التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسۡلِمُونَ} (102)

ثم أمر الله - تعالى - المؤمنين بمجامع الطاعات ومعاقد الخيرات ، فقال - تعالى - { ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ } .

وقوله { حَقَّ تُقَاتِهِ } التقاة مصدر وهو من باب إضافة الصفة غلى موصوفها إذ الأصل : اتقوا الله التقاة الحق .

أى : الثابتة ، كقولك ضربت زيدا أشد الضرب تريد الضرب الشديد وقيل التقاة اسم مصدر من اتقى كالتؤدة من اتأد .

والمعنى " بالغو أيها المؤمنون فى التمسك بتقوى الله ومراقبته وخشيته حتى لا تتركوا منها شيئاً ولا تكونن على ملة سوى ملة الإسلام إذا أردككم الموت ، وإنما عليكم أن تستمروا على دينكم القويم حتى يأتيكم الأجل الذى لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون .

وقد ساق ابن كثير بعض الآثار الى وردت عن بعض السلف فى تفسير هذه الآية الكريمة فمن ذلك ما روى عن عبد الله بن مسعود أنه قال فى معنى الآية { اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ } : أن يطاع فلا يُعصى . وأن يُذكر فلا يُنسى ، وأن يُشكر فلا يُكفر " .

وروى عن أنس أنه قال : لا يتقى الله العبد حق تقاته حتى يُخزن لسانه .

وقوله { وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ } هو نهى فى لصورة عن موتهم إلا على هذه الحالة والمراد دوامهم على الإسلام وذلك أن الموت لا بد منه فكأنه قيل : داوموا على الإسلام إلى أن يدرككم الموت فتموتوا على هذه الملة السمحاء وهى ملة الإسلام ، لكى تفوزوا برضا الله وحسن ثوابه .

والجملة الكريمة فى محل نصب على الحال من ضمير الجماعة فى { اتقوا } .

والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال : أى لا تموتن على حالة من الأحوال إلى على هذه الحالة الحسنة التى هى حالة المداومة على التمسك بالإسلام وتعاليمه وآدابه .

وقال صاحب الكشاف : قوله { وَلاَ تَمُوتُنَّ } معناه ولا تكونن على حال سوى حال الإسلام إذا أدرككم الموت ، وذلك كأن تقول لمن تستعين به على لقاء العدو : لا تأتنى إلا وأنت على حصان ، فأنت لا تنهاه عن الإتيان ولكنك تنهاه عن خلاف الحال التى شرطت عليه فى وقت الإتيان " .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسۡلِمُونَ} (102)

93

وبعد هذا التحذير من التلقي عن أهل الكتاب وطاعتهم واتباعهم ينادي الله الجماعة المسلمة ويوجهها إلى القاعدتين الأساسيتين اللتين تقوم عليهما حياتها ومنهجها . واللتين لا بد منهما لكي تستطيع أن تضطلع بالأمانة الضخمة التي ناطها الله بها ، وأخرجها للوجود من أجلها . . هاتان القاعدتان المتلازمتان هما : الإيمان . والأخوة . . الإيمان بالله وتقواه ومراقبته في كل لحظة من لحظات الحياة . والأخوة في الله ، تلك التي تجعل من الجماعة المسلمة بنية حية قوية صامدة ، قادرة على أداء دورها العظيم في الحياة البشرية ، وفي التاريخ الإنساني : دور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وإقامة الحياة على أساس المعروف وتطهيرها من لوثة المنكر :

( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون . واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ، واذكروا نعمة الله عليكم : إذ كنتم أعداء ، فألف بين قلوبكم ، فأصبحتم بنعمته إخوانا . وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها . كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون . ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ، ويأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ، وأولئك هم المفلحون . ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات ، وأولئك لهم عذاب عظيم . يوم تبيض وجوه وتسود وجوه . فأما الذين اسودت وجوههم : أكفرتم بعد إيمانكم ؟ فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون . وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون ) . .

إنهما ركيزتان تقوم عليهما الجماعة المسلمة ، وتؤدي بهما دورها الشاق العظيم . فإذا انهارت واحدة منهما لم تكن هناك جماعة مسلمة ، ولم يكن هنالك دور لها تؤديه :

ركيزة الإيمان والتقوى أولا . . التقوى التي تبلغ أن توفي بحق الله الجليل . . التقوى الدائمة اليقظة التي لا تغفل ولا تفتر لحظة من لحظات العمر حتى يبلغ الكتاب أجله :

( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ) . .

