التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُۥ نَاجٖ مِّنۡهُمَا ٱذۡكُرۡنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَىٰهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ ذِكۡرَ رَبِّهِۦ فَلَبِثَ فِي ٱلسِّجۡنِ بِضۡعَ سِنِينَ} (42)

ثم ختم يوسف - عليه السلام - حديثه مع صاحبيه في السجن ، بأن أوصى الذي سينجوا منهما بوصية حكاها القرآن في قوله : { وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذكرني عِندَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشيطان ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السجن بِضْعَ سِنِينَ } .

أى : " وقال " يوسف - عليه السلام - للفتى الذي اعتقد أنه سينجو منهما وهو ساقى الملك ، أيها الساقى بعد أن تخرج من السجن وتعود إلى عملك عند سيدك الملك ، اذكر حقيقة حالى عنده ، وأنى سجين مظلوم .

ولكن الساقى بعد أن عاد إلى عمله عند الملك ، لم ينفذ الوصية ، لأن الشيطان أنساه ما قاله له يوسف ، فكانت النتيجة أن لبث يوسف - عليه السلام - في السجن مظلوما بعض سنين .

والبضع - بالكسر - من ثلاث إلى تسع ، وهو مأخذو من البضع - بالفتح - بمعنى القطع والشق . يقال : بضعت الشئ أى : قطعته .

وقد اختلفوا في المدة الى قضاها يوسف في السجن على أقوال من أشهرها أنه لبث فيه سبع سنين .

وعلى هذا التفسير يكون الضمير في " فأنساه " يعود إلى ساقى الملك ، ويكون المراد بربه أى : سيده ملك مصر .

وهناك من يرى أن الضمير في قوله " فأنساه " يعود إلى يوسف - عليه السلام - وأن المراد بالرب عننا : الخالق - عز وجل - ، وعليه يكون المعنى .

وقال يوسف - عليه السلام - للفتى الذي اعتقد نجاته وهو ساقى الملك : اذكر مظلمتى عند سيدك الملك عندما تعود إليه . واذكر له إحسانى لتفسير الرؤى . .

وقوله { فَأَنْسَاهُ الشيطان ذِكْرَ رَبِّهِ } أى : فأنسى الشيطان يوسف أن يذكر حاجته لله وحد ، ولا يذركها للساقى ليبلغها إلى الملك .

فكانت النتيجة أن لبث يوسف في السجن بضع سنين بسبب هذا الاعتماد على المخلوق ؟

والذى يبدو لنا أن التفسير الأول أقرب إلى الصواب ، لأنه هو الظاهر من معنى الآية الكريمة ، ولأن قوله - تعالى - بعد ذلك { وَقَالَ الذي نَجَا مِنْهُمَا وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ .

. . } يدل دلالة واضحة على أن الضمير في قوله " فأنساه " يعود إلى ساقى الملك ، وأن المراد بربه أى سيده .

وقد علق الإِمام الرازى على هذه الآية تعليقا يشعر بترجيحه للرأى الثانى فقال ما ملخصه : " واعلم أن الاستعانة بالناس في دفع الظلم جائزة في الشريعة ، إلا أن حسنات الأبرار سيئات المقربين ، فهذا وإن كان جائزا لعامة الخلق ، إلا أن الأولى بالصديقين أن يقطعوا نظرهم عن الأسباب بالكلية ، وألا يشتغلوا إلا بمسبب الأسباب . .

ثم قال والذى جربته من أول عمري إلى آخره أ الإِنسان كلما عول في أمر من الأمور على غير الله ، صار ذلك سببا إلى البلاء وإلى المحنة . . وإذا عول العبد على الله ولم يرجع إلى أحد من الخلق حصل ذلك المطلوب على أحسن الوجوه ، فهذه التجربة قد استمرت لى من أول عمرى إلى هذا الوقت الذي بعث فيه السابعة والخمسين من عمرى .

ثم قال : واعلم أن الحق هو قول من قال إن الضمير في قوله : { فَأَنْسَاهُ الشيطان ذِكْرَ رَبِّهِ } راجع إلى يوسف . . والمعنى : أن الشيطان أنسى يوسف أن يذكر به وخالقه . .

ونحن مع احترامنا لرأى الفخر الرازى ، إلا أننا ما زلنا نرى أن عودة الضمير في قوله " فأنساه " إلى الساقى الذي ظن يوسف أنه هو الناجى من العقوبة ، أولى لما سبق أن ذكرناه .

