ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة ، ببيان ما كان عليه الكافرون من كراهية للنبى صلى الله عليه وسلم ومن حقد عليه ، فقال - تعالى - : { وَإِن يَكَادُ الذين كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُواْ الذكر وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ . وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ } .
وقولهك { لَيُزْلِقُونَكَ } من الزَّلَق - بفتحتين - ، وهو تزحزح الإِنسان عن مكانه ، وقد يؤدى به هذا التزحزح إلى السقوط على الأرض ، يقال : زَلَقه يَزْلِقه ، و أزْلقه يُزْلِقه إزلافا ، إذا نحاه وأبعده عن مكانه ، واللام فيه للابتداء .
قال الشوكانى : قرأ الجمهور : { لَيُزْلِقُونَكَ } بضم الياء من أزلقه ، أى : أزل رجله . .
وقرأ نافع وأهل المدينة { لَيُزْلِقُونَكَ } - بفتح الياء - من زلق عن موضعه .
و { إن } هى المخففة من الثقيلة ، - واسمها ضمير الشأن محذوف ، و " لما " ظرفية منصوبة بيزلقونك . أو هى حرف ، وجوابها محذوف لدلالة ما قبلها عليه . أى : لما سمعوا الذكر كادوا يزلقونك . .
أى : وإن يكاد الذين كفروا ليهلكونك ، أو ليزلون قدمك عن موضعها ، أو ليصرعونك بأبصارهم من شدة نظرهم إليك شزرا ، بعيون ملؤها العداوة والبغضاء حين سمعوا الذكر ، وهو القرآن الكريم . .
{ وَيَقُولُونَ } على سبيل البغض لك { إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ } أى : إن الرسول صلى الله عليه وسلم لمن الأشخاض الذين ذهبت عقولهم . .
{ وَمَا هُوَ } أى : القرآن الذى أنزلناه عليك { إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ } أى : تذكير بالله - تعالى - وبدينه وبهداياته . . وشرف لهم وللعالمين جميعا .
وجاء قوله { يَكَادُ } بصيغة المضارع ، للإِشارة إلى استمرار ذلك فى المستقبل .
وجاء قوله { سَمِعُواْ } بصيغة الماضى ، لوقوعه مع { لما } وللإِشعار بأنهم قد حصل منهم هذا القول السَّيئ .
وجاء قوله { لَيُزْلِقُونَكَ } بلام التأكيد للإشعار بتصميم على هذه الكراهية ، وحرصهم عليها .
وقوله - سبحانه - : { وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ } رد على أكاذيبهم وإبطال لأقوالهم الزائفة ، حيث وصفوه صلى الله عليه وسلم بالجنون لأنه إذا ما كان ما جاء به شرف وموعظة وهداية وتذكير بالخير للناس . . لم يكن معقولا أن يكون مبلغة مجنونا .
ومنهم من فسر قوله - تعالى - { لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ . . . } أى : ليحدسونك عن طريق النظر الشديد بعيونهم . .
قال الإِمام ابن كثير : وقوله : { وَإِن يَكَادُ الذين كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ } قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما : { لَيُزْلِقُونَكَ } : لينقذونك بأبصارهم ، أى : لَيعَينوك بأبصارهم ، بمعنى ليحسدونك لبغضهم إياك ، لولا وقاية الله لك ، وحمايتك منهم .
وفى هذه الآية دليل على أن العين إصابتها وتأثيرها حق بأمر الله - عز وجل - ، كما وردت بذلك الأحاديث المروية من طرق متعددة كثيرة .
ثم ساق - رحمه الله - جملة من الأحاديث فى هذا المعنى ، منها ما رواه أبو داود فى سننه ، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا رقية إلا من عين أو حُمَه - أى : سم - ، أودم لا يرقأ " .
وروى الإمام مسلم فى صحيحه عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " العين حق ، ولو كان شئ سابَق القدر سَبَقَت العين " .
وعن ابن عباس - أيضا - قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين فيقول : " أعيذ كما بكلمات الله التامة ، من كل شيطان وهامة - والهامة كل ذات سم يقتل - ، ومن كل عين لامة " " .
