التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{۞وَلَمَّا ضُرِبَ ٱبۡنُ مَرۡيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوۡمُكَ مِنۡهُ يَصِدُّونَ} (57)

ثم انتقلت السورة الكريمة من الحديث عن جانب من قصة موسى ، إلى الحديث عن جانب من قصة عيسى - عليه السلام - فقال - تعالى - : { وَلَمَّا ضُرِبَ ابن مَرْيَمَ . . . وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } .

ذكر المفسرون فى سبب نزول قوله - تعالى - : { وَلَمَّا ضُرِبَ ابن مَرْيَمَ مَثَلاً . . } روايات منها : أنه لما نزل قوله - تعالى - : { وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ . . . } تعلق المشركون بأمر عيسى وقالوا : ما يريد محمد - صلى الله عليه وسلم - إلا أن نتخذه إلها ، كما اتخذت النصارى عيسى ابن مريم فأنزل الله - تعالى - { وَلَمَّا ضُرِبَ ابن مَرْيَمَ مَثَلاً . . } .

وقال الواحدى : أكثر المفسرين على أن هذه الآية ، " نزلت فى مجادلة ابن الزبعرى - قبل أن يسلم - مع النبى - صلى الله عليه وسلم - فإنه لما نزل قوله - تعالى - : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ } . قال ابن الزبعرى خصمتك - يا محمد - ورب الكعبة . أليست النصارى يعبدون المسيح ، واليهود يعبدون عزيرا ، وبنو مليح يعبدون الملائكة ؟ فإن كان هؤلاء من النار ، فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا فى النار ؟

فقال له النبى - صلى الله عليه وسلم - : " ما أجهلك بلغة قومك ؟ أما فهمت أن ( ما ) لما لا يعقل " ؟ . وفى رواية أنه - صلى الله عليه وسلم - قال له : " إنهم يعبدون الشيطان " وأنزل الله - تعالى - : { وَلَمَّا ضُرِبَ ابن مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ } .

وكلمة { يَصِدُّونَ } قرأها الجمهور بكسر الصاد . وقرأها ابن عامر والكسائى بضم الصاد . وهما بمعنى واحد . ومعناهما : يضجون ويصيحون فرحا . يقال : صد يصد - بكسر الصاد وضمها - بمعنى ضج - كعكف - بضم الكاف وكسرها .

ويرى بعضهم أن { يَصِدُّونَ } - بكسر الصاد - بمعنى : يضجون ويصيحون ويضحكون . . وأن { يَصِدُّونَ } - بضم الصاد - بمعنى الصاد - بمعنى يعرضون . من الصد بمعنى الإِعراض عن الحق .

والمعنى : وحين ضرب ابن الزبعرى ، عيسى ابن مريم مثلا ، وحاجك بعبادة النصارى له ، فاجأك قومك - كفار قريش - بسبب هذه المحاجة ، بالصياح والضجيج والضحك ، فرحا منهم بما قاله ابن الزبعرى ، وظنا منهم أنه قد انتصر عليك فى الخصومة والمجادلة .

فمن فى قوله { مِنْهُ } الظاهر أنها للسببية ، كما فى قوله - تعالى - : { مِّمَّا خطيائاتهم أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً . . . } والمراد بالمثل هنا : الحجة والبرهان .

قال الآلوسى : والحجة لما كانت تسير مصير الأمثال شهرة ، قيل لها مثل . أو المثل بمعنى المثال . أى : جعله مقياسا وشاهدا على إبطال قوله - صلى الله عليه وسلم - : إن آلهتهم من حصب جهنم ، وجعل عيسى - عليه السلام - نفسه مثلا من باب : الحج عرفة .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{۞وَلَمَّا ضُرِبَ ٱبۡنُ مَرۡيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوۡمُكَ مِنۡهُ يَصِدُّونَ} (57)

57

( ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون . وقالوا : أآلهتنا خير أم هو ? ما ضربوه لك إلا جدلاً . بل هم قوم خصمون . إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل . ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون . وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون ، هذا صراط مستقيم . ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين ) . .