قال ابن كثير : وقوله { اذكرني عِندَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشيطان ذِكْرَ رَبِّهِ . . . }

أى : " قال يوسف اذكر قصتى عند ربك وهو الملك ، فنسى ذلك الموصى أن يذكر مولاه بذلك ، وكان نسيانه من جملة مكايد الشيطان . . هذا هو الصواب أن الضمير في قوله : " فأنساه " . . عائد على الناجى كما قال مجاهد ومحمد بن إسحاق وغير واحد . .

وإلى هنا تكون الآيات الكريمة قد قصت علينا بأسلوبها المشوق الحكيم جابنا من حياة يوسف - عليه السلام - في السجن فماذا كان بعد ذلك ؟

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُۥ نَاجٖ مِّنۡهُمَا ٱذۡكُرۡنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَىٰهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ ذِكۡرَ رَبِّهِۦ فَلَبِثَ فِي ٱلسِّجۡنِ بِضۡعَ سِنِينَ} (42)

35

وأحب يوسف السجين البريء ، الذي أمر الملك بسجنه دون تحر ودون بحث ، إلا ما نقله إليه بعض حاشيته من وشاية لعلهم صوروا له فيها حادث امرأة العزيز وحادث النسوة تصويرا مقلوبا ، كما يقع عادة في مثل هذه الأوساط . . أحب يوسف أن يبلغ أمره إلى الملك ليفحص عن الأمر :

( وقال للذي ظن أنه ناج منهما : اذكرني عند ربك ) . .

اذكر حالي ووضعي وحقيقتي عند سيدك وحاكمك الذي تدين بشرعه وتخضع لحكمه ، فهو بهذا ربك . فالرب هو السيد والحاكم والقاهر والمشرع . . وفي هذا توكيد لمعنى الربوبية في المصطلح الإسلامي . ومما يلاحظ أن ملوك الرعاة لم يكونوا يدعون الربوبية قولا كالفراعنة ، ولم يكونوا ينتسبون إلى الإله أو الآلهة كالفراعنة . ولم يكن لهم من مظاهر الربوبية إلا الحاكمية وهي نص في معنى الربوبية . .

وهنا يسقط السياق أن التأويل قد تحقق ، وأن الأمر قد قضي على ما أوله يوسف . ويترك هنا فجوة ، نعرف منها أن هذا كله قد كان . ولكن الذي ظن يوسف أنه ناج فنجا فعلا لم ينفذ الوصية ، ذلك أنه نسي الدرس الذي لقنه له يوسف ، ونسي ذكر ربه في زحمة حياة القصر وملهياتها وقد عاد إليها ، فنسي يوسف وأمره كله . .

( فأنساه الشيطان ذكر ربه ) . .

( فلبث في السجن بضع سنين ) . .

والضمير الأخير في لبث عائد على يوسف . وقد شاء ربه أن يعلمه كيف يقطع الأسباب كلها ويستمسك بسببه وحده ، فلم يجعل قضاء حاجته على يد عبد ولا سبب يرتبط بعبد . وكان هذا من اصطفائه وإكرامه .

إن عباد الله المخلصين يتبغي أن يخلصوا له سبحانه ، وأن يدعوا له وحده قيادهم ، ويدعوا له سبحانه تنقيل خطاهم . وحين يعجزون بضعفهم البشري في أول الأمر عن اختيار هذا السلوك ، يتفضل الله سبحانه فيقهرهم عليه حتى يعرفوه ويتذوقوه ويلتزموه بعد ذلك طاعة ورضى وحبا وشوقا . . فيتم عليهم فضله بهذا كله . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُۥ نَاجٖ مِّنۡهُمَا ٱذۡكُرۡنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَىٰهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ ذِكۡرَ رَبِّهِۦ فَلَبِثَ فِي ٱلسِّجۡنِ بِضۡعَ سِنِينَ} (42)

لما ظن{[15186]} يوسف ، عليه السلام ، نجاة أحِدهما - وهو الساقي - قال له يوسف خفية عن الآخر والله أعلم ، لئلا يشعره أنه المصلوب قال له : { اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ } يقول : اذكر قصتي عند ربك{[15187]} - وهو الملك - فنسى ذلك الموصَى أن يُذَكِّر مولاه بذلك ، وكان من جملة مكايد الشيطان ، لئلا يطلع نبي الله من السجن .