وعن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " العين حق حتى لتورد الرجل القبر ، والجمل القدر ، وإن أكثر هلاك أمتى فى العين " .
وبعد : فهذا تفسير محرر لسورة " ن " نسأل الله - تعالى - أن يجعله خالصا لوجهه ، ونافعا لعباده .
وفي الختام يرسم مشهدا للكافرين وهم يتلقون الدعوة من الرسول الكريم ، في غيظ عنيف ، وحسد عميق ينسكب في نظرات مسمومة قاتلة يوجهونها إليه ، ويصفها القرآن بما لا يزيد عليه :
( وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر . ويقولون : إنه لمجنون ) .
فهذه النظرات تكاد تؤثر في أقدام الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] فتجعلها تزل وتزلق وتفقد توازنها على الأرض وثباتها ! وهو تعبير فائق عما تحمله هذه النظرات من غيظ وحنق وشر وحسد ونقمة وضغن ، وحمى وسم . . مصحوبة هذه النظرات المسمومة المحمومة بالسب القبيح ، والشتم البذيء ، والافتراء الذميم : ( ويقولون : إنه لمجنون ) . .
وهو مشهد تلتقطه الريشة المبدعة وتسجله من مشاهد الدعوة العامة في مكة . فهو لا يكون إلا في حلقة عامة بين كبار المعاندين المجرمين ، الذين ينبعث من قلوبهم وفي نظراتهم كل هذا الحقد الذميم المحموم !
وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم إن هي المخففة واللام دليلها والمعنى إنهم لشدة عداوتهم ينظرون إليك شزرا بحيث يكادون يزلون قدمك أو يهلكونك من قولهم نظر إلي نظرا يكاد يصرعني أي لو أمكنه بنظره الصرع لفعله أو أنهم يكادون يصيبونك بالعين إذ روي أنه كان في بني أسد عيانون فأراد بعضهم أن يعين رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت وفي الحديث إن العين لتدخل الرجل القبر والجمل القدر ولعله يكون من خصائص بعض النفوس وقرأ نافع ليزلقونك من زلقته فزلق كحزنته فحزن وقرئ ليزهقونك أي ليهلكونك لما سمعوا الذكر أي القرآن أي ينبعث عند سماعه بعضهم وحسدهم ويقولون إنه لمجنون حيرة في أمره وتنفيرا عنه .
ثم أخبر تعالى نبيه بحال نظر الكفار إليهم ، وأنهم يكادون من الغيظ والعداوة ، يزلقونه فيذهبون قدمه من مكانها ويسقطونه . وقرأ جمهور القراء : «يُزلقونك » بضم الياء من أزلق ، وقرأ نافع وحده : «يَزلقونك » . بفتح الياء من زلقت الرجل ، يقال : زلِق الرجل بكسر اللام وزلَقته بفتحها مثل : حزن وحزنته وشترت العين بكسر التاء وشترتها{[11272]} ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود : «ليزهقونك » بالهاء ، وروى النخعي أن في قراءة ابن مسعود : «لينفدونك »{[11273]} ، وفي هذا المعنى الذي في نظرهم من الغيظ والعداوة قول الشاعر : [ الكامل ]
يتقارضون إذا التقوا في مجلس . . . نظراً يزيل مواطئ الأقدام{[11274]}
وذهب قوم من المفسرين إلى أن المعنى : يأخذونك بالعين ، وذكر أن الدفع بالعين كان في بني أسد ، قال ابن الكلبي : كان رجل يتجوع ثلاثة أيام لا يتكلم على شيء إلا أصابه بالعين ، فسأله الكفار أن يصيب النبي عليه السلام ، فأجابهم إلى ذلك ، ولكن عصم الله تعالى نبيه ، قال الزجاج : كانت العرب إذا أراد أحدهم أن يعتان{[11275]} شيئاً ، تجوع ثلاثة أيام ، وقال الحسن : دواء من أصابه العين أن يقرأ هذه الآية ، و { الذكر } في الآية القرآن .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.