ثم بين - سبحانه - بعد ذلك لونا من ألوان غرور المشركين ، كما بين أحوال بعض الناس فى حالتى السراء والضراء فقال - تعالى - :
{ وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب . . . }
قال القرطبي ما ملخصه : الأمة : اسم مشترك يقال على ثمانية أوجه : فالأمة تكون الجماعة ، كقوله - تعالى - : { وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ الناس . . } والأمة : أيضا أتباع الأنبياء عليهم السلام ، والأمة : الرجل الجامع للخير الذى يقتدى به ، كقوله - تعالى - { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً } والأمة : الدين والملة ، كقوله - تعالى - : { إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ } والأمة : الحين والزمان كقوله - تعالى - : { وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ } والأمة : القامة وهو طول الإِنسان وارتفاعه ، يقال من ذلك : فلان حسن الأمة ، أى القامة ، والأمة : الرجل المنفرد بدينه وحده ، لا يشركه فيه أحد . قال - صلى الله عليه وسلم - " يبعث زيد بن عمرو بن نفيل أمة وحده " والأمة : الأم . يقال : " هذه أمة زيد ، أى أم زيد . . . " والمراد بالأمة هنا : الحين والزمان والمدة .
والمعنى : ولئن أخرنا - بفضلنا وكرمنا - عن هؤلاء المشركين " العذاب " المقتضى لجحودهم لآياتنا ، وتكذيبهم لرسلنا " إلى أمة معدودة " أى : إلى وقت ومعين من الزمان على حساب إرادتنا وحكمتنا : " ليقولن " على سبيل التهكم والاستهزاء ، واستعجال العذاب ، " ما يحبسه " أى : ما الذى جعل هذا العذاب الذى حذرنا منه محمد - صلى لله عليه وسلم - محبوسا عنا ، وغير نازل بنا . .
ولا شك أن قولهم هذا ، يدل على بلوغهم أقصى درجات الجهالة والطغيان ، حيث قابلوا رحمة الله - تعالى - المتمثلة هنا فى تأخير العذاب عنهم ، بالاستهزاء والاستعجال ، ولذا رد الله - تعالى - المتمثلة هنا فى تأخير العذاب عنهم ، بالاستهزاء والاستعجال ، ولذارد الله - تعالى - عليهم بقوله : { أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } أى : ألا إن ذلك العذاب الذى استعجلوه واستخفوا به ، يوم ينزل بهم ، لن يصرفه عنهم صارف ، ولن يدفعه عنهم دافع ، بل سيحيط بهم من كل جانب ، بسبب استهزائهم به وإعراضهم عمن حذرهم منه .
واللام فى قوله { وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب } موظئة للقسم ، وجواب القسم قوله " ليقولن ما يحبسه " .
والأقرب إلى سياق الآية أن يكون المراد بالعذاب هنا : عذاب الاستئصال الدنيوى ، إذ هو الذى استعجلوا نزوله ، أما عذاب الآخرة فقد كانوا منكرين له أصلا ، كما حكى عنهم - سبحانه - فى الآية السابقة فى قوله : { وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الموت لَيَقُولَنَّ الذين كفروا إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } قال الآلوسى : والظاهر بأن المراد العذاب الشامل للكفرة ، ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن المنذر وابن أبى حاتم عن قتادة قال : لما نزل { اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ } قال ناس : إن الساعة قد اقتربت فتناهوا ، فتناهى القوم قليلا ، ثم عادوا إل أعمالهم السوء : فأنزل الله - تعالى -
{ أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } فقال أناس من أهل الضلالة : هذا أمر الله - تعالى - قد أتى ، فتناهى القوم ثم عادوا إلى مكرهم مكر السوء ، فأنزل الله هذه الآية .
وفى قوله - سبحانه - { إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ } إيماء إلى أن تأخير العذاب عنهم ليس لمدة طويلة ، لأن ما يحصره العد : جرت العادة فى أساليب العرب أن يكون قليلا ، ويؤيد ذلك أنه بعد فترة قليلة من الزمان نزل بهم فى غزوة بدر القتل الذى أهلك صناديهم ، والأسر الذى أذل كبرياءهم .
وافتتحت جملة { أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ } بأداة الاستفتاح { ألا } للاهتمام بمضون الخبر ، وللإِشارة إلى تحقيقه ، وإدخال الروع فى قلوبهم .
وعبر بالماضى { حاق } مع أنه لم ينزل بهم بعد ، للإِشارة ، إلى أنه آت لا ريب فيه ، عندما يأذن الله - تعالى - بذلك .
شأنهم في التكذيب بالبعث ، وجهلهم بارتباطه بناموس الكون ، هو شأنهم في مسألة العذاب الدنيوي ، فهم يستعجلونه ويتساءلون عن سبب تأخيره ، إذا ما اقتضت الحكمة الأزلية أن يتأخر عنهم فترة من الوقت : ( ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن : ما يحبسه ؟ ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم ، وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون )
لقد كانت القرون الأولى تهلك بعذاب من عند الله يستأصلها ، بعد أن يأتيهم رسولهم بالخوارق التي يطلبونها ثم يمضون هم في التكذيب . ذلك أنها كانت رسالات مؤقتة لأمة من الناس ، ولجيل واحد من هذه الأمة . والمعجزة كذلك لا يشهدها إلا هذا الجيل ، ولا تبقى لتشاهدها أجيال أخرى لعلها تؤمن بها أكثر مما آمن الجيل الذي شهدها أول مرة .