هذا هو الصواب أن الضمير في قوله : { فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ } عائد على الناجي ، كما قال مجاهد ، ومحمد بن إسحاق وغير واحد . ويقال : إن الضمير عائد على يوسف ، عليه السلام ، رواه ابن جرير ، عن ابن عباس ، ومجاهد أيضا ، وعِكْرِمة ، وغيرهم . وأسند ابن جرير هاهنا حديثا فقال :

حدثنا ابن وَكِيع ، حدثنا عَمْرو بن محمد ، عن إبراهيم بن يزيد{[15188]} عن عمرو بن دينار ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لو لم يقل - يعني : يوسف - الكلمة التي قال : ما لبث في السجن طول ما لبث . حيث يبتغي الفرج من عند غير الله " {[15189]} .

وهذا الحديث ضعيف جدا ؛ لأن سفيان بن وَكِيع ضعيف ، وإبراهيم بن يزيد - هو الخُوزي - أضعف منه أيضا . وقد رُوي عن الحسن وقتادة مرسلا عن كل منهما ، وهذه المرسَلات هاهنا لا تقبل لو قبل المرسل من حيث هو في غير هذا الموطن ، والله أعلم .

وأما " البضع " ، فقال مجاهد وقتادة : هو ما بين الثلاث إلى التسع . وقال وهب بن مُنَبَّه : مكث أيوب في البلاء سبعًا ويوسف في السجن سبعًا ، وعذاب{[15190]} بختنصر سبعا .

وقال الضحاك ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما : فلبث في السجن بضع سنين قال : ثنتا{[15191]} عشرة سنة . وقال الضحاك : أربع عشرة سنة .


[15186]:- في ت ، أ : "علم".
[15187]:- في ت ، أ : "الملك".
[15188]:- في ت : "عن يزيد".
[15189]:- تفسير الطبري (16/112).
[15190]:- في ت ، أ : "وعذب".
[15191]:- في ت ، أ : "ثنتى".
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُۥ نَاجٖ مِّنۡهُمَا ٱذۡكُرۡنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَىٰهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ ذِكۡرَ رَبِّهِۦ فَلَبِثَ فِي ٱلسِّجۡنِ بِضۡعَ سِنِينَ} (42)

قال يوسف عليه السّلام للذي ظن نجاته من الفتيين وهو الساقي . والظن هنا مستعمل في القريب من القطع لأنه لا يشك في صحة تعبيره الرؤيا . وأراد بذكره ذكر قضيته ومظلمته ، أي اذكرني لربك ، أي سيدك . وأراد بربه ملك مصر .

وضميرا { فأنساه } و { ربه } يحتملان العود إلى { الذي } ، أي أنسى الشيطان الذي نجا أن يَذكره لربه ، فالذكر الثاني هو الذكر الأول . ويحتمل أن يعود الضميران إلى ما عاد إليه ضمير { وقال } أي يوسف عليه السّلام أنساه الشيطان ذكر الله ، فالذكر الثاني غير الذكر الأول . ولعل كلا الاحتمالين مراد ، وهو من بديع الإيجاز . وذلك أن نسيان يوسف عليه السّلام أن يَسأل الله إلهام الملِك تذكر شأنه كان من إلقاء الشيطان في أمنيته ، وكان ذلك سبباً إلهياً في نسيان الساقي تذكير الملك ، وكان ذلك عتاباً إلهياً ليوسف عليه السّلام على اشتغاله بعَون العباد دون استعانة ربه على خلاصه .

ولعل في إيراد هذا الكلام على هذا التوْجيه تلطفاً في الخبر عن يوسف عليه السّلام ، لأن الكلام الموجه في المعاني الموجهة ألطف من الصريح .

والبضع : من الثلاث إلى التسع .

وفيما حكاه القرآن عن حال سجنهم ما يُنبىء على أن السجن لم يكن مضبوطاً بسجل يذكر فيه أسماء المساجين ، وأسبابُ سجنهم ، والمدةُ المسجون إليها ، ولا كان من وزعة السجون ولا ممن فوقهم من يتعهّد أسباب السجن ويفتقد أمر المساجين ويرفع إلى الملك في يوم من الأسبوع أو من العام . وهذا من الإهمال والتهاون بحقوق الناس وقد أبطله الإسلام ، فإن من الشريعة أن ينظر القاضي أول ما ينظر فيه كلّ يوم أمرَ المساجين .