اتقوا الله - كما يحق له أن يتقى - وهي هكذا بدون تحديد تدع القلب مجتهدا في بلوغها كما يتصورها وكما يطيقها . وكلما أوغل القلب في هذا الطريق تكشفت له آفاق ، وجدت له أشواق . وكلما اقترب بتقواه من الله ، تيقظ شوقه إلى مقام أرفع مما بلغ ، وإلى مرتبة وراء ما ارتقى . وتطلع إلى المقام الذي يستيقظ فيه قلبه فلا ينام !

( ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) . .

والموت غيب لا يدري إنسان متى يدركه . فمن أراد ألا يموت إلا مسلما فسبيله أن يكون منذ اللحظة مسلما ، وأن يكون في كل لحظة مسلما . وذكر الإسلام بعد التقوى يشي بمعناه الواسع : الاستسلام . الاستسلام لله ، طاعة له ، واتباعا لمنهجه ، واحتكاما إلى كتابه . وهو المعنى الذي تقرره السورة كلها في كل موضع منها ، على نحو ما أسلفنا .

هذه هي الركيزة الأولى التي تقوم عليها الجماعة المسلمة لتحقق وجودها وتؤدي دورها . إذ أنه بدون هذه الركيزة يكون كل تجمع تجمعا جاهليا . ولا يكون هناك منهج لله تتجمع عليه أمة ، إنما تكون هناك مناهج جاهلية . ولا تكون هناك قيادة راشدة في الأرض للبشرية ، إنما تكون القيادة للجاهلية .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسۡلِمُونَ} (102)

{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته } حق تقواه وما يجب منها ، وهو استفراغ الوسع في القيام بالواجب والاجتناب عن المحارم كقوله : { فاتقوا الله ما استطعتم } وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه : هو أن يطيع فلا يعصي ، ويشكر فلا يكفر ، ويذكر فلا ينسى . وقيل هو أن تنزه الطاعة عن الالتفات إليها وعن توقع المجازاة عليها . وفي هذا الأمر تأكيد للنهي عن طاعة أهل الكتاب ، وأصل تقاة وقية فقلبت واوها المضمومة تاء كما في تؤده وتخمه والياء ألفا . { ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } أي ولا تكونن على حال سوى حال الإسلام إذا أدرككم الموت ، فإن النهي عن المقيد بحال أو غيرها قد يتوجه بالذات نحو الفعل تارة والقيد أخرى وقد يتوجه نحو المجموع دونهما وكذلك النفي .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسۡلِمُونَ} (102)

{ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ وَاعتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ }

الخطاب بهذه الآية يعم جميع المؤمنين ، والمقصود به وقت نزولها الأوس والخزرج الذين شجر بينهم بسعاية شاس بن قيس ما شجر ، و «تقاة » مصدر وزنة فعلة ، أصله تقية ، وقد تقدم قوله : { إلا أن تتقوا منهم تقاة }{[3378]} ، ويصح أن تكون التقاة في هذه الآية جمع فاعل وإن كان لم يتصرف منه فيكون كرماة ورام ، أو يكون جمع تقي إذ فعيل وفاعل بمنزلة ، والمعنى على هذا : اتقوا الله كما يحق أن يكون متقوه المختصون به ، ولذلك أضيفوا إلى ضمير الله تعالى ، واختلف العلماء في قوله : { حق تقاته } فقالت فرقة : نزلت الآية على عموم لفظها ، وألزمت الأمة أن تتقي الله غاية التقوى حتى لا يقع إخلال في شيء من الأشياء ، ثم إن الله نسخ ذلك عن الأمة بقوله تعالى : { فاتقوا الله ما استطعتم }{[3379]} وبقوله : { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها }{[3380]} قال ذلك قتادة والسدي والربيع بن أنس وابن زيد وغيرهم ، وقالت جماعة من أهل العلم : لا نسخ في شيء من هذا ، وهذه الآيات متفقات ، فمعنى هذه : اتقوا الله حقَّ تقاته فيما استطعتم ، وذلك أن { حق تقاته } هو بحسب أوامره ونواهيه ، وقد جعل تعالى الدين يسراً ، وهذا هو القول الصحيح ، وألا يعصي ابن آدم جملة لا في صغيرة ولا في كبيرة ، وألا يفتر في العبادة أمر متعذر في جبلة البشر ، ولو كلف الله هذا لكان تكليف ما لا يطاق ، ولم يلتزم ذلك أحد في تأويل هذه الآية ، وإنما عبروا في تفسير هذه الآية بأن قال ابن مسعود رضي الله عنه : { حق تقاته } : هو أن يطاع فلا يعصى ، ويشكر فلا يكفر ، ويذكر فلا ينسى{[3381]} ، وكذلك عبر الربيع بن خيثم وقتادة والحسن ، وقال ابن عباس رضي عنهما : معنى قوله ، { واتقوا الله حق تقاته } : جاهدوا في الله حق جهاده ولا نسخ في الآية ، وقال طاوس في معنى قوله تعالى : { اتقوا الله حق تقاته } : يقول تعالى ، إن لم تتقوه ولم تستطيعوا ذلك فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ، وقوله تعالى : { ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } معناه : دوموا على الإسلام حتى يوافيكم الموت وأنتم عليه . هكذا هو وجه الأمر في المعنى ، وجاءت العبارة على هذا النظم الرائق الوجيز ، ونظيره ما حكى سيبويه من قولهم : لا أرينك هاهنا ، وإنما المراد : لا تكن هاهنا فتكون رؤيتي لك ، و { مسلمون } في هذه الآية ، هو المعنى الجامع في التصديق والأعمال ، وهو الدين عند الله وهو الذي بني على خمس .