فأما الرسالة المحمدية فقد كانت خاتمة الرسالات ، ولجميع الأقوام وجميع الأجيال ، وكانت المعجزة التي صاحبتها معجزة غير مادية ، فهي قابلة للبقاء ، قابلة لأن تتدبرها أجيال وأجيال ، وتؤمن بها أجيال وأجيال ، ومن ثم اقتضت الحكمة ألا تؤخذ هذه الأمة بعذاب الاستئصال . وأن يقع العذاب على أفراد منها في وقت معلوم . . وكذلك كان الحال في الأمم الكتابية قبلها من اليهود والنصارى ، فلم يعم فيهم عذاب الاستئصال .
ولكن المشركين في جهلهم بنواميس الله الخاصة بخلق الإنسان على هذا النحو من القدرة على الاختيار والاتجاه ؛ وخلق السماوات والأرض على نحو يسمح له بالعمل والنشاط والبلاء ينكرون البعث . وفي جهلهم بسنن الله في الرسالات والمعجزات والعذاب يتساءلون إذا ما أخر عنهم إلى أمة من السنوات أو الأيام - أي مجموعة منها - ما يحبسه ؟ وما يؤخره ؟ فلا يدركون حكمة الله ولا رحمته . وهو يوم يأتيهم لا يصرف عنهم ، بل يحيط بهم ، جزاء لاستهزائهم الذي يدل عليه سؤالهم واستهتارهم :
ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون .
إن عذاب الله لا تستعجله نفس مؤمنة ولا نفس جادة . وإذا ما أبطأ فهي حكمة ورحمة . ليؤمن من يتهيأ للإيمان .
وفي فترة التأجيل التي صرف الله العذاب فيها عن مشركي قريش ، كم آمن منهم من رجال حسن إسلامهم وأبلوا أحسن البلاء . وكم ولد لكفارهم من ذرية نشأت فيما بعد في الإسلام . . وهذه وتلك بعض الحكم الظاهرة والله يعلم ما بطن . ولكن البشر القاصرين العجولين لا يعلمون .
{ ولئن أخّرنا عنهم العذاب } الموعود . { إلى أمّة معدودة } إلى جماعة من الأوقات قليلة . { ليقولنّ } استهزاء . { ما يحبسه } ما يمنعه من الوقوع . { ألا يوم يأتيهم } كيوم بدر . { ليس مصروفا عنهم } ليس العذاب مدفوعا عنهم ، و{ يوم } منصوب بخير { ليس } مقدم عليه وهو دليل على جواز تقديم خبرها عليها . { وحاق بهم } وأحاط بهم وضع الماضي موضع المستقبل تحقيقا ومبالغة في التهديد . { ما كانوا به يستهزئون } أي العذاب الذي كانوا به يستعجلون ، فوضع { يستهزئون } موضع يستعجلون لأن استعجالهم كان استهزاء .
{ ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما سحبسه }
مناسبته لما قبله أن في كليهما وصف فنّ من أفانين عناد المشركين وتهكمهم بالدعوة الإسلامية ، فإذا خبّرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالبعث وأنّ شركهم سببٌ لتعذيبهم جعلوا كلامه سحراً ، وإذا أنذرهم بعقوبة العذاب على الإشراك استعجلوه ، فإذا تأخّر عنهم إلى أجل اقتضته الحكمة الربّانيّة استفهموا عن سبب حبسه عنهم استفهام تَهكم ظناً أن تأخره عجز .
واللام موطئة للقسم . وجملة { ليقولن مَا يَحبسه } جواب القسم مغنية من جواب الشرط .
والأمّة : حقيقتها الجماعة الكثيرة من النّاس الذين أمْرُهُمْ واحد ، وتطلق على المُدة كأنهم رَاعَوا أنّها الأمد الذي يظهر فيه جيل فأطلقت على مطلق المدة ، أي بعد مدة .
و { معدودة } معناه مقدرة ، أي مؤجلة . وفيه إيماء إلى أنّها ليست مديدة لأنّه شاع في كلام العرب إطلاق العَدّ والحساب ونحوهما على التّقليل ، لأن الشيء القليل يمكن ضبطه بالعدد ، ولذلك يقولون في عكسه : بغير حساب ، مثل { والله يرزق من يشاء بغير حساب } [ البقرة : 212 ] .
والحبس : إلزام الشيء مكاناً لا يتجاوزه . ولذلك يستعمل في معنى المنع كما هنا ، أي ما يمنع أن يصل إلينا ويحل بنا وهم يريدون التهكم .
{ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } .
هذه الجملة واقعة موقع الجواب عن كلامهم إذ يقولون ما يحبس عنا العذاب ، فلذلك فصلت كما تفصل المحاورة . وهذا تهديد وتخويف بأنّه لا يصرف عنهم ولكنه مؤخر .
وافتُتح الكلام بحرف التّنبيه للاهتمام بالخبر لتحقيقه وإدخال الروع في ضمائرهم .
وتقديم الظرف للإيماء بأنّ إتيان العذاب لا شك فيه حتى أنه يوقّت بوقت .
والمعنى : أنه حالّ بهم حلولاً لا مخلص منه بحال .
وجملة { وحَاقَ بهم } في موضع الحال أو معطوفة على خبر { ليس } .
وصيغة المضي مستعملة في معنى التحقق ، وهذا عذاب القتل يوم بدر .
وماصدق { ما كانوا به يستهزئون } هو العذاب ، وباء { به } سببية أي بسبب ذكره فإن ذكر العذاب كان سبباً لاستهزائهم حين توعدهم به النّبيء صلى الله عليه وسلم .
والإتيان بالموصول في موضع الضمير للإيماء إلى أن استهزاءهم كان من أسباب غضب الله عليهم . وتقديره إحاطة العذاب بهم بحيث لا يجدون منه مخلصاً .