( ولما جاء عيسى بالبينات قال : قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه ، فاتقوا الله وأطيعون . ان الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم . فاختلف الأحزاب من بينهم ، فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم . . )

ذكر ابن إسحاق في السيرة قال : جلس رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فيما بلغني مع الوليد بن المغيرة في المسجد ، فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم ، وفي المجلس غير واحد من رجال قريش ، فتكلم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فعرض له النضر بن الحارث ، فكلمه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] حتى أفحمه . ثم تلا عليه وعليهم( إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون ) . . الآيات . . ثم قام رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وأقبل عبدالله بن الزبعري التميمي حتى جلس . فقال الوليد بن المغيرة له : والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب وما قعد ! وقد زعم محمد أنا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم . فقال عبد الله بن الزبعري : أما والله لو وجدته لخصمته . سلوا محمداً أكل ما يعبد من دون الله في جهنم مع من عبده ? فنحن نعبد الملائكة ، واليهود تعبد عزيراً ، والنصارى تعبد المسيح ابن مريم . فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس من قول عبدالله بن الزبعري ورأوا أنه قد احتج وخاصم . فذكر ذلك لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقال : " كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده . فإنهم إنما يعبدون الشيطان ومن أمرهم بعبادته " فأنزل الله عز وجل : ( إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون ) . . أي عيسى وعزير ومن عبد معهما من الأحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة الله عز وجل ، فاتخذهم من بعدهم من أهل الضلالة أرباباً من دون الله ، ونزل فيما يذكر من أمر عيسى عليه الصلاة والسلام ، وأنه يعبد من دون الله ، وعجب الوليد ومن حضر من حجته وخصومته : ( ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون ) . . أي يصدون عن أمرك بذلك . . .

وذكر صاحب الكشاف في تفسيره : " لما قرأ رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] على قريش : ( إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم )امتعضوا من ذلك امتعاضاً شديداً . فقال عبدالله بن الزبعري : يا محمد . أخاصة لنا ولآلهتنا أم لجميع الأمم ? فقال عليه السلام : " هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم " فقال : خصمتك ورب الكعبة ! ألست تزعم أن عيسى ابن مريم نبي ، وتثني عليه خيراً وعلى أمه ? وقد علمت أن النصارى يعبدونهما ? وعزير يعبد ? والملائكة يعبدون ? فإن كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم ! ففرحوا وضحكوا . وسكت النبي [ صلى الله عليه وسلم ] فأنزل الله تعالى : ( إن الذين سبقت لهم منا الحسنى )ونزلت هذه الآية . والمعنى : ولما ضرب عبد الله بن الزبعري عيسى ابن مريم مثلاً ، وجادل رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بعبادة النصارى إياه " إذا قومك " - قريش - من هذا المثل " يصدون " ترتفع لهم جلبة وضجيج ، فرحاً وجذلاً وضحكاً بما سمعوا من إسكات رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بجدله ، كما يرتفع لغط القوم ولجبهم إذا تعبوا بحجة ثم فتحت عليهم . وأما من قرأ " يصدون " بالضم فمن الصدود . أي من أجل هذا المثل يصدون عن الحق ويعرضون عنه . وقيل : من الصديد وهو الجبة . وأنهما لغتان نحو يعكُف ويعكِف ونظائر لهما .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞وَلَمَّا ضُرِبَ ٱبۡنُ مَرۡيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوۡمُكَ مِنۡهُ يَصِدُّونَ} (57)

روي عن ابن عباس وغيره في تفسير هذه الآية ، أنه لما نزلت : { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم ، خلقه من تراب ثم قال له كن ، فيكون } [ آل عمران : 59 ] ونزل مع ذلك ذكر عيسى وحاله وكيف خلق من غير فحل ، قالت فرقة : ما يريد محمد من ذكر عيسى إلا أن نعبده نحن كما عبدت النصارى عيسى ، فهذا كان صدورهم من ضربه مثلاً .

وقرأ نافع وابن عامر والكسائي وأبو جعفر والأعرج والنخعي وأبو رجاء وابن وثاب : «يصُدون » بضم الصاد ، بمعنى : يعرضون . وقرأ الباقون وابن عباس وابن جبير والحسن وعكرمة : «يصِدون » بكسر الصاد ، بمعنى يضحكون ، وأنكر ابن عباس ضم الصاد ، ورويت عن علي بن أبي طالب ، وقال الكسائي : هما لغتان بمعنى واحد ، مثل «يعرُشون ويعرِشون » .