يستبعدون أن يخلقهم الله خلقا جديدا ، بعد موتهم ودفنهم ، وتحول أجسامهم إلى رفات يغيب في الأرض ، ويختلط بذراتها ، ويضل فيها ، فماذا في هذا من غرابة أمام النشأة الأولى ? لقد بدأ الله خلق الإنسان من طين . من هذه الأرض التي يقولون إن رفاتهم سيضل فيها ويختلط بها . فالنشأة الآخرة شبيهة بالنشأة الأولى ، وليس فيها غريب ولا جديد ! ( بل هم بلقاء ربهم كافرون ) . . ومن ثم يقولون ما يقولون . فهذا الكفر بلقاء الله هو الذي يلقي على أنفسهم ظل الشك والاعتراض على الأمر الواضح الذي وقع مرة ، والذي يقع ما هو قريب منه في كل لحظة .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَقَالُوٓاْ أَءِذَا ضَلَلۡنَا فِي ٱلۡأَرۡضِ أَءِنَّا لَفِي خَلۡقٖ جَدِيدِۭۚ بَلۡ هُم بِلِقَآءِ رَبِّهِمۡ كَٰفِرُونَ} (10)

والضمير في { قالوا } للكفار الجاحدين البعث من القبور والمستبعدين لذلك دون حجة ولا دليل .

وموضع { إذا } نصب بما في قوله { إنا لفي خلق جديد } لأن معناه لنعاد ، واختلفت القراءة في { أئذا } وقد تقدم استيعاب ذكره في غير هذا الموضع . وقرأ جمهور القراء «ضللنا » بفتح اللام ، وقرأ ابن عامر وأبو رجاء وطلحة وابن وثاب «ضلِلنا » بكسر اللام والمعنى تلفنا وتقطعت أوصالنا فذهبنا حتى لم نوجد ، ومنه قول الأخطل : [ الكامل ]

كنت القذا في متن أكدر مزبد . . . قذف الأتيّ به فضلّ ضلالا{[9417]}

ومنه قول النابغة :

فآب مضلوه بعين جلية . . . وغودر بالجولان حزم ونائل{[9418]}

أي متلفوه دفناً ، ومنه قول امرىء القيس : «تضل المداري في مثنى ومرسل »{[9419]} . وقرأ الحسن البصري «صلَلنا » بالصاد غير منقوطة وفتح اللام ، قال الفراء وتروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومعناه صرنا من الصلة وهي الأرض اليابسة الصلبة ، ويجوز أن يريد به من التغير كما يقال صل اللحم{[9420]} ، ورويت هذه القراءة عن ابن عباس وأبان بن سعيد بن العاصي ، وقرأ الحسن أيضاً «صلِلنا » بالصاد غير منقوط وكسر اللام ، وقرأ علي بن أبي طالب وأبو حيوة «ضُلِّلنا » بضم الضاد وكسر اللام وشدها ، وقولهم { إنا لفي خلق جديد } أي إنا لفي هذه الحالة نعاد ويجدد خلقنا . وقوله تعالى : { بل } إضراب عن معنى استفهامهم كأنه قال ليسوا مستفهمين «بل هم كافرون » جاحدون بلقاء الله تعالى ، ثم أمر تعالى نبيه أن يخبرهم بجملة الحال غير مفصلة ، فبدأ بالإخبار من وقت يفقد روح الإنسان إلى الوقت الذي يعود فيه إلى ربه فجمع الغايتين الأولى والآخرة ، و { يتوفاكم } معناه يستوفيكم .

ومنه قال الشاعر : [ الرجز ]

أزيني الأردم ليسوا من أحد . . . ولا توفيهم قريش في العدد{[9421]}


[9417]:قال الأخطل هذا البيت مخاطبا جرير فيما كان بينهما من هجاء، وقبل هذا البيت يقول: وإذا سما للمجد فرعا وائل واستجمع الوادي عليك فسالا وفرعا وائل هما بكر وتغلب. والقذى: ما يصيب العين بالأذى حين يقع فيها ما يحمله الهواء من التراب، والأكدر: غير الصافي، والمزبد: الذي علاه الزبد، والزبد هو ما يعلو الماء من رغوة فيها ما يحمله الماء من أعشاب أو عيدان. والأتي: الذي يأتي من مكان بعيد مندفعا في قوة. يقول الأخطل لجرير: إذا اجتمع فرعا وائل في يوم من أيام الفخار مع القبائل، وكانوا كالسيل القوي المندفع من مكان بعيد كنت أنت يا جرير كالقذى الذي يتوه وسط هذا السيل القوي فلا يبقى منه أثر، وهو بهذا يعرض بجرير وأبيه، فهو الحقير الضئيل بين علية القوم من بكر وتغلب. والشاهد في البيت أن الضلال هنا بمعنى الفناء والضياع وسط الأشياء.
[9418]:البيت من قصيدة قالها النابغة يرثي النعمان بن الحارث الغساني. ومضلوه: الذين دفنوه وأخفوه في التراب، وهذا هو الشاهد هنا، ويروى: مصلوه بالصاد المهملة، وهي الرواية المشهورة، والمعنى: الذين صلوا عليه من الرهبان الذين تجمعوا حوله يدعون له؛ لأن النعمان ابن الحارث كان من الذين تنصروا في الجاهلية، ورواها أيضا أبو عبيدة: مطلوهم بالطاء المهملة وبضمير الجمع، يريد المطلين عليهم في دينهم، يقال: أطل على فلان في دينه إذا كان له عليه فضل، هكذا قال أبو عبيدة مع أن معاجم اللغة لم تورد هذا المعنى، ومعنى قوله: (بعين جلية) أنهم رجعوا بعد أن شاهدوا بأعينهم موته ودفنه، وفي هذا إشارة إلى أن من لم يروا ذلك يكادون لا يصدقون خبر موته لجلالة قدره وعظم منزلته بين الناس، والجولان: اسم مكان الذي دفن فيه ، وهو بالشام جنوبي دمشق، وعلى الحدود الفاصلة بين سوريا وفلسطين.
[9419]:هذا عجز بيت من معلقته المشهورة، والبيت بتمامه: غدائره مستشرزات إلى العلا تضل المداري في مثنى ومرسل والغدائر: جمع الغديرة وهي الخصلة من الشعر، ومستشزرات – من الاستشزار وهو الارتفاع والرفع جميعا، وبهذا يكون الفعل منه لازما أو متعديا، فمن رواه مستشزرات – بكسر الزاي- جعله من الفعل اللازم، ومن رواه بفتح الزاي جعله من المتعدي، والمداري: جمع مدراة وهي الآلة التي يسوى بها الشعر ويرجل، أي المشط، ويروى بدلا من المداري: العقاص: وهو خيط يشد به الشعر مما يسمى بالعقص، يقال: عقصت المرأة شعرها عقصا إذا أخذت كل خصلة منه فلوتها ثم عقدتها حتى يبقى فيها التواء ثم أرسلتها. والمثنى: الذي ثني بعضه على بعض، والمرسل: الذي ترك دون عقص أو ثني، والشاهد فيه أن يضل بمعنى يغيب ويختفي بين الشعر ما ثني منه وما أرسل. يقول: ذوائب شعرها مرتفعة أو مرفوعة إلى فوق، وشعرها لكثرته وطوله منه المثنى ومنه المرسل، وفيه تغيب المدارى.
[9420]:في (اللسان- صل): "الصلة: الأرض اليابسة، وقيل: هي الأرض التي لم تمطر بين أرضين ممطورتين، والجمع: صلال، وقال أبو عبيدة: قبره في الصلة وهي الأرض"، وعلى هذا يمكن تخريج المعنى في الآية على هذه القراءة، كذلك يمكن فهم الآية على المعنى المشهور الذي ذكره أبو الفتح ابن جني، وذكره أيضا ابن عطية، وهو من: صل اللحم يصل صلولا وأصل: أنتن مطبوخا كان أو نيئا، قال الحطيئة: ذاك فتى يبذل ذا قدره لا يفسد اللحم لديه الصلول وقال زهير: تلجلج مضغة فيها أنيض أصلت فهي تحت الكشح داء
[9421]:البيتان في (اللسان- وفى) ونسبهما لمنظور الوبري، والرواية فيه (الأدرد) بدلا من (الأدرم) وفي (التاج) أن الشاعر هو منظور العنبري. ومعنى (ليسوا من أحد): لا تجعلهم قريش منها، ومعنى (ولا توفاهم في العدد) أنها لا تستوفي بهم عددها، فهم غير معدودين، ولا محسوبين بين الناس. وقد استشهد أبو عبيدة بالبيتين في مجاز القرآن، وعنه أخذ صاحب اللسان.