[3378]:- من الآية (28) من سورة آل عمران.
[3379]:- من الآية (16) من سورة التغابن.
[3380]:- من الآية (286) من سورة البقرة.
[3381]:- أخرجه عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم، وصححه، وابن مردويه- عن ابن مسعود، وقد رواه الحاكم وصححه، وابن مردويه من وجه آخر عنه مرفوعا بدون قوله: (ويشكر فلا يكفر) (تفسير الشوكاني 1/336. وابن كثير 1/387، ومجمع الزوائد 6/326).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسۡلِمُونَ} (102)

انتقل مِن تحذير المخاطبين من الانخداع لوساوس بعض أهل الكتاب ، إلى تحريضهم على تمام التَّقوى ، لأنّ في ذلك زيادة صلاح لهم ورسوخاً لإيمانهم ، وهو خطاب لأصحاب محمَّد صلى الله عليه وسلم ويَسري إلى جميع من يكون بعدهم .

وهذه الآية أصل عظيم من أصول الأخلاق الإسلامية . والتَّقوى تقدّم تفسيرها عند قوله تعالى : { هدى للمتقين } . وحاصلها امتثال الأمر ، واجتناب المنهي عنه ، في الأعمال الظَّاهرة ، والنَّوايا الباطنة . وحقّ التقوى هو أن لا يكون فيها تقصير ، وتظاهر بما ليس من عمله ، وذلك هو معنى قوله تعالى : { فاتَّقوا الله ما استطعتم } [ التغابن : 16 ] لأنّ الاستطاعة هي القدرة ، والتَّقوى مقدورة للنَّاس . وبذلك لم يكن تعارض بين الآيتين ، ولا نسخ ، وقيل : هاته منسوخة بقوله تعالى : { فاتقوا اللَّه ما استطعتم } لأنّ هاته دلّت على تقوى كاملة كما فسَّرها ابن مسعود : أن يطاع فلا يعصى ، ويُشكر فلا يكفر ، ويذكر فلا يُنْسى ، ورووا أنّ هذه الآية لمَّا نزلت قالوا : « يا رسول الله من يَقوىَ لهذا » فنزلت قوله تعالى : { فاتَّقوا الله ما استطعتم } فنسَخَ هذه بناء على أنّ الأمر في الآيتين للوجوب ، وعلى اختلاف المراد من التقويين . والحقّ أنّ هذا بيان لا نسخ ، كما حقَّقه المحقِّقون ، ولكن شاع عند المتقدّمين إطلاق النَّسخ على ما يشمل البيان .

والتُّقاة اسمُ مصدر . اتَّقى وأصله وُقَيَة ثمّ وُقَاة ثُمّ أبدلت الواو تاء تبعاً لإبدالها في الافتعال إبدالاً قصدوا منه الإدغام . كما تقدّم في قوله تعالى : { إلا أن تتقوا منهم تقاة } [ آل عمران : 28 ] .

وقوله : ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون نهي عن أن يموتوا على حالة في الدِّين إلاّ على حالة الإسلام فمحطّ النَّهي هو القيد : أعني المستثنى منه المحذوفَ والمستثنى وهو جملة الحال ، لأنَّها استثناء من أحوال ، وهذا المركّب مستعمل في غير معناه لأنَّه مستعمل في النَّهي عن مفارقة الدّين بالإسلام مدّة الحياة ، وهو مجاز تمثيلي علاقته اللزوم ، لما شاع بين النَّاس من أنّ ساعة الموت أمر غير معلوم كما قال الصدّيق :

كُلّ امرىءٍ مصبَّح في أهلِهِ *** والموتُ أدنى من شراك نَعْلِه

فالنهي عن الموت على غير الإسلام يستلزم النَّهي عن مفارقة الإسلام في سائر أحيان الحياة ، ولو كان المراد به معناه الأصلي ، لكان ترخيصاً في مفارقة الإسلام إلاّ عند حضور الموت ، وهو معنى فاسد وقد تقدّم ذلك في قوله تعالى : { ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } .